لم يسبق يوماً، أن شكلت اعلانات المبادىء العامة أو المناشدات الوجدانية والدعوات لصحوة الضمائر، حلاً للصراعات التي تعصف في ساحات الطوائف بين اصحاب المشاريع الفئوية، بما فيها تلك التي تصدر عن لقاءات تعقد في دورالمرجعيات الروحية العائدة لهذه الطائفة او تلك، أو اللقاءات المشتركة بين قوى الطوائف وممثليها في السلطة. خاصة اذا كان المشاركون في اللقاءات هم قادة مشاريع الهيمنة والمحاصصة وأبطال معاركها، الساعين للسيطرة على مواقع السلطة وممارسة الهيمنة واستغلال النفوذ، بما فيه تقاسم موارد الدولة ووضع اليد على المال العام خدمة لطموحاتهم. فكيف إذا كانت مصالح تلك القوى ذات أولوية تتقدم على مصالح الطائفة أو تختزلها، وتتجاهل البلد ومصالحه الوطنية، ولا تتورع للوصول إلى مبتغاها عن الاستعانة بالخارج استقواءً به او ارتهاناً له، والإستهانة بالنتائج المدمرة لأفعالها، سواء طالت رعايا الطائفة والمؤيدين أو أصابت الوطن وأكثرية أهله المقسمين طوائف، لأنهم بالنسبة لها أدوات للاستعمال وتحقيق الغايات، أما الوطن فهو ساحة مستباحة للإستثمار والسيطرة بصرف النظر عن مصير من تطحنهم الأزمات والنزاعات.
وليس غريباً أن تنعقد تلك الاجتماعات، فهي تحتل موقعاً مميزاً في تاريخ المرجعيات الروحية. وانعقادها ليس سوى تأكيد على بلوغ أزمة هذه الطائفة أو تلك مراحل متقدمة تقارب الإنفجار، وتشكل تهديداً لمواقع نفوذ بعض الأطراف أو تنال من وجودها ودورها. نادراً ما عرفت تلك الدور قامات مستقلة تمتلك رؤية وطنية تتجاوز توصيف الأزمات التي تعصف بالطائفة والوطن على السواء، ولديها القدرة على المبادرة لاشتقاق سبل معالجتها. والطاغي راهنا هو دور الالتحاق أو التوسط لربط النزاعات بين الأطراف، والتعيّش على أمجاد بعض من سبقوهم. لذلك فإن النتائج لا تلامس التصدعات الأهلية القائمة، وتوزع الطوائف ساحات وحارات، ولا حاجة أهلها إلى من يهدىء روعهم الناجم عن نزاعات زعاماتهم، وممارسات ممتهني التحريض والبلطجة السياسية وشبيحة الإعلام الطائفي، الباحثين عن أدوار وصورة. وبالنظر لغياب أية ضوابط تسمح بتعدد المواقع وتمنع إلغاء الآخر، فإن ما صدر لا يؤخر الانهيار الزاحف الذي ينذر بأشد المخاطر. كما لا يساهم في توفير الحد الأدنى من الحصانات التي تضمن عدم الانزلاق إلى حماوة الحروب الأهلية الباردة المقيمة في شتى الساحات، والتي تتغذى من التبعية للخارج والارتهان له، والتنافس على تقديم أوراق الاعتماد لديه.
علماً أن هذا الوضع يتزامن مع انعدام الحد الأدنى من التوافق بين أركان الدولة والناطقين باسمها، ومن تناقض السياسات والمواقف المعلنة حول مختلف قضايا البلد الداخلية وعلاقات الأطراف الخارجية. وانهيار الدولة وتفكك مؤسساتها العاجزة والمشلولة يسابق الانهيار الاقتصادي الذي ترتفع وتيرة التحذير منه. بينما أكثرية الأحزاب والتيارات الحاكمة لم تعد تكتفي بإطلاق التهديدات الملازمة لممارسة سلطتها الاهلية المقنّعة، وبدأت بالإنتقال إلى فرض إيقاع مختلف على آليات الصراع مع الآخر، يتمثل باستعادة الحضور الميليشياوي المسلح بشكل علني وسافر، والتصرف كسلطة مستقلة تعلو سلطة الدولة ومؤسساتها وأجهزتها.. ولا يختلف عنهم أولئك الذين يستقوون بأجهزة الدولة أو يستسهلون استخدامها بشكل استنسابي.
لذا فإن حكام البلد راهناً يكررون محطات من تاريخه الحديث، انتهت جميعها بتسويات طائفية مقابل وقف القتل والدمار. لم تشكل التسويات السابقة حلاً للأزمات المقيمة منذ تأسيس الكيان وانقساماته حول قضايا الكيان والنظام، ونزاعات أهله بشأنها، بقدر ما شكلت ناظماً مؤقتاً للصراعات التي توالت مسلسلاتها ومحطاتها. وإذا كانت صيغ تطبيق التسويات ارتبطت دوماً بتوازنات القوى الطائفية وعلاقات تبعيتها للخارج استقواءً أو ارتهاناً، فإن المحطة الراهنة التي تعصف بالبلد لا تشذ عن سابقاتها، من حيث قضاياها وآلية انتظامها. لكنها تفوقها خطورة بالنظر لترابط تفكك الدولة ومؤسساتها، وتسارع وتيرة انحلالها وتشريع ساحات البلد وحدوده على المجهول السياسي والأمني، مع ما يدور في المحيط من عواصف.
والأدلة على المخاطر أكثر من أن تحصى، تبدأ بإنفجار معركة رئاسة الجمهورية قبل أوانها بأربع سنوات، وربطها بتشكيل الحكومة والصلاحيات، واحتدام المعارك بين مشاريع الهيمنة الطائفية على الدولة والقرار الحكومي والسلطة التنفيذية، إضافة إلى تقاسم المقدرات والموارد العامة. وإذا كان الرئيس المكلف يمارس سياسة الإنتظار وتقطيع الوقت والتحصن بصلاحياته الدستورية لتشكيل الحكومة، فإنه يعي جيداً كلفة البقاء في السلطة في ظل توازنات الداخل والخارج الراهنة والتي يستحيل عليه النفاذ من أحكامها جراء خسائره في تمثيل طائفته، بديلاً عن الخروج من جنة السلطة. أما رئيس التيار الحر فإن معركة تعينه رئيساً قادماً، تأكيداً لعودة المارونية السياسية، وممارسة دور الوكيل عن العهد، يستحق إستخفافه بكل التحديات التي تواجه البلد، والتفريط بما تبقى للعهد من قدرة، بعد أن تآكل زخمه وبان حجم ضعفه جراء فئويته المفرطة وجنوحه الطائفي. في المقابل ليس مفاجئاً سعي حزب الله للانتقال بهيمنة الأمر الواقع التي يمارسها على أكثر من صعيد إلى مرحلة ترسيم معادلاتها الداخلية والإقليمية دستوراً قائماً. في وقت لايفوت رئيس المجلس النيابي، استثمار أية فرصة دستورية أو أهلية، لتثبيت شراكته في الهيمنة الشيعية، وتأمين ضمانات دوره من النظام السوري الساعي لتجديد وصايته بالشراكة مع الدور الإيراني.
أما الجانب الآخر من المخاطر الزاحفة على البلد، إضافة للمخاوف من الانهيار النقدي الذي لا تشكل محاولات شراء الوقت لتأخيره، علاجاً له رغم الكلفه الباهظة، فإنها تتمثل في نتائج السياسات الاقتصادية المعتمدة ودخول الوضع الاقتصادي طور الانهيار المشرَع على المزيد من التداعيات السلبية، جراء مضاعفات الفراغ الحكومي، والاستمرار بمعالجة عجز الخزينة عبر الإستدانة بفوائد كبيرة، والإكتفاء بالتبشير بمقرارات سيدر، ووعود الجهات المانحة والداعمة عبر الاستدانة والقروض، وتجاهل مخاطر شروطها “الاصلاحية” التي ستطيح بحقوق أكثرية اللبنانيين ومصادر عيشهم.
وعليه يصبح من العبث الرهان على وهم استجابة أهل السلطة للمناشدات، وانتظار مبادراتهم لمعالجة ما صنعت إيديهم عن سابق تصور وتصميم، كما هو مثير للشفقة المراهنة على اعلانات مكافحة الفساد من المشاركين فيه، أوتخلي هذا الطرف أو ذاك عن سياساته ومصالحه الفئوية واعتماد سياسة تأخذ مصالح أكثرية اللبنانيين بنظر الإعتبار. لقد علمتنا التجارب أن الحقوق تحميها نضالات أصحابها، وأن السياسات تُصحح وتُعاد صياغتها بقوة ضغط المتضررين منها، والتي تؤطرها حركات المعارضة المستقلة.
[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]