اقتصاد سياسة مجتمع منشورات

فشلان لبناني وعربي لا يصنعان قمة تنموية ناجحة

وقد أفرز ذلك تراجعاً في منظمات ومؤسسات عمل الجامعة العربية المشترك لصالح علاقات بين دولة وأخرى أو مع دولتين اثنتين. هذا عدا مسلسل الصراعات والحروب. ولا يعود ذلك إلى الكيمياء الشخصية المفقودة بين الحكام أنفسهم،

انفض السامرون في بيروت وعاد كل إلى بلاده ومشاغله. أما القمة العربية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي انعقدت وأنهت أعمالها وأصدرت بيانها الختامي، فكأنها لم تكن أصلاً لأسباب لبنانية داخلية في المقام الأول، وعربية في المقام الثاني. أو قل لبنانية ـ عربية في المقام نفسه.

الأسباب اللبنانية هي جراء الفشل في تشكيل حكومة منذ حوالي تسعة أشهر إلى جانب المعضلة الاقتصادية ومنوعات الفساد والأزمات البنيوية المستحكمة من السياسة إلى الاقتصاد وغيرها، والعربية هي سورية كما تبدت للعيان وبالملموس. وقد تولت الشيعية السياسية وأمثالها تسويق فكرة عودتها إلى الجامعة العربية، والمناداة بحلول لبنان محل أجهزة هذه الجامعة، باعتباره البلد المضيف وتوجيه الدعوة لها، فتدخل السلطات السورية دخول الفاتحين، إن لم يكن برئيسها فبرئيس الوزراء أو حتى سفيرها في بيروت، بعد حوالي العقد ونصف العقد على خروج قواتها من لبنان. لم تنجح عملية الاقتحام بالطريقة المعروضة. عندها جرى إخراج قضية الامام المغيب موسى الصدر من ليبيا منذ أربعة عقود من قبعة الساحر، ورُفع شعار رفض حضور ليبيا قمة بيروت مع أنها حضرتها في القمة السياسية العام 2002، وكانت أكثر أهمية. وعندها ظهرت “القمصان الخضر” في الشوارع وسط التهديدات، واُنزل العلم الليبي وجرى تمزيقه واستبداله بعلم حركة أمل. الصغار قبل الكبار فهموا الرسالة على الصعيدين السياسي والأمني، وبدت الرئاسة اللبنانية المعنية أكثر من سواها بالقمة، عاجزة عن حماية أعلام الدول المدعوة، فكيف بأشخاص المدعوين.

مباشرة هبط عدد حضور كبار المسؤولين من سبعة رؤساء وملوك وأمراء إلى اثنين فقط لا غير، هما الرئيس الموريتاني الذي ستتسلم بلاده رئاسة القمة المقبلة، وأمير دولة قطر رمزياً ولوقت الرسائل المحسوب. بينما غاب الباقون أو هبط تمثيلهم. من يقارن بين حضور قمة بيروت وقمم التنمية السابقة في كل من الكويت والقاهرة والرياض يدرك الوضع على وجهين: الأول منهما تراجع مستوى العمل العربي المشترك، والثاني تراجع مستوى الاهتمام بها، إلى درجة أنه صدرت في أعقابها دعوات إلى دمج أعمالها بالقمة العربية السياسية. أي أن حديث التنمية بمعناها الاقتصادي والاجتماعي المستقبلي بات “خرافة يا أم عمرو”. باستثناء لمعات من هنا وهناك وردت في البيان الختامي، يمكن القول إن النص والمضمون هو مجرد نسخة مزورة عن قمم سابقة. إذ المعروف أن التنمية بمعناها المجتمعي تتطلب بنية سياسية حداثية وحريات سياسية ونقابية عامة، وقدرة على المساءلة والمحاسبة للمسؤول أيا كانت مرتبته وصفته. وهذا كله غير وارد البتة، لذلك لم يكن خارج المنطق السائد اعتبار عودة سوريا لاحقاً إلى الجامعة تحصيل حاصل، ما دامت الممارسات متشابهة مع خلاف الظروف. وهكذا اقتصرت أعمال القمة على إلقاء الخطابات، وكل ينادي على ليلاه. وعليه فقد غابت تلك اللغة التي سادت والتي تقدم للشعوب العربية وعود “عسل مصفى لذة للشاربين والسامعين”، تقي الدول والكيانات والمجتمعات الزلازل. حتى المبادرات كانت أكثر من باهتة، فما معنى قيام الكويت بالدعوة إلى تأسيس صندوق للاستثمار في التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي بمشاركة القطاع الخاص برأسمال قدره مائتي مليون دولار تدفع منها مبلغ خمسين مليوناً، و التي تلقفتها قطر وأعلنت عن رصد مبلغ مماثل، ونحن أمام أزمات مصيرية عاصفة تضرب المنطقة من محيطها إلى خليجها.

أما المبادرة الأخرى التي أطلقها الرئيس ميشال عون سواء على صعيد إنشاء مصرف عربي للإعمار وعدم ربط قضية عودة ” النازحين ” السوريين بالحل السياسي فقد ضاعت، واقتصرت على حث الجهات الدولية المانحة والمنظمات المتخصصة والصناديق العربية بالتخفيف من معاناة اللاجئين (الفلسطينيين) والنازحين السوريين. ويمكن أن يضاف للمبادرات، مطالبة الوفد الفلسطيني بتفعيل القرارات التي سبق وجرى اتخاذها حول دعم صمود القدس ومواجهة حملات “الأسرلة” والاستيطان، وجملة ما تتعرض له الضفة الغربية والقطاع، والمساهمة في تمويل العجز الذي تعانيه وكالة الاونروا بعد التخلي الاميركي عنها، والشروع في خنقها من المداخل المالية والسياسية. ولم يجر واقعاً اعتماد أي قرار عملاني يطلق حملة تحرك مضادة تؤكد على محورية صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، ومساندته على البقاء في مواجهة قومية الدولة اليهودية وغرس المستوطنات ومخططات الضم المتصاعدة والاستيطان المضاعف، ونهب الثروات واعتماد سياسة التجويع والتركيع والترويع. وعليه لم يصدرقرار بدعم السلطة الفلسطينية ومؤسساتها أو الوكالة الدولية – الاونروا- التي تبقى الشاهد الأممي الدائم على هذه المأساة المتواصلة منذ 70 عاماً. 

وقد أثبتت قمة بيروت عدداً من الحقائق على الصعيدين المحلي والعربي. فعلى المستوى الأول ثبت أن السلطة اللبنانية عاجزة عن فرض أمن ضيوفها ومدعويها وأن إرادتها مصادرة فعلاً. وسقوطها في مثل هذا الامتحان أتي ليثبت أن مفاتيح بيروت ما تزال في طهران ودمشق، وأي حضور يتطلب إذنهما والوقوف على خاطرهما، والا فوكلائهما جاهزين للتعطيل. وهو ما يبدو أن عدداً وافراً من الدول العربية أدركته، حتى باتت مشاركتها مجرد حضور لحفظ ماء الوجه فقط. أما القول إن بيروت كانت محاصرة عربياً، فالحقيقي أنها محاصرة من الداخل قبل الخارج العربي. أما إذا انتقلنا إلى الواقع العربي فالأوضاع أشد إيلاماً. فالعلاقات العربية العربية باتت أسيرة الخلافات المستحكمة، وقد أفرز ذلك تراجعاً في منظمات ومؤسسات عمل الجامعة العربية المشترك لصالح علاقات بين دولة وأخرى أو مع دولتين اثنتين. هذا عدا مسلسل الصراعات والحروب. ولا يعود ذلك إلى الكيمياء الشخصية المفقودة بين الحكام أنفسهم، بقدر ما يعود إلى الأزمة البنيوية العميقة التي تضرب هذه الدول، وعجز الديناميات الداخلية عن تبين طريق الخروج من عنق الزجاجة الذي يخنقها واحدة واحدة، ويقوض الوطني والقومي معاً، ومعه أركان دولها وكياناتها ومؤسساتها لصالح المشاريع الطائفية والمناطقية والعشائرية والحسابات الفئوية. وكل هذا هو الوصفة الأنجع المنتجة للحروب الأهلية والبينية المدارة من الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وايران ومن يرغب. عن أي تنمية “يرطنون” وقطار التدمير يتابع اكتساح المدن والقرى وعمران البلاد ومجتمعاتها.    

[author title=”كتب محرر الشؤون الاقتصادية” image=”http://”]كتب محرر الشؤون الاقتصادية[/author]