محمد قدوح*
أحال وزير المالية مشروع موازنة عام 2023 الى رئاسة مجلس الوزراء بعد تأخير دام حوالي عشرة أشهر، ويعقد مجلس الوزراء جلسات متتالية لمناقشة وإقرار هذا المشروع، وإحالته الى مجلس النواب الذي سيناقشه ويصدقه بدوره، وهو امر يستغرق حوالي الشهرين، أي قبل إنتهاء السنة المالية بحوالي ثلاثة أشهر، هذا اذا سارت الامور على نحو سلس كما هو “غير متوقع”.
وبسبب الظروف الاستثنائية الناتجة عن الفراغ في رأس السلطة التنفيذية، قد يتم تجاوز المخالفة الجسيمة المتعلقة بالتأخير في إعداد الموازنة وتصديقها، وكذلك فتح إعتمادات إضافية فيها قبل تصديقها، مثل دفع المساعدة الاجتماعية للعاملين في القطاع العام. لكن ما لا يمكن تجاوزه هو غياب الإجراءات المطلوبة للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية، حيث يمكن وصف هذا المشروع بأنه نسخة مكررة عن موازنة العام 2022، مع فارق وحيد هو زيادة قيمة الرسوم والضرائب الواردة فيها، ما بين 30 و50 ضعفاً، نتيجة ربطها بسعر صرف الدولار على منصة صيرفة. ويبدو أن وزير المالية حاول تحقيق اكبر قدر من “التوازن” بين الايرادات والنفقات العامة الضرورية. وهو أي مشروع الموازنة، أقرب ما يكون الى ميزانية شركة خاصة، وليس موازنة دولة تفترض ان تتضمن السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية التي ستنفذها الحكومة خلال سنة. ونذكر على سبيل المثال: إصلاح النظام الضريبي، إعادة النظر في الإعفاءات الضريبية، والإعفاءات من الرسوم الجمركية للجمعيات ذات المنفعة العامة، كذلك الاجراءات الهادفة لمعالجة التهرب الضريبي والتهريب عبر المعابر الحدودية الشرعية وغير الشرعية. كما نذكر ايضاً ضرورة تضمين المشروع حوافز للقطاعات الاقتصادية، ولا سيما قطاعي الزراعة والصناعة، وزيادة الإنفاق على القطاعين الصحي والاجتماعي لوقف تدهور خدماتهما. هذا جزء مما يجب ان تتضمنه الموازنة، والتي إذا ما أقرت بصيغتها الحالية، ستؤدي الى دفع من بقي من اللبنانيين فوق خط الفقر الى تحته، ولن يكون بوسعهم دفع هذه الرسوم والضرائب، وبالتالي ستكون قيمة الواردات المحققة اقل بكثير من الايرادات المقدرة.
أين قطع الحساب ؟
والحاضر الغائب الأبرز يتمثل في غياب قطع الحساب عن الموازنة السابقة لإظهار الخيط الابيض من الاسود لجهة الإيرادات والنفقات الفعلية، ومقدار العجز الحقيقي وهو ما بات تقليداً لدى الموازنات العامة حيث لا يعرف المشترع كمية الإيرادات وكم النفقات المدفوعة. ولعل المشروع يحمل جديداً نوعياً ليس على صعيد الارقام فحسب بل على صعيد القدرة على التشريع، فكأنما الحكومة أرادت عبر وزير المالية وغيره من الوزراء الحصول على موافقة المجلس النيابي المسبقة على فرض ضرائب إضافية، علماً أن القاعدة المعروفة أنه لا يمكن فرض أي ضريبة الا بموجب قانون يصدر عن المجلس النيابي.أي أن الحكومة ووزير ماليتها يعمل من خلال الموازنة على إنتزاع صلاحيات مسبقة من المجلس النيابي لصالح قرارات ضرائبية يتخذها. فالمشروع يمنح وزير المال الحق بتعديل الشطور والتنزيلات العائلية، بموجب قرار يصدر عنه، استناداً إلى نسب التضخم الصادرة عن إدارة الاحصاء المركزي. كما يمنح الوزراء المختصين تعديل التنزيلات والشطور المتعلقة بالرواتب والأجور، وذلك لغاية نهاية العام 2026. وتقترح الموازنة اعتماد سعر منصة صيرفة في تسعير الدولار الجمركي وتحصيل الـTVA وضريبة الدخل للمداخيل المدفوعة بالدولار. وكذلك برسوم المعاملات والتراخيص والعديد من الخدمات الرسمية. وكما قادت موازنة العام السابق إلى تعريض معيشة معظم اللبنانيين لفقدان الأمن الغذائي والصحي والتعليمي والخدماتي وبنسب ارتفاعات تجاوزت الـ 600% في بعض الحالات، لاسيما مع خسارة الرواتب 95 % من قدرتها الشرائية مع تدهور سعر صرف الليرة. و يمكن الجزم أن موازنة العام 2023 من شأنها تصعيد الضائقة عطفاً على ما سبق إقراره من مضاعفة بدلات الخدمات العامة والمعاملات والرسوم المفروضة، ورفض إدخال الزيادات في صلب الراتب، واعتبارها بمثابة مساعدات اجتماعية لا تدخل في تعويض نهاية الخدمة. بالطبع ستقدم الحكومة مشروعها ومسوغاته بأنه يهدف إلى تمويل الزيادات التي طرأت على الأجور والرواتب، ولسد الفجوة بين النفقات والعجز المتوقع الذي يبلغ بناءً على أرقام وزارة المالية نحو 34 ألف مليار ليرة، باعتبار أن نفقات الموازنة مقدّرة بنحو 181 ألف مليار ليرة يقابلها إيرادات بقيمة 147 ألف مليار ليرة. ويمكن الشك بالرقم الأخير على ضوء المسارب المعروفة في مداخيل الدولة التي باتت “منهبة” لفرقاء السلطة، الذين يضعون أيديهم على مداخيل يفترض أن تعود للدولة دون سواها، كأموال المرفأ والمطار والاتصالات والكازينو والدوائر العقارية وما شابه، مما يتسرب إلى قوى الأمر الواقع بواسطة أزلامها ومحاسيبها.
يعتمد المشروع على الضرائب المباشرة على ذوي الدخول المحدودة. ويستهدف هذه المرة الموظفين الذين يحصلون على رواتبهم بالدولار أو نسبة معينة به. وتصل نسبة الاقتطاعات الضريبية من هؤلاء إلى 15 في المئة من راتب موظف يتقاضى 1000 دولار شهرياً، وترتفع النسبة إلى 25 في المئة لموظف يتقاضى 2500 دولار شهرياً. أي ربع مدخوله تحصل عليه الدولة كضريبة دخل، دون أن يترافق ذلك مع أي تقديمات أو خدمات صحية او اجتماعية، إضافة إلى احتساب تعويض نهاية الخدمة على سعر الصرف الرسمي حتى اللحظة. وتُعد هذه النسب الضريبية الأعلى بين كل المكلّفين سواء أكانوا أفراداً أو مؤسسات.
مع ذلك لم تُدخل وزارة المال أي تعديلات على شطور ضريبة الدخل، ولا على النسب التي أوردتها في موازنة 2022. لكنها رفعت أقسام الواردات الصافية الخاضعة للضريبة والتنزيلات. فالشطر الضريبي الأول أي 2 في المئة كان محدداّ لمن لا يتجاوز راتبه الـ 18 مليون ليرة. أما في الموازنة الحالية، فبات قسم الواردات للشطر الأول 70 مليون ليرة. وكذلك الأمر في الشطور السبعة التي تراوحت الضرائب عليها بين 4 و7 و11 و14 و17 و20 وصولاً إلى الشطر الأخير، أي 25 في المئة، وعليه، فقد كان قسم الواردات المحدد في موازنة 2022 أكثر من 675 مليون ليرة. أما اليوم فبات في حدود الـ 2 مليار و440 مليون ليرة.
مع الإشارة إلى أن الإبقاء على الشطور الضريبية عينها، سيُلحق الإجحاف بالموظفين، فيما لو تم اعتماد سعر منصة صيرفة في جباية الضرائب. فالنسبة مرتفعة جداً بالمقارنة مع حجم المداخيل ومستوى تضخم الأسعار الذي قدّره البنك الدولي خلال العام الجاري بين آذار 2022 ونيسان 2023 بنحو 350 في المئة.
وفي المقابل خفّضت وزارة المال الضريبة على أرباح متعهدي الأشغال العامة بنسبة 75 بالمئة، وأعفت “ناهبي” الأملاك البحرية من ضريبة الإشغال وغيرها ممن يشابههم، ما يعني أن حكومة تصريف الاعمال تقوم وعن سابق تصور وتصميم بتدفيع الفئات والشرائح وذوي الدخول المحدودة ثمن الانهيار. أما المستفيدون منه من مضاربين عبر منصة صيرفة وما يماثلها ممن يجنون مئات ملايين الدولارات يوميا، فقد أعفتهم من دفع ولو جزء يسير من ارباحهم التي انتقلت بقدرة التلاعب والنهب من جيوب الناس إلى خزائن المصارف والمتمولين على اختلاف انتماءاتهم السياسية.
“تطفيش” العاملين في القطاع العام
تمثل المادتان 80 و81 من مشروع الموازنة التوجه الوحيد الذي يحمله هذا المشروع، واللتان تنصان على عدم إحتساب الزيادات التي أعطيت للعاملين في القطاع العام في أساس رواتبهم وأجورهم، مما يعني عدم إحتسابها في المعاش التقاعدي، او في تعويض نهاية الخدمة، إضافة الى فرض ضريبة على المعاش التقاعدي الذي يمثل حصيلة المحسومات التقاعدية خلال خدمة الموظف، وذلك خلافاً للقانون الذي لا يعتبر المعاش دخلاً.
إن غاية هذا التوجه أمران أساسيان: الأول تغيير النظام الوظيفي المعمول به حالياً في الإدارات العامة، عبر دفع الموظفين والمستخدمين للإستقالة من وظائفهم، والبحث عن فرص عمل في القطاع الخاص أو في الخارج. ونشير في هذا الاطار إلى أن إحدى عشر موظفاً في وزارة الشؤون الاجتماعية تقدموا خلال العام الماضي بطلبات إنهاء الخدمة أو الاستيداع أو طلبوا إجازة غير مدفوعة الأجر، إضافة الى خمسة موظفين بلغوا سن التقاعد، أي أن ستة عشر موظفاً من اصل 137 موظفاً تركوا الخدمة، أي نسبة 11.6% من اجمالي عدد الموظفين.
هذا نموذج يمكن تعميمه على جميع إدارات الدولة. وتشير بعض المصادر إلى أن عدد موظفي الملاك الإداري قد تراجع الى ما دون الـ 7000 موظف، مما يعني أنه في ظل قرار وقف التوظيف المعمول به منذ العام 1998، قد يتراجع هذا العدد إلى ما دون الـ 5000 موظف، وبالتالي يصبح مشروع التعاقد الوظيفي أمراً واقعاً، حيث يتم تحويل من تبقى من الموظفين إلى ملاك تصفية. أما الامر الثاني، فيتمثل في إضطرار الكفاءات الفنية العاملة في المؤسسات العامة للاستفادة من وظائفهم، والبحث عن فرص عمل في القطاع الخاص أو في الخارج، مما يؤدي عملياً إلى تراجع كفاءة المؤسسة العامة في إدارة المرفق العام، وهو ما يشكل الفرصة المناسبة لخصخصة بعض المرافق العامة وعرضها للبيع بأبخس الأثمان.
خلاصة القول إن مشروع الموازنة يؤدي إلى المزيد من الافقار لغالبية اللبنانيين والعودة لنظام الاستخدام الذي كان سارياً قبل الاصلاحات التي جرى تشريعها في العام 1959، حيث لم يأخذ هذا النظام بمعايير الكفاءات والمساواة بين اللبنانيين، إنما اعتمد على معيار الولاء للزعماء السياسيين.
لذلك فإن روابط القطاع العام ومعها القوى النقابية والديمقراطية وكل الحريصين على بقاء دور القطاع العام مدعوين للتحرك دفاعاً عن دور ووظيفة مؤسسات القطاع العام وما تبقى من العاملين فيه.
Leave a Comment