ثقافة

قصة قصيرة.. أغمض عينيه بانتظار عودة السنونو

عائدة خداج أبي فراج

حقول متمادية لوَّنها فصل الخريف بريشته، فتمازجت ألوانها، وتراوحت بين الاحمر والأصفر والبني، تزينها وريقات خضراء، لا يتعدى تعدادها أصابع اليد ما زالت متمسكة بأغصان الأشجار بانتظار أول هبة ريح خريفية تلحقها بأترابها، وتحملها الى حضن أمها الأرض.

نظر عمار الى الحقول المحيطة به، فبدت وكأنها بساط مزركش حاكته أوراق الاشجار التي افترشت الأرض كي تنام وتستريح. ثم نظر الى السماء، فرأى أسراب السنونو ترقص رقصة الوداع وهي في طريقها الى الجنوب. تمنى لو يستطيع مرافقة السنونو هجرتها فيتحقق حلم العودة الى وطنه المحتل السليب.

جلس عمار فوق صخرة مزنرة بالأشجار، وأخذ يلملم بعض ما تساقط من اوراقها ويمتع النظر بألوانها. الأحمر رمز الثورة التي ناضل جيله واستبسل من أجلها، والاصفر رمز المؤامرة التي تحاك بوحي من الخارج في عملية قضم وفرز وضم، والبني هو لون الارض المحروقة، التي يعتمدها العدو المحتل في محاولة لابتلاع الوطن برمته واقتلاع أهله من الجذور.

أعاده صوت زقزقة السنونو المهاجرة من تأملاته وتساءل:

“هل تفرح السنونو بهجرتها لأنها تعلم أنها حتماً ستعود؟ ليت حالي كحالها”، قال لنفسه وتنهد محاولاً حبس دموعه في أطراف العين.

منذ بدأت صفقات بيع فلسطين بثلاثين من الفضة، وهو يأتي الى هذا المكان، يشده الشوق إلى وطنه الذي يمتد جنوباً بمحاذاته. أخذ ينتشل ذكريات الماضي من وحول الذاكرة، فيتساقط بعضها وينجو البعض الاخر. شريط سريع متقطع مر أمام عينيه تلفه غشاوة الزمان. تذكر كيف كانت أرجل وبنادق جنود العدو الغاشم تركل مؤخراتهم، وتدفع بهم خارج قراهم متزامنة، ولكنات غريبة تقول: “عربي وسخ. هيدي ارضنا مش أرضك. هيدي أرض شعب الله المختار مش ارض الاغيار“، اصوات اشباح قادمة من أساطير تلمودية تهدد وتنذر بالثأر. تلامحت أمامه صور المجازر والجثث المرصوفة وسط الطرقات وعلى جوانبها. كان يومها في السابعة من عمره، فلم يدرك ابعاد المؤامرة. همه الأوحد كان أن يبقى ممسكاً بعباءة أمه بعد ما ضاع الوطن، وخوفاً من العيون الشاخصة للجثث التي تسبح بدمائها. وبعد معاناة طويلة وجد نفسه يحل وامه ضيفين في وطن شقيق على أمل أن يعودا مع عودة السنونو المهاجرة.

تنهد عمار من جديد وقال لنفسه: “لماذا أعود دائماً إلى هذا المكان بعيداً عن المخيم الذي نحشر فيه كأفراخ سمك السردين في علب معدنية؟”

كثيرة هي الاجوبة التي جالت في رأسه. لكن جواباً واحداً بقي عالقاً ينقر جدار الذاكرة كي يخرج إلى العيان. وجد نفسه يقول: “أعود اليوم كي انظر باتجاه وطني المصلوب على خشبة تتقاذفها المطامع والمصالح. أعود لأتنشق الهواء الذي لامس ترابه، ورائحة زهر الليمون التي تتسرب من ثقوب ذاكرة أمي وحكاياتها. اعود لأتحقق من وجوده بعدما تداعت إلى مسمعي اقتراحات الحلول التي تحاك له في غيابه في مؤتمر “صفقة القرن”، الذي يحاول فيه المؤتمرون ايجاد الحلول والبدائل لأهله وناسه، عن طريق التوطين في أرض الشتات. تلمس عمار مفتاحاً معلقاً حول عنقه بربطة قماشية لفتها امه بأناة من كوفية ابيه الشهيد، ربطتها حول عنقه وقالت: “هذا هو متاعنا الوحيد الذي تمكنت من حمله. مفتاح ستحتاج إليه حين تعود يا ولدي. اياك أن تفرط به أو تفقده. حافظ عليه بأهداب العين، فهو سبيلك الى الوطن. منذ عشرين عاماً انتقل هذا المفتاح من عنق أمي إليَّ قبل وفاتها بيوم واحد. “إنه كل ما تبقى لها من الارض المقدسة التي رحلت عنها وهي تحمل الوطن في العينين”، قال عمار لنفسه وهو يهز رأسه أسفاً على أمة تجتمع فقط كي تختلف، والعدو يتمادى في استباحة الارض وقضمها شبراً شبراً، يعيد رسم الخرائط والحدود، يزوِّر التاريخ، ويمحو تراث شعبٍ بأكمله.

تلمس المفتاح بيده، فأخذت الافكار تتزاحم في رأسه كزخة مطر نيسانية أحيت فيه مشاعر وأحاسيس كانت قد غفت في قعر الذاكرة. توهج في قلبه جمر الحنين إلى وطن تعشش فيه الكرامة، وإلى أرض الاجداد مذ كان التاريخ. لقد ملَّ اللجوء والمخيم الغيتو الذي زجه فيه العدو ثأراً لماضيه الغيتوي في بلاد الغرب. فهو لا يريد أرضاً سوى أرضه، ولا وطناً سوى وطنه، ولا هوية سوى هويته الفلسطينية. بدأ عمار يحترق بجحيم الذاكرة.  نكبات ونكسات، وعود وآمال تمحوها الصفقات ومؤامرات العار والذل. بدأت الأحداث المتراكمة في أرحام السنين تأخذه بعيداً ثم تعيده إلى أرض الواقع. لقد تعفن شعبه في خوابي الانتظار، وتبخرت أحلام العودة، لكن عمار استدرك وقال لنفسه: “لكن الاحلام لا تموت. قد تنكسر، لكنها تعود لتطل برأسها من جديد، حاملة معها خريطة فلسطين الراسخة في الوجدان وبين طيات الذاكرة.”

وقف عمار وهو ينفض عنه ما تساقط عليه من أوراق الشجر الخريفية. نظر إلى الصخرة التي تنظر جنوباً، والتي اعتاد أن يجلس فوقها وقال لنفسه: “لن أبقى مقيداً الى صخرة كما حكمت الالهة على بروميثيوس بعدما سرق منها سر النار تنهش الطيور كبده كل يوم . اني سأختار الموت أو الاسر، فليس ثمة من مستحيل.”

نقلته كلمة مستحيل إلى قول لجلجامش مخاطباً الإله شمس: “ما دام ثمة مستحيل، فلماذا خلقت بي الرغبة في المستحيل؟”، ثم مشى باتجاه الجنوب، باتجاه وطنه الجريح على وقع صوت تكسر اوراق الشجر، وتقصف الاشواك تحت قدميه، وتفتت الكتل الترابية التي تنتظر زخات مطر تشرين كي ترتوي. أسكره لفح الهواء لوجنتيه، هواء مثقل برائحة شجر الليمون المنبعثة من ثنايا عباءة أمه وحكاياها عن الايام الخوالي في فلسطين. تذكر قول السيد المسيح: “أحمل صليبك واتبعني.”

قرر أن ينضم إلى السائرين على درب الجلجلة، درب الآلام. سينضم إلى قافلة الشهداء الذين رفضوا أن يدفنوا أحياء سار نحو الحدود التي تفصل بين البلد الذي استضافه لاجئاً، وبين وطنه المحتل الذي ابتلعته الذاكرة القومية منذ أمد بعيد. كانت الشمس لافحة تجلد وجهه، وبدأ العرق يرشح من مسام جلده. لم يدر كم مضى من الوقت مذ ترك الصخرة وراءه، عندما وجد نفسه أمام حائط أسمنتي ضخم، يستحيل القفز فوقه أو اقتحامه، تعلوه الكاميرات من كل جانب. تهادت إلى مسمعه أصوات جنود العدو من وراء الحائط. تابع سيره عله يجد فجوة يستطيع النفاذ منها. شعر بثقل في قدميه فهو في خريف عمره، كما هو حال الطبيعة حوله. كتم ألمه ومشى بحثاً عز فسحة محصنة بالأسلاك الشائكة تشكل بارقة أمل بالنسبة إليه.

أخذ يجر جسده الذي خانه أكثر من مرة من شدة الإعياء حتى وصل أخيراً إلى مبتغاه. وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الاسلاك الشائكة. خطوات وتطأ قدماه أرض الوطن. “سأعود حتى ولو كنت جثة هامدة. سأدفن في أرضي وأتلحف ترابها”، قال لنفسه.

نظر من بين الأسلاك فرأى العشرات من الجنود والاليات الضخمة الجاهزة لكل طارئ. قرر أن يقتحم الاسلاك، فإما الموت أو الاسر. بدأت صفارات الانذار تدوي حتى صمت أذنيه. أخذ الجنود يهرولون كل في اتجاه، يطلقون النار في كل الاتجاهات كأن باب جهنم قد فتح على مصراعيه بعدما تملكهم الرعب والخوف. شعر بحرارة الدم النازف من جسده، وتفجرت في عينيه دموع متحجرة منذ النكبة، لتمتزج بدمائه وتروي أرض فلسطين. أمسك به رجال جيش العدو وأخذوا يركلونه بأقدامهم، وينهالون عليه ضرباً بأعقاب البنادق، تماماً كما فعلوا منذ عقود يوم ترحيلهم من فلسطين وهو في السابعة من عمره.

استفاق من غيبوبته ليجد نفسه منقولاً على حمالة تحيط به وجوه الغرباء وتطن في أذنيه لكناتهم الغريبة. تذكر أمه وحكاياها عن العودة العابقة برائحة زهر الليمون اليافاوي. تلمس المفتاح – الهوية وتأكد من وجوده، فاستراح واعتلت الابتسامة شفتيه. أخذ يتساءل في دخيلته إذا كان ما فعله صواباً أم خطأ. حضره رد فرويد على طلب الصهاينة لدعم مشروعهم الاسطوري التلمودي حين قال:”هل كل ما رغب يهودي في ضرب رأسه بحائط المبكى، يجب علينا أن نطرد شعباً كاملاً من أرضه؟”

ثم ابتسم وقال لنفسه: “لكني قد عدت”، ثم أغمض عينيه وغاب.

Leave a Comment