ثقافة

طغيان الهوية الدينية.. إستبداد أفغانستان نموذجاً

الفضل شلق*

عندما يفرض فريقٌ من المسلمين أسلوب عيش على مسلمين آخرين في المجتمع نفسه، فإن الإجبار لا يكون إلا بالقوة والعنف والإكراه. يحتاج الفريق الذي يفرض أسلوب العيش على الآخرين الى سلطة هي نظام الحكم، أو ما درج الناس على تسميته بالدولة.

في جميع المجتمعات الإسلامية قيود على السلوك، دَرَجَ الناس على تسميتها بالأخلاق. وهي في الحقيقة أقرب الى “آداب السلوك”. الأخلاق الأساسية أقدم من أي دين. أهم ما في الأخلاق هو ما ينبع من الضمير الفردي، وما يمتنع به صاحبه عن التعدي على الآخرين بالقول والعمل. طريقة العيش هي الثقافة التي يُرادُ فرضها. يسميها أصحابها الذين يعتمدون الإكراه ديناً لجعلها أمراً مقدساً. يزعم التابعون له، أو المتسلطون باسمه، أنه أمر من الله؛ وهذا أيضاً يُسمى شرع الله. لا أحد منا أكثر تأهيلاً من غيره للادعاء بأنه على صلة بالله. وقد اختلف المسلمون عبر تاريخهم حول ماهية الله، وبالتالي الأوامر الصادرة عنه، سوى ما جاء في الكتاب العزيز، وهو آليات محكمات وأخرى متشابهات. لذلك تعددت الفرق والمذاهب. رسا الأمر بعد حين على اعتبار أن كل من قال الشهادتين (أشهد أن لا إله الا الله وأن محمداً رسول الله) هو مسلم.

لا علاقة لذلك بالإيمان. العلاقة بين الفرد وخالقه. الدين علاقة بين مخلوق وآخر. وقول “لا إكراه في الدين” لا يقتصر على علاقة دين مثل الإسلام أو المسيحية أو غيرهما بالأديان الأخرى، بل يشمل العلاقات داخل كل دين. تُسمى الفرق داخل كل دين مذاهب. فهل يصح فرض مذهب ما على أتباع المذاهب الأخرى؟ أم أن الإكراه داخل الدين يجعل من كل مذهب ديناً آخر؟

كلما ظهر فريق “متطرف” يرمي الى إكراه الآخرين. يُقال هذا ليس من الإسلام. وكثيراً ما يسمي خصوم الإكراه أنفسهم بالإسلام المعتدل، حتى لو كان معتقدهم هو ذاته، أو يشبه معتقد المتطرفين. فهل هي مسألة تطرّف واعتدال أو أن الدين فيه احتمالات متعددة، ككل دين آخر. ويمكن أن يحمله التطوّر وظروف التطوّر الى التشدد واللين. يحمل كل دين في طياته تعددية تزداد مع الأيام والسنين وتتكيّف بأوضاع أصحاب الدين التاريخية. لقد اختار الأميركيون تسليم أفغانستان لأحد أشكال التشدد، ورفض كل أنواع التسامح، إضافة إلى التعامل مع النساء بما لم يسبق من قسوة، حتى في أكثر الأنظمة تشدداً في الماضي والحاضر، وذلك بعد أن قاتلوهم وتابعوا مسيرة تدمير أفغانستان دولة ومجتمعاً. أما كان باستطاعة الأميركيين خلال وجودهم في أفغانستان العمل على تنمية دين آخر متسامح ومتوازن؟ أم أنهم اختاروا الطرف المتشدد بعد أن ساعدوه على التوسّع وصولا إلى تسليمه البلد، وتركوا له من السلاح ما يوازي حلف الأطلسي، علما أنه كان لديهم أعداد ضخمة من اختصاصيي الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وغيرهما من العلوم الإنسانية. أم أنهم يريدون هذا الدين هكذا لتبرير فكرة الإرهاب والحرب على الإرهاب وغيره. ما يعني أن الهدف لديهم هو الحرب والفوضى، وإنتاج مجتمعات فاشلة، علماً أنه بجوار أفغانستان، أي في إيران، يوجد نظام متشدد بطرق أخرى.

مهما كانت الأسباب الخارجية، هناك الكثير منها كما رأينا في حالة أفغانستان بوضوح لا يدع مجالاً للشك. إلا أن في هذا الدين عناصر تبعث على التشدد بل التخلف. لم يستطع المجتمع إجبار الدين على التخلص منها. في الغرب الأميركي والأوروبي، كما في دول آسيا الكبرى والصغرى، أنواع من مذاهب التشدد الديني والتطرّف من مختلف الأشكال، إلا أنها تبقى هامشية. صحيح أن هناك صعوداً للفاشية واليمين المتطرّف في العالم إلا أنه من النوع القومي والسياسي. السياسة لها حظ أكبر في غير البلدان الإسلامية، حيث يحتل الدين مجالا أوسع حتى مما كان في القرون السابقة، ولا يدع لغيره مساحة للنشاط البشري غير الديني.

في كل مجتمع دين أو أديان، وكل منها متفرّع الى مذاهب وفرق ومنازعات. ليس المطلوب مواجهة هذه الموجة الدينية لإلغاء الدين. فهذا غير ممكن. لكن المطلوب العمل والنضال لحصر الدين، لا حصاره، اقتناعاً بأن في مجتمع عصرنا هذا ثمة مشكلات لا تُحل بالدين والهوية، واقتناعاً بأن الهوية الدينية عندما تستأثر بكل وعي الناس يصبح المجتمع مهمشاً خارج العصر وغير قابل للتقدم والحداثة. إن طغيان الهوية الدينية على كل الهويات الأخرى في كل دين لا ينتج عنه إلا مجتمعات مغلقة. يقود التنافس بينها إلى حروب أهلية داخل البلد الواحد، وداخل المذهب الواحد. والنتيجة تكون فوضى في بلاد المسلمين، وانهيار للدولة ممارسة ووعياً بها. يفقد المجتمع انتظامه، في هذه الحال، ويصير مجتمعاً فاشلاً. لا تنفع عند ذلك الدعوات الدينية حتى ولو كانت سلمية. تلجأ إلى الانغلاق وتغييب الحرية الفردية والعقل الحديث، وصولاً إلى الاشتغال بالقديم الموروث الذي أدى في حينه إلى حروب أهلية.

لم تعد تنفع كل محاولات التقريب بين المذاهب، إذ تحوّل الدين ومذاهبه لدى الطوائف الى حقائق صارت مقدسة وإلهية، ولا يمكن الحوار بشأنها لعقد تسويات تحفظ وحدة كل مجتمع. مؤدى العقائد الدينية هو أن تصبح حقائق إلهية، بنظر أصحابها.

ومن غير الممكن التسوية أو ممارسة السياسة بين أفرقاء يعتقد كل منهم أن كل ما يعتقد أو يُملى عليه من السلطة، حقائق إلهية تتطلّب الدفاع عنها وفرضها على الآخرين كي يكون في الأمر مكرمة عند الله؛ وهي في حقيقتها بدع بشرية.

إن انتشار المزاج الديني وطغيانه على كل شيء آخر، أو بالأحرى تفوّق الهوية الدينية وإلغاءها لكل الهويات غير الدينية هو ما يهدد المجتمعات الإسلامية ويهمشها، بعد أن يستنزف عقلها وقواها، وتزول القدرة على الإصلاح والتجديد. ويفقد الناس ملكة التهذيب وصفة التسامح والسياسة وإمكانية التفاهم في ما بينهم.

ليس المراد تكفير أصحاب التطرّف، وإلا وقعنا في مطب استخدام مفاهيم استخدموها هم، وما يوالون، لتشليع المجتمع. كفانا تبرئة أنفسنا باتهام الآخرين بالتطرف. هي حال المجتمعات الإسلامية برمتها. المطلوب جر الجميع الى السياسة والنضال من أجل ذلك. ففي السياسة تسويات وتخلٍ عن معتقدات اسمنتية في تصلبها. المواجهة في أفغانستان (وإيران) وغيرهما من البلاد الإسلامية جميعاً، ثقافية. يرفض فيها الناس نمط عيش تفرضه السلطة، وكل عنف يكون من صنع السلطة التي تحتكر العنف. هذه مواجهة ليست مع الخارج سواء كان امبريالياً امبراطورياً، أو سواه، بل هي مواجهة داخل الذات.

العلاقة بالآخرين عقيدة اصطنعها بشر سموا أنفسهم “رجال الدين” من أجل السلطة أو دعم سلطة استبدادية. كل ما هو خارج العلاقة مع الله، خارج الإيمان، يحتاج إلى تدمير. وهو من جملة أدوات العنف التي يستخدمها النظام. مأزق المسلمين أنهم تراجعوا إلى مجتمعات وأنظمة دينية. وهذه أسسها الفقهية واهية تستند إلى مصالح هي في حقيقتها اقتصادية ومالية. وانتشار الفقر واتساع فجوة المداخيل والثروات بين الجمهور والنخب الدينية الحاكمة ليس له ما يبرره في أساس الدين، وهو الكتاب العزيز لا غير.

* نشرت في  180Post في 30/12/2022

Leave a Comment