*جهاد الزين
أُشَبِّه الوجودَ الايراني في الشرق الأوسط حاليًا بناطحة سحاب ذات أساس مهترئ. البلدان حيث تمارس إيران تأثيرًا – سوريا ولبنان والعراق واليمن – هي دول فاشلة، ترزح تحت وطأة النزاعات والفساد والمعاناة الاقتصادية بدرجات مختلفة. ليست للوجود الإيراني في المنطقة قيمة إنقاذية تُذكَر للمجتمعات حيث تمارس إيران نفوذها. وفي ما يُشبه إلى حد كبير ما حدث في العقود الأخيرة للاتحاد السوفياتي، أكثرالمعجبين بـ”محور المقاومة” الإيراني هم أولئك الذين لا يعيشون في ظلّه.
كريم سادجادبور
(باحث أميركي من أصل إيراني في مؤسسة كارنيغي)
يفتح بعض الحكام باب المستقبل، ولكن الرياح التي تهب منه قد تطيح بهم. في تاريخنا الدولي المعاصر ميخائيل غورباتشيف هو المثال الأهم على ذلك. فتح غورباتشيف باب المستقبل، ولكن تبيّن أنه باب النهاية، قبل أن تحاول روسيا في نهاية التسعينيات مع فلاديمير بوتين لملمة بقايا الأمبراطورية، وإعادة تماسكها عبر تصلب مركزي سياسي وجيوبوليتيكي، لكنه لا يزال قاصرا اقتصاديا سوى في جعل البنية الريعية للاقتصاد النفطي والغازي تخدم المصالح الجيوسياسية.
أما في العالم العربي فإن نظام حسني مبارك هو المثال. حاول مبارك إقامة ديموقراطية، حرية تعبير محدودة، وليس ديموقراطية تناوب على السلطة، ولكنه ذهب بعيدا في تخيّل قدرته على تطويع “الدولة العميقة”، لصالح عملية توريث عائلية فعاقبه الجيش، المؤسسة الضخمة والمحترمة، وأي عقاب! صحيح أن الجيش المصري يدير الدولة والاقتصاد إلا أنه ليس مؤسسة توريث عائلية في أعلى السلطة. كان الفساد والترهل قد نخرا هياكل نظام مبارك رغم محاولاته تجديد البنى التحتية الخدماتية. ولكن ثلاثين عاما كانت فترة طويلة ضاعف من ترهلها، فقدان النخبة السياسية العليا أي حس صلة مع الواقع الذي نشأت فيه أجيال جديدة، لاسيما في الطبقات الوسطى المدينية. سيقول حسني مبارك لباراك أوباما في ذروة اعتصامات ميدان التحرير، وحسب ما نقله أوباما في مذكراته: “أنا أعرف شعبي. سيهدأ سريعا”. وتبيّن أنه لم يعد يعرف الأجيال الجديدة من الشباب الجامعي، ومن الضباط الذين كانوا ينتظرون فرصتهم لإفشال مشروع توريث ابنه، وللخلاص من عدو داخلي يرونه، تهديدا للسلم الأهلي المصري ولشخصية مصر، وهو كذلك، أي “الإخوان المسلمون” الذين أظهرت سنةٌ قلقةٌ من حكمهم مدى قصورهم وعجزهم وظلاميتهم، فانقضّ عليهم عام 2013 “تحالف” عملي شبابي ليبرالي من مئات الألوف مع المؤسسة العسكرية، ليتحول عبر جناحه العسكري إلى حكم طامح لمشاريع تحديث كبرى في الاقتصاد والخدمات.
في مصر، في تونس، في سوريا، في ليبيا، خلال ثورات “الربيع العربي” أواخر 2010 وفي عام 2011 ساهم جيل شبابي، مديني حَسَن التعليم والإعداد في مجال استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في إثارة حركات احتجاج ضد أنظمة بلدانهم الأوتوقراطية، ولكن كان دورهم على فعاليته، مساهما فقط لأنه سرعان ما انقضّت فروع مختلفة من حركات “الإخوان المسلمين”، المنظّمة والرجعية على انتفاضاتهم وسيطرت على مسارها لفترة، قبل أن يجري استبعادها من قِبَلِ قوى علمانية، وبينها حركات نسائية كما في تونس، أو على يد الجيش كما في مصر بشكل تام وناجز، أو في سوريا بعد تحوّل الوضع نحو حرب أهلية. أما في لبنان ولو بعد تأخُّرِ سنوات فالجيل نفسه أطلق ثورة 17 تشرين عام 2019 التي ستصطدم بقوة النظام الطائفي ، حتى لو كان هذا النظام يدير دولة منهارة، مما جعل النظام اللبناني حالة “زومبيّة” (ميّت حي) ضاعف من انهيارها واحدة من أكبر الانهيارات في التاريخ المصرفي، شبهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وأمين عام الأمم المتحدة بعملية “بونزي” الاحتيالية الشهيرة.
و لكن كما في روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، والعالم العربي ما بعد “ثورات الربيع العربي”، فإن التوقعات حول الديموقراطية يجب أن تكون متواضعة. لربما علّمنا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين في العالم العربي أن قضية التحديث والإنماء المستدام ستكون منفصلة عن القضية الديموقراطية. لن يستمر الظلام الطالباني الدامس في أفغانستان. لكن البديل ليس السلام والاستقرار، بل المزيد من الحروب الداخلية الصغيرة والكبيرة. مع أنه من المفزع لمن ليس لديه من سكان المنطقة “رأس جسر” في الغرب، أن نتصوّر منطقة تحت حكم نظام ديني في كلٍ من إيران وافغانستان، والشكر ليس للأقدار في مصر بعدما نجح الجيش المصري، وأظن بشكل نهائي، في منع قيام نظام ديني يقوده “الإخوان المسلمون”.
من حسن الحظ أن المشاكل والمعضلات التنموية التي كانت تتصل “سابقاً” بفشل الأنظمة السياسية أي بالسياسة بالمعنى التقليدي، فتح التقدم العلمي أو سهّل حلَّها، ويفتح كل يوم ولا يزال ذلك، مثل مشاكل ندرة المياه والزراعة، ولو بقيت القضية الكبرى في الاقتصاد الاجتماعي هي توزيع الثروة. إني من المتأثرين بالنظرة المتفائلة التي تربط استمرار المشاكل التنموية العامة المستعصية بـ”حدود جهلنا” لا سيما في مجال الطاقة البديلة والزراعة. مثلا، موضوع المياه في الشرق الأوسط، فصحيح أن المنطقة في أجزاء كثيرة منها تشهد ندرة مياه، لكن تقدم وسائل التكنولوجيا جعل من عامل تحلية مياه البحر مجالا تزداد سعة انتشاره رغم كل الأثمان البيئية التي لا تزال تحتاج إلى معالجة. يعني هذا تضاؤل إمكان نشوب حروب المياه حتى لو بقيت مواقع استراتيجية مصدر نزاعات خطرة كمياه نهر النيل بين أثيوبيا والسودان ومصر.أستثني مصر من المشهد القاتم لـ “عرب الماء” أو معظمهم. فعلى كل مشاكلها تبدو هذه الدولة حاملةً لإمكانات تطور في أكثر من قطاع، بينها قطاع المعلوماتية والاتصالات، لاسيما في ظل مشاريع كبرى كالعاصمة الإدارية الجديدة البعيدة قليلا عن القاهرة، وتوسيع مجرى قنال السويس وبدء علاجات يبدو أنها واعدة لمعضلة “العشوائيات” السكنية. من المتوقع أن يستمر النظام الديني الإيراني في حالة دفاعية داخليا رغم هجوميّته الإقليمية. هذه الازدواجية صارت من طبيعته كنظام، لكن بالمقابل فإن العلاقات السعودية الأميركية تشهد تحولات بطيئة وعميقة من الصعب انتظار تبلورها، طالما السوق العالمية لا تزال بحاجة ملحة لإمدادات النفط والغاز.
هل نحن في حقبة تشبه انتقال العالم من الفحم الحجري كمصدر للطاقة إلى النفط في الربع الأول من القرن العشرين، من حيث الانتقال ولو المتدرِّج من النفط والغاز إلى الطاقة البديلة؟ هذه تحولات لا يمكن أن لا يذهب معها العالم إلى تحولات سياسية. أين العالم العربي من ذلك؟ علينا أن نراقب عدد السيارات العاملة على الكهرباء في الدول الصناعية الكبرى، ومتى ستنتقل من الاستثناء إلى أن تصبح القاعدة. أتاح ولي العهد السعودي أمام الوضع السعودي مجال تغيرات داخلية تنال استحسان قطاعات واسعة من الأجيال السعودية الشابة رغم طابع هذه التحولات التحديثي غير الليبرالي سياسياً. لكنه طابع يَسِمُ معظم المنطقة، منطقتنا، التي تتجه للتأرجح بين تحديثيّين غيرديموقراطيين وبين مشاريع ديموقراطيات غير ليبرالية إذا استخدمنا تعبير فريد زكريا الشهير. لكن المشكلة أن في القلب من المنطقة نظاماً عنصريا إسرائيليا، لم يفك بعد ظلامة الشرق الأوسط الأولى المتمثلة بوضع الشعب الفلسطيني. ستكون الازدواجية الإسرائيلية بين التقدم العلمي والعنصرية ازدواجية تُنتِج حركة حقوق مدنية في الضفة والقطاع وداخل إسرئيل، خصوصا داخل إسرائيل، شبيهة بحركة الحقوق المدنية السوداء في الولايات المتحدة الأميركية.
لا تزال المنطقة بانتظار “الجائزة الكبيرة” التي سينالها الغرب بعد الجائزة المصرية الأولى في اتفاقات كامب دايفيد عام 1978 ، وهي على الارجح الجائزة السعودية المتمثلة بالعلاقات مع إسرائيل. لكن القرار السعودي السياسي حتى بعد أن أعلن ولي العهد السعودي لصحيفة “ذي أتلانتك” في مقابلة شهيرة أن “إسرائيل حليف محتمل”، سيكون مسبوقا ربما بخطوات اقتصادية معلنة وغير معلنة. وسيكون مسبوقاً أيضاً بتفاهمات تنسجم مع الحجم الكبير للسعودية، وتحولها إلى عامل تغيير في المنطقة، وحرصها على أن يشكّل التحول عنصر دفع ملموس في الموضوع الفلسطيني. إن الأيديولوجيين العرب والمسلمين في المنطقة الذين يصرخون ويبكون أمام هذه التحولات، من المفترض أن لا يلوموا إلا أنفسهم لأنهم لم يقدموا النموذج الدولتي الواعد الذي يصد إسرائيل حضاريا.
تبيّن أن الصين في القرن الحادي والعشرين نموذج للتقدم الاقتصادي لا يشترط التقدمُ فيه الانفتاحَ الديموقراطي. لكن واحدة من أكبر ظواهر الحالة الصينية، كما أظهرت دراسة قبل أكثر من عشر سنوات عن معهد بروكينغز هي أن الطبقات الصينية الوسطى الجديدة الواسعة والمستفيدة مباشرة من التقدم الاقتصادي، لا تتطلّع بالضرورة إلى الديموقراطية كأولوية، لا بل يذهب بعض الباحثين والمراسلين الغربيين إلى أنها تخشى بصورة ما أن يتحوّل الإصلاح الديموقراطي إلى عنصر تفتيت للصين يهدد مكاسبها. النقطة الثانية الجوهرية هنا هي مدى ما أظهرته بعض المجتمعات المسلمة والعربية ونخبها، سوى أقليات نخبوية، من عدم جاهزية لقبول الفكرة الديموقراطية والسعي للالتزام بها. والتجربة الأفغانية، وهي مجتمع مسلم عريق، مخيفة على هذا الصعيد من حيث أنها أظهرت استعداد مئات ألوف من السكان، وربما ملايين، للقبول بنمط حكم ظلامي كحكم “طالبان”. وإذا كان من اعتراض عليه فهو في الصراع بين الاصوليين أنفسهم. في التوقعات السكانية العالم العربي هو بين المناطق المنتظَر أن تشهد زيادة كبيرة في السكان. هذا يعني عناصرإيجابية، توسيع الاقتصادات الاستهلاكية، وسلبية من توترات اجتماعية إذا بقيت المنطقة دون حل عادل للموضوع الفلسطيني، يواصل جعلها مشرّعة على الاحتقانات الأمنية والأيديولوجية والسياسية. يلفت النظر الشك العميق الذي لا زال يسود في أوساط النخبة الأردنية حيال المشاريع الإسرائيلية، رغم العلاقات الأردنية الإسرائيلية المستقرة والوطيدة. ومن حين للآخر يمكننا أن نقرأ مقالات حتى لشخصيات شرق أردنية معتدلة مثل الدكتور مروان المعشر الذي دعا مؤخرا دولته الاردنية إلى إعادة تقييم استراتيجية للعلاقة مع إسرائيل ومسارها.
هناك وسط هذه الصورة الكئيبة، نضال نسائي شجاع في أفغانستان، بل إن الحركة النسوية التونسية، إلى جانب شرائح علمانية شبابية ونخبوية، أظهرت قدرتها على الفعل السياسي الناجح في مواجهة الأصوليين. المجتمع السوري من حيث إفرازه لتيارات أصولية واسعة هو مثال سلبي، رغم الدور الكبير السابق للتيارات الشبابية النخبوية من الطبقة الوسطى المدينية.
*نشر في جريدة النهار بتاريخ 24 حزيران 2022
Leave a Comment