د. وهيب سلامة
على ضوء الزلازل السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية التي يرزح تحتها اللبنانيون يسقط اطباء لبنان – كما بقية “شعوبه”- تحت هول الأزمات المعيشية المتناسلة.. فالاطباء يواجهون مفاعيل الانهيار وتدهور قيمة العملة الوطنية المتسارع وغلاء اسعار الغذاء والمحروقات والنقل وكل الخدمات والحاجيات، كما انهيار المؤسسات الصحية والاستشفائية لعدم قدرتها على التكيف مع ارتفاع الكلفة التشغيلية، مما يفاقم أزمة الاطباء …هذا في وقت لا يجد العديد من الزملاء من سبيل لمواجهة هذه الازمات الا بالهجرة إلى خارج البلاد، لكي يستطيعوا البقاء وتأمين الحد الادنى المقبول معيشياً .
وكل هذا ينعكس سلباً على صحة المواطنين والوطن. فالعديد من المؤسسات الاستشفائية اقفلت واخرى مهددة بالاقفال، بسبب الارتفاع الهائل في اسعار الادوية والمواد، والآلات والمستلزمات الطبية والخدمات الفندقية، والكهرباء المحروقات، والنقل … وغيرها الكثير، مضافا إليها حجز الاموال والودائع في المصارف وتفاقم العجز المالي والديون، بفعل التأخير المتمادي في تسديد اتعاب المستشفيات والاطباء المتآكلة والزهيدة بالاساس من قبل وزارة الصحة الضامن الاكبر، وغيرها من الهيئات الضامنة وعدم اقدامها على تكييف اسعارها كي تتلاءم مع مستويات الانهيار المالي والنقدي.
وتغيب نقابة الاطباء ـ كما غيرها من النقابات والاتحادات ـ عن المساهمة في التصدي لهذه الأزمات، وتتحول إلى “هياكل “صدئة يأكلها العجز عن المبادرة، ومصابة بعدوى الفساد المستشري في إدارات الدولة، وتتحول إلى مكان لحشو الازلام والمناصرين لنفس القوى السياسية المتحكمة في ادارت الدولة وقادت إلى أن تعصف بمؤسساتها والمالية العامة، حيث تبددت الموارد المالية المتراكمة بين ودائع محجوزة في المصارف، ومصاريف تشغيلة مشبوهة، وسياسات توظيفية وادارية غير شفافة، وسيطرة قوى سياسية تعمل على استنزاف هذه الموارد، بين التوظيف والمعاشات وغياب الشفافية في المشتريات والصرفيات، مضافة إلى الكلفة المرهقة لتشغيل “بيت الطبيب”، الذي تحول ومنذ بنائه إلى الغطاء الأكبر للفساد المالي والإداري، واطاح بالاحتياطات النقدية المتجمعة في صناديق النقابة، وفعّل المنازعات القضائية، وغّيب المؤسسات الرقابية بما فيها عدم اقرار براءات الذمة لموازنات المجالس النقابية المتعاقبة في منذ ٢٠١٥ بسبب شبهات مالية وفساد، اكدها تقرير لجنة وزير الصحة الأسبق، والتي اثبتت وجود مخالفات مالية ولفلفات فضائحية ظلت ارقامها ومعلوماتها تقديرية، وشكوك ولم تتحول إلى اجراءات محاسبية وتحديد مسؤليات قانونية ملزمة.
هذه الأزمات ارخت بظلالها على الاطباء وعلاقتهم بنقابتهم من حيث غابت الثقة. ومعها المجالس النقابية عن المحاسبة الجدية، والقاعدة النقابية عن دورها الرقابي والفاعل داخل النقابة ومؤسسات القرار. فتحولت النقابة إلى مؤسسة “اسمية” تغرق في ديمومة العجز والاستنزاف للموارد البشرية والمالية، وتتحول الى بؤرة تخدم القوى السياسية المسيطرة والمواقع الادارية المستحدثة في ادارتها والموظفين المحظوظين ..
فبينما يتحول هم النقابة الى منح العلاوات وزيادة المعاشات واستمرار استقطابها للموظفين، ويغيب عن مجلسها هم اصلاح بنيانها، والتفكير الفاعل بمشاكل الاطباء وايجاد حلول ناجعة لأزمات اساسية ومطالب فئات واسعة من اعضائها من مثل المعاشات التقاعدية المزرية بالاساس، والتي تمنع الاطباء من ان يتخذوا قرار التقاعد والراحة وأن يستمروا بالعمل ما استطاعوا إليه، مما يعيق فرص العمل للاطباء الشباب والجدد من جهة، ويحجب عن المتقاعدين منهم امكانية الحصول على معاش تقاعدي كان يجدر بمراكمة اشتراكه ان يوفر حياة كريمة، ويحفظ معيشة وصحة الاطباء المتقاعدين وعائلاتهم في خريف العمر.. بالمقابل تمخضت قرارت المجلس النقابي عن منح الاطباء المتقاعدين مساعدة مالية تعادل معاشاً تقاعدياً ليصبح المعاش التقاعدي للطبيب يساوي ٤٦٠٠٠٠٠ ل.ل بدلاًمن ١٢ مليوناً، كما يطالب الاطباء كحد ادنى في الظروف الراهنة. بينما لا يبخل المجلس النقابي في زيادات البدلات ومضاعفة الزيادات والتقديمات للمدراء والموظفين المشمولين بالتغطية السياسية، والمستحدثة مواقعهم ووظائفهم وادوارهم المؤثرة في مراكز القرار في البيت النقابي.! حيث تتراوح المعاشات والتقديمات بين ١٢ وال ٧٠ مليونا مضافاً إليها منح مدرسية ناهزت هذا العام ٦٧٨ مليوناً واستشفاء بتأمين خاص ودرجة اولى للموظفين والذين على عاتقهم من اهل واولاد.
كذلك يعاني قسم لا يستهان به من الاطباء حوالي ٣٠٠٠ طبيب من مشكلة غياب اية حماية صحية لهم ولعائلاتهم، بفعل عدم حل مشكلة انتسابهم لصندوق الضمان الاجتماعي وخضوعهم لالزاميته” المالية دون الصحية”!؟
وكذلك هناك مشاكل بنيوية فيما خص الدور المطلوب لنقابة الاطباء والفاعل في تقريرالسياسات الصحية والاستشفائية والفاعلة للبلاد، وغياب التوصيف الوظيفي والمكننة المطلوبة والشفافية المحاسبية .
وبهذا الخصوص يرى عضو مجلس النقابة الحالي الدكتور جورج الهبر أن لا بد لمجلس النقابة من أن يبادر إلى اصلاح البيت النقابي الداخلي، وتصحيح الاجراء الاداري الخاطيء بخصوص تمادي المدراء في ممارساتهم اللاقانونية، والخاطئة فئ حضورهم إجتماعات المجلس النقابي، وتأكيد دورالاخير بصفته قيادة نقابية جماعية منتخبة ومسؤلة عن تنفيذ واقرار المشاريع والسياسات التي تخدم وتحفظ مصالح النقابة والاطباء. وهذا يعني كذلك تحديد وتقييد صلاحيات مكتب المجلس والمدراء والمساءلة عنها امام الجمعيات العمومية للاطباء ..
اما الدكتور علي حرب، الناشط والمرشح لعضوية مجلس النقابة على لائحة “النقابة تنتفض” فيرى أن الاولوية في اصلاح البيت النقابي هو في إلغاء نظام الفرز لاصوات الناخبين الالكتروني المشكوك به، لكونه يفسح المجال للتحكم بالنتائج وامكانية التزوير. مما يبعد النقابيين الجديين والمناضلين عن امكانية الوصول إلى المجلس وإبقائه تحتى سيطرة المنظومة.
من جهته يصر الدكتور شربل عازار على ضرورة العودة إلى مركز النقابة في الحازمية -قلب يسوع لكونه يكفي حاجات إدارة النقابة ويزيد، ويمكنها من تخفيف كلفة الاشغال “الباهظ لبيت الطبيب، وبالعكس الاستفادة من ايرادات تأجيره لصالح صندوق الاعانة والتقاعد. ويعزز الوضعية المالية للنقابة، ويسمح برفع المعاش التقاعدي بشكل يحسن الظروف المعيشية الصعبة للأطباء المتقاعدين.
امام هول الأزمات المتفاقمة التي تجتاح البلد ومؤسسات الدولة، كما النقابات والجمعيات المهنية والعامة والمنخورة بسموم الفساد والطائفية، وامام انسداد افق الاستمرار بهذة الممارسات لنتائجها الكارثية، لا بد من اعلاء الصوت وتفعيل ارادات أصحاب المصلحة من الاطباء لإحداث التغيير المطلوب، وتحويل نقابة الاطباء إلى صرح انساني علمي ومهني يشرف ويضع السياسات الصحية الانقاذية للوطن والمواطنين، وهذا الدور لا يستقيم الا بأن تبدأ مؤسسات النخبة المجتمعية عملية اصلاح البيوت النقابية الداخلية، إدارياً ومالياً ونقابياً باضفاء المزيد من الجدية والشفافية وتعميق الممارسة الديمقراطية في عملية التحول .
إن انخراط الاطباء في حمل قضاياهم والمطالب بشكل متواصل، وتفعيل الضغط داخل الموسسات النقابية القاعدية، لجان طبية وجمعيات عمومية في المناطق والمركز، بما فيه تصعيد الضغوط على مجلس النقابة، وتفعيل مؤسسات الرقابة والشفافية المالية والادارية، وأشراك الاطباء في الجمعيات العلمية والنقابية ونقاشاتها الديمقراطية الداخلية. كذلك لا بد من مطالبة الحكومة بإقرار تشريعات تحمي الممارسات الطبية والمهنية وتحصنها، وتغذي الصناديق النقابية كبدلات لالتزامات الاطباء ودورهم الاساسي في حفظ صحة المواطنين المستمر، والذي تجلى بتضحياتهم العظيمة بمافيها تقديمهم عشرات الشهداء والمصابين في مواجهة “جائحة كورونا” ، وغيرها من التضحيات اليومية والتقديمات المجانية وشبه المجانية في المستشفيات والمستوصفات والمراكز الطبية المختلفة، بما فيها اقرار البطاقة الصحية ونظام الشيخوخة كحق مكتسب لهم، كما للمواطنين اللبنانيين جميعاً.
Leave a Comment