* سمير العيطة
بينما تنظر محكمة العدل الدوليّة في اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعيّة، احتفى المنتدى الاقتصادي العالمي (منتدى دافوس) بالرئيس الإسرائيلي وبقادة دول تساهم في هذه الجريمة. وقد تحدّث هؤلاء القادة ونظراؤهم في دولٍ أخرى ومديرو الشركات الكبرى عن أشياء كثيرة، بينما غاب عنهم واقع أنّ الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تؤكّدان أنّ سدس سكّان العالم وثلث الذين ينضوون في حالة الفقر المدقع يعيشون اليوم في دولٍ “هشّة”.
تعبير “الهشاشة” هذا يعني أنّ مؤسّسات بلدانهم، أي دولهم، باتت عاجزة عن مواجهة التحديات الداخليّة الاجتماعية والاقتصاديّة والأمنيّة، وعاجزةٌ أيضاً عن حماية مواطنيها من الأخطار الخارجيّة، بفعل تخبّطها في أتون مختلف الصراعات. هكذا يُصنّف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عدّة دول عربيّة “دولاً هشّة أو تعيش في ظلّ صراعات”، هي العراق ولبنان وليبيا وفلسطين والصومال وسوريا والسودان واليمن. في الوقت نفسه، يُحذّر “صندوق السلام”، وهو مؤسّسة تحدّد معايير لهذا التصنيف، من وقوع معظم الدول العربيّة الأخرى، بما فيها دولٌ نفطيّة، في حالة “الهشاشة”.
إنّ الدول العربيّة جهدت منذ استقلالها على بناء مؤسّسات دولة لتأمين الخدمات والتنمية لمواطنيها والمقيمين فيها. ونجحت، برغم ترسيم حدودها من قبل الدول الاستعماريّة، في تعزيز هويّات وطنيّة تدعم كيان الدولة. إلاّ أنّ مؤسّسات الدول العربيّة تعرّضت لصدمات كبرى متعدّدة، داخليّة وخارجيّة، أطلقت آليّات دفعتها نحو “الهشاشة”.
بالتأكيد، شكّل اغتصاب فلسطين الاستيطاني إحدى أولى تلك الصدمات الكبرى مع ما تبعه من أعباء تهجير قسريّ للفلسطينيين داخل فلسطين وإلى الدول المجاورة مع ما ترتّب من متطلّبات الجهد العسكريّ لمقاومة توسّع الاحتلال. لقد عجزت “النخب” القائمة عن التعامل مع هذه الصدمة ومع التغّيرات الاجتماعيّة الداخليّة، خاصّةً مع صعود “نخبٍ” جديدة، ريفيّة أساساً، خرجت بفضل انتشار التعليم وطالبت بمكانها في النسيج الاجتماعيّ المؤسِّس والدولة. وانطلقت بالتالي آليّات، خاصّةً عبر الجيش، أدّت إلى تغييرات عميقة في بنى مؤسّسات الدولة.
وكانت الدول الأوروبيّة قد عرفت هي أيضاً الصدمة الكبرى التي مثّلتها الحرب العالميّة الثانيّة. إلاّ أنّ ما صانها من الذهاب إلى “الهشاشة” ليس وحده مشروع مارشال الأمريكي لإعادة إطلاق اقتصادها فحسب، بل أساساً توجّهها إلى إنشاء تعاون اقتصادي وسياسيّ وثيق، ساعد لاحقاً في إنقاذ إسبانيا والبرتغال عند قيام ثورتيهما، ثمّ توحيد ألمانيا والنهوض بدول شرق القارّة الأوروبية بعد سقوط جدار برلين. وهذا التعاون الوثيق هو بالتحديد ما فشلت “نخب” البلدان العربيّة في تحقيقه ولو تدريجيّاً برغم أنّ المحاولة سبقت انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لقد استمرّت الضغوط الخارجيّة على البلدان العربيّة أيضاً اقتصاديّاً وماليّاً في تفاعلها مع العوامل الداخليّة، حتّى حدثت الصدمة الكبرى الثانية وهي نكسة حرب 1967 وما تلاها من حرب استنزاف وحرب تشرين/أكتوبر 1973. أطلقت هذه الصدمة آليّات متعدّدة أخذت إلى اعتماد معظم الدول العربيّة نموذج “تنمية” يعتمد على الريع، برغم أنّ دول الخليج وحدها حصلت على ريعٍ ضخم بعد “الصدمة النفطيّة” الأولى (1973) والثانية (1979)، وعلى قيام سلطة فوق الدولة استمرّت لعقود، حتّى في الجمهوريّات التي يقوم دستورها القائم على التداول على السلطة.
واللافت للإنتباه أنّ هذه الصدمة أنهت آمال التعاون “العربي”، مع انعزال مصر لفترة عن محيطها وتوقيع معاهدتها للسلام، ومع إنشاء مجلس تعاون خليجي أوثق عروةً، وانطلاق آليّات شرذمة مفهوم المواطنة المتساوية حتّى في كلّ “الدولٍ الوطنيّة”، مع صعود التجاذب السنيّ-الشيعيّ والإسلام السياسي وترسيخ “إسرائيل” كنموذج إقليمي بالاعتماد على دولة مبنيّة على هويّة دينيّة. مع ما رافق ذلك من حروبٍ أهليّة في لبنان والسودان مثلاً وصراعات عسكريّة مع الخارج، أكثرها دماراً حرب العراق وإيران ثمّ حرب الكويت وتحريرها. ويتمّ اليوم تناسي كيف أدّت “الصدمة النفطيّة المعاكسة” في منتصف الثمانينيات، حيث انهارت أسعار النفط إلى قيمةٍ فعليّة لما قبل 1973، إلى “إفلاس” عدّة دول عربيّة حيال دائنيها الخارجيين وتبعات ذلك. ثمّ أتت الصدمة الثالثة مع غزو العراق عام 2003 و”الفوضى الخلاقة” حيث عملت الولايات المتحدة على تفكيك مؤسّسات الدولة العراقيّة. ورسّخ ذلك فكرةً مدمّرة مفادها أنّ السلطة والدولة شيءٌ واحد، وأنّ كليهما “نظامٌ شموليّ” يجب القضاء عليه، مع إلغاء أهميّة تواجد مؤسّسات الدولة لإصلاحها والعمل معها بغية ترسيخ الديموقراطيّة.
وجاءت الصدمة الرابعة في ذلك المسار. لكن كانت بفضل عوامل داخليّة أساساً. فقد عرفت أكثر الدول العربيّة مع القرن الواحد والعشرين “تسونامي شبابي”، تضافرت لإعلاء هديره “الموجة الشبابيّة” الناتجة عن قفزة في الولادات قبل عشرين عاماً وتسارع هجرة الريف إلى المدينة. وانتفض هذا “التسونامي” مدفوعاً بإرادة تغيير العقد الاجتماعي عبر “إسقاط النظام”. هكذا دون تصوّرٍ لما بعد ذلك.. وكانت أوروبا قد عرفت حالةً كهذه في الستينيات، حيث ذهبت موجتها الشبابيّة في فرنسا مثلاً إلى أفكارٍ مثل تلك المبنيّة على كتابات ماو تسي تونغ! لكنّ الدولة بقيت أداة التعامل مع تلك الصدمة وتغيّرت آليّاتها ورحل الجنرال ديغول عن الحكم برغم فضله على الجمهوريّة.
الفارق في البلدان العربيّة هو ليس فقط تعامل السلطة العنيف مع صدمة “التسونامي” وضعف مؤسّسات الدولة في التأقلم وتغير العقد الاجتماعي، بل تدخّل الدول الخارجيّة، ليس فقط إعلاميّاً وعبر آليّات سمّتها دعم “مجتمع مدنيّ”، بل أيضاً عسكريّاً. كي تؤخذ الأمور إلى حروبٍ مدمّرة، أهليّة وبالوكالة. هكذا وقعت دولٌ عربيّة عديدة في فخّ “الهشاشة” بينما توجّهت أخرى نحوه. وهكذا انفجرت الثغرة أكثر كي تذهب إسرائيل لمحاولة تحقيق نكبةٍ جديدة.
وللعوامل الاقتصاديّة والماليّة دورٌ كبير في صنع الهشاشة. تضخّم الريع عبر الاقتراض من الخارج وأسواقه، والاعتماد كثيراً في الموازنات على القروض الخارجيّة، وغير ذلك مما يقوّض الحماية من الأزمات والتدخّلات الخارجيّة. هكذا تمّ تأخير الإصلاح، بفعل الخارج كما السلطة القائمة، في لبنان مرّتين في 2000 و2016 تباعاً كي يقع عميقاً في فخّ “الهشاشة”. وهكذا أقام الخارج برامج “مساعدات” إنسانيّة خارج الدولة بدل مساعدات تنمويّة لتجنّب إحداث صدمات صغيرة تدفع للقيام بالإصلاحات. هذا عدا، على العكس، العقوبات التي تقع على الدولة كمؤسّسة أكثر من القائمين عليها.
لا يُمكِن الخروج من “فخّ الهشاشة” بالإيديولوجيّات وإنّما بالواقعيّة. الواقعيّة الداخليّة أوّلاً لإصلاح مؤسسات الدولة وليس إلغاءها وإعادة بناءها. إذ لا يمكِن التعامل مع الشرذمة التي تحدثها “الهشاشة” وتفلّت قوى طائفيّة وإثنيّة، مدعومةٌ كلّ منها من خارج، دون دولة قويّة، بمؤسساتها المركزيّة والمحليّة، تتعامل بواقعيّة مع ضرورات التنمية المتوازنة بين المناطق. والخطر هو انتشار نموذج غياب الدولة أو “اللا دولة”، الذي لا يشكّل خطراً وجوديّاً على الدول “الهشّة” وحسب، بل على كلّ محيطها وعلى أوروبا القريبة التي ستذهب إليها أفواج اللاجئين مع الصدمة القائمة.
في المحصّلة، تفتح الأحداث التي أطلقتها “انتفاضة الأقصى” واتساع تطورّاتها المجال لصدمةٍ كبرى جديدة ولكن أيضاً تُشكّل فرصةً لواقعيّة عربيّة تسعى لإخراج بلدان عربيّة وقعت في فخّ “الهشاشة” وأخرى متوجّهة للسقوط فيه. واقعيّةٌ عربيّة لأنّ قضيّة فلسطين هي ما بقي حافزاً لتعاونٍ عربيّ على الصعيد الشعبيّ. وواقعيّة عربيّة لأنّ العالم في مرحلة صراعات متعدّدة الأقطاب، سقطت حولها كلّ الادعاءات أن سببها هو الدفاع عن “الديموقراطيّة” و”حقوق الإنسان”.
ما يحدث اليوم هو جريمة إبادة جماعيّة لجزءٍ من العرب.. وما مصير كلّ العرب بعد ذلك؟
* نشرت بتاريخ 22 /01/2024على موقع | 180Post
Leave a Comment