المؤتمر العام الخامس لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان يُقرر التحوُّل إلى:
منظمـــة العمــل اليساري الديمقراطي العلماني
معاً لبناء حركة لبنانية وعربية تبني وحدة الشعوب على أسس المواطنة والعدالة الإجتماعية
منشورات “بيروت الحرية” / كانون الثاني 2022
*****************
تحية وعهد…
إلى شهداء منظمة العمل الشيوعي في لبنان،
وكل الشهداء والمخطوفين والمفقودين من الشعب اللبناني.
إلى المناضل محسن إبراهيم أمين عام المنظمة،
وجميع قادتها ومناضليها الذين رحلوا.
إلى كل المنتفضين في 17 تشرين الاول 2019،
وجميع المناضلين من أجل وطن ديمقراطي علماني.
المكتب التنفيذي لمنظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني
***********************************************
المقدمــــــة
ينشر موقع “بيروت الحرية” الألكتروني وثائق المؤتمر العام الخامس لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان، والذي كرّس التحول إلى بناء وتأسيس “منظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني“ كما صار عليه اسمها بموجب التعديل الذي أقره هذا المؤتمر. وكانت بواكيره واضحة في المؤتمر العام الرابع للمنظمة الذي عقد في تشرين الثاني من العام 2018 الذي دعا بوضوح إلى قيام حزب يساري ديموقراطي علماني، عطفاً على المراجعة التي أجرتها المنظمة منذ العام 1988 وحتى العام 2009 والتي تولاها في المقام الأول أمينها العام الراحل محسن ابراهيم بالتفاعل مع لجنتها المركزية ومكتبها السياسي ـ التنفيذي، وصدر العديد من وثائقها عبر منشورات “بيروت المساء”.
يتضمن هذا التقرير عدة وثائق يتطرق أولها إلى ما صارت عليه المنظمة لجهة الهوية الفكرية والاسم الجديد، ويقرأ التطورات الدولية العاصفة في مراكز العالم الرأسمالي المتقدمة بأزماته وصراعاته، ربطاً بجائحة كورونا ومتحوراتها. وكذلك ما شهده ويشهده العالم الثالث من قصور وأزمات. ويفرد التقرير الأول حيزاً واسعاً لمناقشة ما آل إليه الفكر الاشتراكي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وكامل منظومة الدول الاشتراكية. ويعطف ذلك على مسألة الديموقراطية والعلمانية وأهمية التزامهما في ظل الحروب الأهلية المعلنة والمستترة في طول المنطقة العربية وعرضها. ويعالج التقرير الثاني أوضاع الدول والكيانات العربية عموماً في ظل ما تعانيه من فوضى وتمزق بفعل التدخلات الاقليمية من جانب كل من اسرائيل وايران وتركيا، فضلاً عن التدخل الاميركي الأهم، وكذلك الروسي والصيني والفرنسي. ويتوقف عند أوضاع عدد من البلدان المؤثرة على لبنان ممثلة بكل من العراق ومصر وسوريا، بالاضافة إلى التحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية. أما التقرير الثالث فمخصص بالكامل للبنان من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية. ويتناول أزمة النظام السياسي، ويعرِّج على أوضاع سائر أطراف منظومة السلطة ومأزق كل منها. كما يفرد مقطعاً كاملاً لمناقشة مشروع حزب الله ومعضلة سلاحه ودوره الاقليمي ومضاعفات ذلك داخلياً، بما فيه الانتفاضة التي شكلت محطة استثنائية في تاريخ البلد، وما أحاط بها من ملابسات ونتائج. كذلك يعرض الآثار المعيشية والاجتماعية للانهيار المالي والنقدي الذي يعيشه لبنان وعوامله ومضاعفاته ومخاطره. ويضع ملامح أولية وعامة لدور متجدد للبنان واقتصاده في محيطه العربي. ويتناول التقرير الرابع الشؤون البرنامجية، والخامس التوصيات والقرارات. وأخيراً النظام الداخلي لمنظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني الذي ينقل العلاقات الداخلية من الديموقراطية المركزية ذات الجذر الماركسي ـ اللينيني إلى الديموقراطية الرحبة، التي تتيح تشكل معارضة وتكوّن تيارات تمتلك الحق في التعبير عن آرائها ومواقفها.
تعكس هذه التقارير تطوراً نوعياً في طروحات هذا التنظيم اليساري لجهة التخلي عن الماركسية دون إعدامها أو التنكر لها، والتزام خيار الديموقراطية والعلمانية كحل للنزاعات المقيمة في المجتمعات العربية والتي تقذف بها نحو العنف التدميري. واعتبار الأولى حصيلة صراع سياسي ـ اجتماعي عالمي. والثانية باعتبارها الحل لمعضلة الهوية والوحدة الوطنية لكيانات المنطقة والنسيج الاجتماعي لشعوبها. يتعزَّز ذلك في ضوء قراءة الوضع العربي وتحوله إلى مسرح مفتوح على التدخلات الاقليمية والدولية، والواقع اللبناني بأزماته ومآزقه السياسية والاقتصادية ومعضلاته البنيوية التي تطاله، في منطقة تترنح كياناتها ودولها بفعل انفجار بنيانها الداخلي في امتداد مشكلة أكثرياتها وإشكاليات أقلياتها العرقية والطائفية، وما تتعرض له من ضغوط خارجية من بواباتها المتعددة.
لا تدَّعي “منظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني” أنها قالت الكلام النهائي والفصل في كل الموضوعات التي تناولتها تقارير مؤتمرها الخامس، وهي إذ تطالب نفسها كما الآخرين بالمساهمة العامة في تعميقها ونقدها وتطويرها، فإنها في المقابل تؤكد أنها في مساهمتها ومبادرتها التغييرية هذه، إنما تفتح السبل أمام قوى التقدم والحداثة نحو قراءة تجاربها والتفاعل الإيجابي مع التطورات. كما تلح على وجوب وضع نصب أعينها أن النضال في سبيل التحرر من الاحتلال الصهيوني والتمزق، وفي سبيل الوصول إلى الديموقراطية والحداثة يتطلب جهوداً ومثابرة من كل القوى التقدمية والعلمانية نحو إنقاذ الدول والكيانات والمجتمعات العربية مما تتخبط به من أزمات عاصفة، واستباحة كاملة لجغرافيتها والتي تضعها أمام تحديات كبرى، تكاد تجعلها خارج التاريخ وتقذف بنخبها وشعوبها إلى المنافي واللجوء.
إن “منظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني” التي تستعيد من خلال هذه النصوص وسواها، مع مساهماتها الفكرية والتحليلية وعبر نضال رفاقها وكوادرها نبض تاريخها وعطاء قياداتها وقيادييها الراحلين، الأمين العام للمنظمة محسن ابراهيم وأمين سر مكتبها التنفيذي الرفيق خالد غزال والمسؤول السياسي لمنطقة الجنوب محمد على مروة (أبو حسن) وقبلهم المناضلة النقابية والنسوية وداد شختورة ومسؤول منطقة البقاع محمود الشوباصي والرفيق الشهيد حسن بزون رئيس تحرير مجلة “بيروت المساء”، والرفيق المخطوف عدنان حلواني عضو المكتب السياسي ومسؤول هيئة منطقة بيروت قبل وأثناء اجتياح لبنان واحتلال عاصمته من قبل جيش العدو الاسرائيلي صيف العام 1982... ومئات الشهداء والرفاق المناضلين. وتؤكد للمناسبة استمرار العمل والسعي الدؤوب لتكريس ريادتها الفكرية والنظرية ضمن اليسار اللبناني، وفي مواصلة الخوض في معترك العمل الوطني والمساهمة في المضمار العربي لجهة كشف المخاطر المحدقة، وتحديد بوصلة المواجهة نحو إنقاذ الكيانات والدول والشعوب مما تعانيه. وهي بهذا المعنى تتابع مغالبتها اليومية على الساحة اللبنانية من أجل مواطنية ووطن ديموقراطي علماني عربي الهوية والإنتماء تسوده العدالة الاجتماعية والحريات والتنوع.
بيروت ـ كانون الثاني 2022 منظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني
*****************************
الوثيقة التأسيسية حول الهوية الفكرية والإسم
إن البحث الذي جرى على إمتداد سنوات طويلة في التوجهات الفكرية والاسم الجديد قبل انعقاد المؤتمر الخامس لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان، والأول لمنظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني، شكل مسألة جوهرية وحاسمة في بناء ومستقبل التنظيم السياسي الذي ننتسب له. وهي قضية تقع في امتداد اهتمامات قيادة وكوادر التنظيم لتعميق النقاش الفكري المتفاعل مع ما ذهبت إليه المراجعة الفكرية السياسية التنظيمية لتجربة منظمة العمل الشيوعي واليسار اللبناني، التي تولاها الرفيق الراحل الامين العام للمنظمة محسن إبراهيم واللجنة المركزية والمكتب التنفيذي، والتي حملتها الوثائق الصادرة عن مؤتمراتها، وهي المراجعة التي تواصلت بعد رحيله خلال السنوات المنصرمة.
لقد توقف تقرير المؤتمر العام الرابع للمنظمة خريف العام 2018، عند التطورات التي طرأت عالمياً وعربياً، كما تضمن مبادرة فكرية: “من أجل حزب يساري ديمقراطي علماني، ومن أجل حركة علمانية ديمقراطية لبنانية وعربية”. لكن البحث في التوجهات الفكرية استمر مستنداً إلى آخر ما شهده العالم من تطورات عاصفة، كان آخرها تفشي وباء كورونا، الذي باغت البشرية في عموم مجتمعاتها، وفرض عليها إعادة نظر بالبُنى والهياكل السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية.
لقد وضع الوباء العالم أمام حقائق تواجهه للمرة الأولى على هذا الصعيد منذ حوالي القرن. وقد كشفت الوقائع وما حصدته من أرواح بشرية، وما تسببت به من خسائر مادية يصعب حصرها، عن عمق الأزمة، وأماطت اللثام عن المآزق التي يعانيها الانسان، ووضعت أمام الامتحان الكثير من مقولاته ومنظوماته وتبسيطاته السابقة. والملفت أن هذه الجائحة قد أصابت أكثر ما أصابت الدول ذات المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. وأظهرت عجزها عن مواجهة الوباء والسرعة في كبح جماحه. ومع الاعتقاد أن هذه الموجة لن تكون الأخيرة، خاصة في ظل نمط الانتاج العالمي الراهن (الانتاج المتوسع باستمرار، وطريقة التعامل مع المواد الخام، ومفهوم السلعة و…) وعلاقته مع قضايا المناخ والبيئة والأوبئة ومسألة الطاقة والطاقة البديلة وما تطرحه من أسئلة كثيرة مرتبطة بها، أو بمسائل نقل العلوم والتكنولوجيا وقضايا الملكية الفكرية وما إلى ذلك. ما يعني أن الانسان سيشهد تحديات أكثر قسوة في المقبل من أيام وسنوات.
وفي ما استطاعت المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، تجاوز سياسات إعطاء الأولوية للاقتصاد على البشر، ومعاداة فكرة دولة الرعاية والإعتراض على التأمينات والضمانات الصحية، ورغم الثمن الفادح الذي دفعته، ونجاحها في وضع الخطط ليس لإنتاج اللقاح فقط، بل للتعافي والحد من آثار الوباء على الصعد الصحية والاقتصادية والمجتمعية، إلا أن مضاعفاته الكارثية لم تزل تلقي بظلالها على كل المستويات.
وإذ بدت الدول والشعوب الأقل تقدماً أمام أوضاع لا تُحسد عليها، بالنسبة للوباء، وخاصة منها ذات المرجعيات الدينية التي جنحت في البداية، نحو إنكار وجود الوباء أصلاً، أو اعتباره مجرد مؤامرة للتخفيف من الكثافة السكانية على سطح الكوكب، وقرنت ذلك بتنبوآت أو تفسيرات ـ ابوكالبسية ـ تتوقع نهاية البشرية، وتدعو للعودة إلى الغيبيات، وأرفقت ذلك بمجموعة من الأفكار والوصفات وتراكيب علاج الوباء المستشري عالمياً. وذهب بعضها إلى حد رفض تلقيح سكانها ومعتنقيها بما أنتجته مختبرات وعلماء الغرب، اعتقاداً أن اللقاح المنتَج يستهدف السيطرة على البشر في حاضرهم ومستقبلهم وتقرير بقائهم أحياءً أو أمواتاً. وتقاطعت معها في رفض اللقاح تيارات يمينية ويسارية متطرفة وشعبوية في دول عريقة في الديمقراطية والحداثة.
وعدا إنكار وجود الوباء بدايةً، فإن الدول الفقيرة التي تعاني سلطاتها السياسية من قصور اقتصادي ومنظومات فكرية وثقافية واستشرافية متخلفة، قد عجزت على نحو فاضح عن التعامل معه ومواجهة مضاعفاته. يؤكد ذلك ما اصاب قطاعات ومرافق اقتصاداتها من خسائر، وهي المعاقة أصلاً بشكل مزمن. ما تكشَّف عن عمق الهوة الحضارية التي تعانيها تلك البلدان في مختلف المجالات، عبر فقرها الحاد علمياً ورقمياً واقتصادياً وصحياً، وفي مجال امتلاك أجهزة ووسائل التواصل وتأمين تسيير عجلة التعليم والإنتاج في ظل ظروف الحجر، وعجز مقدرات قطاعيها الطبي والاستشفائي عن المواجهة.
إن الدخول من باب الوباء في رصد الوضع العالمي، نعطفه على أزمة النظام الرأسمالي في شتى تجلياته فكراً وممارسة وصحة واقتصاداً. وهو ما يدفعنا للقول أن هذا النظام بات عاجزاً عن لعب الدور الذي طالما لعبه في تحويل الأزمات وتوظيفها لصالحه، والتكيّف مع أحكامها وتجاوزها، على حساب الفئات الشعبية في المجتمعات المتقدمة والدول والمجتمعات النامية والفقيرة.
لقد سبق عاصفة الوباء، ثورة علمية تقنية ارتادت آفاقاً متقدمة، ترافقت مع تغييرات كبرى طاولت المفاهيم العميقة في الاجتماع والسياسة والثقافة، وأدت إلى تبدلات مهمة في بُنية الرأسمالية. كان من شأنها دق الباب امام أزمة هي الأولى من نوعها في تاريخها، أزمة بين الرأسمالية ونمط التكنولوجيا. ما وضعها امام تحدي التغلب على هذه الأزمة. الأمر الذي لن يتم إلا بتغيير محتوى علاقاتها التكوينية عبر مزيج من الانقطاعات والاستمرار نحو التبدل. لأن الرأسمالية لا تتطور بتكرار نفسها، إنما عبر تبدلات تطال مختلف مستويات بُنيتها.
ولذلك فإن عواصف أزمة الرأسمالية مطلع القرن الحالي في المراكز المتقدمة، وضعت صيغة الدولة التي أطّرت النمو الراسمالي في القرن الماضي امام تحديات كبرى. كما جدَّدت البحث حول دور الدولة بعد نزع صفتها كأداة قمع سياسي ايديولوجي تُكمل الاستغلال الرأسمالي. ما يعني أن الدولة المعاصرة بما هي دولة تسوية طبقية مع غلبة في هيمنة طبقة معينة، لا تسير على نحو مستقيم بعيداً عن توليد التسويات المحكومة بتبدلات موازين القوى بين طور وآخر. لأن صراع الطبقات ليس صراع افكار، إنما هو صراع مصالح وقوى. وهو إطار أوسع من أن يُحصر ضمن حدود تطور قوى الانتاج.
وبعد التغيير الذي طاول البُنية العالمية لمشروع الحداثة، وفشل التجربة الاشتراكية المدُّعاة تحت راية الماركسية، وسقوط الاتحاد السوفياتي، وتعثر دولة التسوية الطبقية بإسم الاشتراكية الديمقراطية تحت سقف الرأسمالية في مراكزها المتقدمة، وامام تطور أزمة الرأسمالية على الصعيد الاقتصادي واندفاعة العولمة في مرحلة الآحادية الأميركية والتناقضات التي رافقتها، فإن الحلول النيوليبرالية عبر العودة إلى منطق السوق، والتي حاولت السلطات اشتقاقها في مختلف المراكز الرأسمالية المتقدمة، كانت قاصرة بدورها عن تجاوز أزمة بنيوية مستعصية على هذا النحو. عدا أنها شكلت دليلاً قاطعاً على قصور التعبير السياسي عن حركة المجتمع على نحو غير مسبوق منذ أكثر من قرن.
وأمام أزمة التمثيل السياسي العامة فُتح البحث في مجمل الصعيد السياسي وتطوراته في مجتمعات المراكز الرأسمالية على نحو شامل، بأحزابه وتياراته وايديولوجياته. لأن الحركة التي رعت مصالح الراسمالية على امتداد ما يقارب قرن ونصف، باتت الآن عاجزة عن مواجهة معضلات أزمتها البنيوية الراهنة، كما ثبت أيضاً قصور الحركة الاشتراكية المتحدرة من الماضي، عن التعامل معها بفعل معاناتها من الشيخوخة.
إن التطور في بُنية الراسمالية، والذي تمّ ضمن أطر قومية تشمل اجزاءً في منظومة رأسمالية عالمية عامة، والتي تشكلت في نظام عالمي هرمي تتربع على رأسه الولايات المتحدة الاميركية، كان يعمل بصفته نظام النُظم القومية القائم على تراتبية، تؤمن لكل منها النمو المركَّز على الذات، عبر حركة التبادل بين سائر مراكزها المتقدمة وفق أوزانها ضمن المنظومة، وعبر حركة تبادل غير متكافئ مع أطراف النظام الرأسمالي.
ورغم عدم اكتمال التطور النوعي المتمثل بتدويل الإنتاج في المدى العالمي الدولي عبر الشركات المتعددة الجنسية وعابرة القارات، فإن مسار التدويل الذي لم يعطِ كامل نتائجه حتى الان، قد ادخل الرأسمالية في تناقض متنامٍ بين الاتجاهات الرأسمالية المدوَّلة وبين أوليات الاقتصادات القومية التي تسيطر على كل عناصر الانتاج وقوة العمل والسوق. ما يعني أن الاقتصادات القومية باتت اضيق من أن تستطيع الرد على تحديات الرأسمالية المدَّولة. كما هو الحال بالنسبة لكل الاقتصادات في المراكز الرأسمالية المتقدمة والاسواق المشتركة المتعددة ولدى الشركات المتعددة الجنسية، وقد تحولت بمجملها حلاً ومشكلة في آن. حيث إنه وفي مقابل الرأسمالية المدَّولة، لا تزال الأطر السياسية التي تتحكّم بسلطة اتخاذ القرار في ما يتعلق بالسيطرة على مجمل العوامل الاقتصادية، أطراً قومية. وهي حتى اللحظة وامام تعثر استكمال أو استبدال الأطر القومية بأطر ما فوق القومية، تواكب وتعادل هذا التطور الخطير والنوعي في تدويل الرأسمالية علی امتداد أنحاء العالم، بدءاً بمراكز الرأسمالية المتقدمة خصوصاً، وانتهاء بأطراف النظام الرأسمالي التي ما تزال تملك آليات سوقها الداخلي.
من المهم الاشارة هنا إلى أن تفشي الوباء جاء مع ذروة الصراع المحتدم القائم والمستمر على الإدارة السياسية بين اطراف المنظومة الراسمالية، حول حركة الرساميل والأسواق المالية والتجارة الخارجية والداخلية، وأسعار السلع وسباق التسلح. بهدف الهيمنة على اقتصاد وثروات العالم ومقدراته، معطوفاً على عودة سباق التسلح والمنافسة على أسواق استهلاكه، واغراق الدول الفقيرة في حروب داخلية وبينية لاخضاعها ونهب مقدراتها. ما ينذر بمزيد من احتدام المواجهات، في امتداد حالة الاضطراب الشديد التي تشحن الأزمة البنيوية الراهنة للراسمالية بمزيد من المعضلات والكثير من عناصر التعقيد. حيث إنه في مقابل أممية راس المال، فإن الدولة القومية التي شكلت مهد نمو وتطور نمط الإنتاج والنظام الرأسمالي، تشهد راهناً اتجاهات وتشكّل تيارات قومية واصولية عنصرية يمينية نازية وفاشية، تحت راية الدفاع عن المصالح الوطنية ـ القومية داخل الدول في المراكز الرأسمالية المتقدمة. يشهد عليها الصراع والتنافس الحاد القائم بينها، دولاً ومنظمات اقليمية متعددة، وسط عسر شديد في إقرار الاتفاقات الناظمة لتحالفاتها حول مصالحها المتباينة والمتناقضة على مختلف الصعد.
ولعل ما رافق الانتخابات الأميركية الأخيرة من صراع بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري هو مجرد مثال حول مضاعفات هذا الوضع على دواخل الدول والمجتمعات. إذ كان لافتاً حضور اليسار في خطاب الحزبين عبر مصطلحات كـ “التقدميون” و”حركة مناهضة الفاشية” كعدو رمزي للرئيس السابق المرشح عن الحزب الجمهوري، بشكل لم تعرفه اميركا منذ ايام المكارثية منتصف القرن العشرين. ومما لا شك فيه أن أداء الإدارة الديمقراطية الجديدة قد أخذ منحى مختلفاً إزاء الوباء وما أثاره من قضايا ومواقف. ما يؤكد أن العالم بأسره سيكون مختلفاً عما كان عليه قبل الجائحة، لجهة العلاقات البينية وأوضاع المؤسسات والمنظمات الدولية وأدوار القطاعات الاقتصادية والانتاجية، مع ما يمكن أن يرافق ذلك من نظريات كبرى حول الفكر السياسي والفلسفات التي تتفيأ تحت مظلتها الدول المختلفة. وفي سياق مخاض الصراع بين التدويل الرأسمالي وأطر التنظيم السياسي القومي وأزمة التعبير السياسي عن حركة المجتمع في ظل الأزمة البنيوية الراهنة للرأسمالية في مراكزها المتقدمة، حيث المعضلات فعلية وشديدة التعقيد، وهي تضع نظام النمو المركَّز على الذات موضع امتحان وتحد حقيقييْن، وتنقل أولياته من الاطار القومي إلى الإطار الأعم. في حين لا يزال الوضع أمام قومية راس المال، مقابل قومية حركة الطبقة العاملة وسائر طبقات المجتمع العاملة. في ما كانت الأممية مع نهاية القرن التاسع عشر هي اطار حركة الطبقة العاملة في المراكز الراسمالية المتقدمة، بينما الاتجاهات السياسية الأقرب إلى الطبقات العاملة وسائر الفئات الاجتماعية تشكل موقع الدفاع عن استقلال الاقتصادات القومية، مع مستتبعات ذلك على صعيد العلاقات السياسية بين مختلف الفئات. ما يؤكد أهمية تحدي تجديد تحليل أزمة الرأسمالية في مراكزها المتقدمة حيث مراكز نجاحاتها، في ما الاطراف الراسمالية الاخرى تبحث عن طرق النجاح، والتخلي عن الدعوة إلى استراتيجية القطيعة مع السوق الرأسمالية العالمية، وفك الارتباط بالنظام الراسمالي العالمي. وهو الأمر الذي يضع البلدان المتخلفة ونحن منها، امام تحدي البحث عن سبل التنمية والتقدم وفق شروط لا سابق لها، بعيداً عن دعوات فك الارتباط وفك التبعية التي انتهت مع انهيار ما سمي “المعسكر الاشتراكي” الذي شكل ملجأً لها.
أما على الصعيد العربي، فإن نتائج انتشار الجائحة، فاقمت مشكلات مجتمعات المنطقة، وما كانت تشهده وتعانيه بأسرها من ممارسات قمعية أو في امتداد مضاعفات فشل انتفاضاتها، وإغراق مجتمعاتها في لُجج الحروب الأهلية، والإمعان في تسليط القمع العاري على قواها ومجاميعها البشرية، والدفع ببلدانها نحو التفكك والفوضى الكيانية. ما أبقى المبادرة والإمساك بمقاليد الأمور مرة أخرى بيد أنظمة الاستبداد والتخلف، واستسهال تكرار تجارب الماضي مع كل ما حفلت به من هزائم وتراجع على مختلف الصعد السياسية والتنموية والحريات والحياة الديموقراطية وإعاقة للتطور الاجتماعي. ما ساهم في تفكيك بُنى مجتمعاتها وأعاد انتاجها أقليات متنازعة، كإنعكاس لفشل محاولات بناء وحدات مجتمعية كيانية حداثية، تستند إلى مصالح مشتركة تؤسس لولادة، وتراكم هويات وطنية جامعة، تشكل حصانات لها وتقطع الطريق أمام تجدد الأسئلة حول مستقبلها.
سبق مثل هذا الوضع الذي نتحدث عنه، التطورات التي شهدها العالم، بعد انهيار الإتحاد السوفياتي ومنظومة الدول “الاشتراكية”، وبروز الآحادية القطبية. ما أتاح للقوى الكبرى تعزيز هيمنتها وتوسيع ميادين سيطرتها على الصعد الدولية والإقليمية والعربية، بما يخدم شبكات مصالحها في شتى المجالات لمراحل بعيدة مقبلة. مما ساهم في تشريعها ساحات صراع دولي اقليمي، وحروب أهلية تحكمها مسارات ذات طبيعة تفكيكية مضاعفة لكياناتها الوطنية ونظمها السياسية ووحدة مجتمعاتها. وهو ما فاقم وجدَّد انقساماتها على أسس عرقية أو دينية مذهبية ومناطقية. وهي الحروب المندلعة والمدارة اقليمياً ودولياً، والتي جعلت دول المنطقة مجرد ساحات مستباحة، وسط حالة عجز مطلق باتت معها مجردة من وسائل الدفاع عن أساسيات وجودها، إلا ما تسمح به تعارضات السياسات الدولية وتناقضاتها، وهو ما ترك مجتمعات هذه الدول العربية رهينة لتدخلاتها، أمنا واستقراراً وسياسة واقتصاداً وثروات ومستقبل أجيال.
إن شعارات التقدم والديموقراطية والكرامة والعدالة الانسانية والحريات التي رفعتها انتفاضات الربيع العربي الناجمة عن حالة الإختناق جرّاء إفناء الحياة السياسية، افتقدت لوجود قوى فاعلة، قادرة على تأطير فئات وقطاعات مجتمعاتها وقيادتها وانتاج برامج التغيير. بينما نجحت التيارات الاسلاموية بشعاراتها الشعبوية في تجديد بُناها وكسب حواضن جماهيرية واسعة، سمحت لها بتصدر المشهد، واكتساح الحدود الوطنية واقتطاع مناطق ومساحات نفوذ لها على أكثر من صعيد، بما فيه إعلان “إمارات”، وتأسيس “دولة الخلافة”. وسرعان ما تحولت هذه إلى سلطات أمر واقع تستظل ايديولوجيا دينية وطائفية ماضوية، ذات طبيعة تناحرية وتدميرية للكيانات والمجتمعات والدول القائمة، ولما هو متحقق من تراكمات وبُنى حداثية. مما عاد يلقي بثقله على المنطقة، ويعيق عودة الحياة إلى نهضتها الموؤدة، والتي عرفتها في مرحلة الاستقلالات والتحرر الوطني، على يد النخب العسكرية العربية، التي استلمت زمام السلطة، وعطلت الآليات الدستورية والممارسة الديموقراطية، ومنعت قيام دولة القانون والمواطنة والتعددية السياسية. الأمر الذي سهّل تركز السلطات في يد النظم الاستبداية التي اختزلت الدولة وأسرت مجتمعاتها وأعاقت تطورها ووحدتها. وهي النظم التي فشلت في التخلص من الاستعمار الجديد والصمود أمام ركائزه الاقليمية ممثلة بالعدو الاسرائيلي، كما من التبعية والسيطرة على اسواقها الوطنية، ما كان له انعكاساته السلبية على مفهوم الدولة الحديثة.
إن أنظمة الاستبداد بما أقدمت عليه وما اعتمدته من سياسات جعل من دول المشرق العربي بأسره ميدان صراع ونفوذ بين كل من الكيان الصهيوني، الذي تمكن من توسيع مداه الحيوي من فلسطين المحتلة نحو أبعد الأقطار العربية في دول الخليج العربي والسودان والمغرب، بذريعة مواجهة الخطر الإيراني وبذرائع اقتصادية واستثمارية مربحة. ومع إيران التي يتابع نظامها تحت راية ثورته ومشروعه المذهبي المستند إلى إشكالية الأقليات الطائفية، محاولاته لتكريس هيمنته عبر أذرعه المذهبية في العراق وسوريا واليمن ولبنان، من خلال المشاركة في الصراعات والحروب الأهلية والخارجية الدائرة فيها وعليها على نحو معلن ومستتر، ما قاد إلى تدمير مؤسساتها السياسية والاجتماعية والديموقراطية والنقابية، وإبادة ما راكمته من عناصر توحيد على مرِّ عقود من الاندماج بين مكوناتها، ما شكل ارتداداً عن همّ اجتراح الحلول الديموقراطية الفعلية لمعضلاتها الكيانية والاجتماعية والتنموية المتراكمة. وبدوره يحاول النظام التركي ذو التوجه الاسلامي الأصولي الماضوي تثبيت دعائم دور يحاكي مشروع وممارسات النظام الايراني على حساب المجال العام القومي والكياني الدولتي في المنطقة. إن حلم استعادة الخلافة العثمانية كخلافة اسلامية سنية هو الوجه الآخر المكمّل لولاية الفقيه الشيعية. فكلاهما ينظر إلى المنطقة كطوائف متناحرة ومذاهب وأرياف تدور حول مركزيها في طهران أو اسطنبول.
ورغم تحوّل المنطقة ساحة مشرعة لتدخلات القوى الخارجية القريبة والبعيدة منها، بحثاً عن مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية. الا أن الولايات المتحدة الاميركية تبقى الطرف الرئيسي والقوة المهيمنة والأكثر نفوذاً، باعتبارها الجهة الأقدر على استثمار الخلل البنيوي المركب بين الأطراف الدولية والاقليمية المتدخلة والمتصارعة، معطوفا على الخلل الذي رافق تأسيس الكيانات العربية ومجتمعاتها بصيغتها الراهنة، ما قاد إلى تلاشي دور كل مؤسسات العمل العربي المشترك الموحدة، وابقى تلك الدول والنظم الحاكمة عارية تحت سقف السيطرة والإدارة الاميركية. وما إدعاء بعضها المواجهة عبر الممانعة سوى عملية استجداء رخيصة لاعتراف الولايات المتحدة بها بهدف تثبيت سلطاتها الهشة وحجز حيز لها في حساباتها.
وفي امتداد التجارب المجتمعية على الصعيد الكوني، في شتى ميادين الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وما آلت إليه أوضاع الدول والشعوب راهناً، وفي ضوء تعثر وانتكاسات مشروع بناء الدولة في العالم العربي، وما انتهت إليه تجارب النخب والقوى والتيارات السياسية التي تولت السلطة من نتائج، أو لناحية فشل محاولات قوى التغيير والحداثة وفي مقدمها احزاب وتنظيمات اليسار، التي خاضت تجاربها تحت رايات التحرير والتحرر الوطني والتقدم الاجتماعي. واستناداً إلى القراءة النقدية للتجربة اللبنانية الحديثة، وفشل محاولات وتجارب قواها من اي جهة أتت، بما فيها الاحزاب القومية واليسار منها، عن تقديم حلول ناجعة لمشكلات الكيان البنيوية على صعيد الهوية والنظام السياسي ووحدة المجتمع. وامام تفاقم أعطابه الموروثة والمستجدة في صيغة انهيار شامل، وتزايد المخاطر التي تهدد وجوده كياناً وطنياً ومجتمعاً أهلياً، فإن هذا الواقع يضع كتل وفئات المجتمع اللبناني أمام تحديات مصيرية، كما يفرض على نخبه وقواه الحية بصرف النظر عن انتماءاتها الفكرية والسياسية، مسؤولية العمل في سبيل إنقاذ البلد مدخلاً لبقائه وتجديد السعي لمعالجة معضلاته وأزماته كافة، ووضعه على خطى ومسارات التطور والتقدم.
وفي هذا السياق كانت المراجعة النقدية للتجربة اللبنانية بمختلف قواها، وموقع ودور اليسار فيها، والتي طالت هوية منظمة العمل الشيوعي الفكرية وخطها السياسي اللبناني والعربي والدولي، ونظامها الداخلي، كما ترافقت مع عملية نقد ذاتي شامل لمجمل تراثها وممارستها النضالية. وقد أتت المراجعة في إطار التمهيد لتجديد دور المنظمة ورسم توجهات خيارها الاشتراكي المستقبلي، وتقديم قراءتها ليساريتها وللديمقراطية وللعلمانية التي تنادي بها، باعتبارها أضلاع المثلث الذي تراهن عليه في بحثها عن حلول لمشكلات الكيان، وما آلت إليه أعطابه المتفاقمة من انهيار يكاد يكون شاملاً. إن مثل هذه المساهمة تتعدى الوطني اللبناني إلى القومي العربي، وإن اختلفت الظروف والتفاصيل في كل كيان عربي عن الآخر، فضلاً عن الطموح للمساهمة في تجديد الخيار والفكر الاشتراكي عالمثالثياً.
أولاً : ماهية إشتراكيـة المنظمة
إن منظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني (منظمة العمل الشيوعي ـ سابقاً) هي تنظيم ناشط ضمن الخيار الاشتراکي اليساري، متفاعل مع كل ثقافة اشتراكية في طريقها نحو المساهمة في دفع هذا الخيار خطوات إلى الأمام. لذا نحسم في إعادة الاعتبار للأصل في الإشتراكية على أنها خيار يحدد غاية للتطور البشري ويعكس إمكانية تاريخية في هذا الاتجاه. ونرى أن تجديد حقل البحث في الخيار الاشتراكي هو في العودة إلى رصد وقائع التطور الاجتماعي الاقتصادي الثقافي والايديولوجي كما يُظهّره الوضع العالمي بمختلف مكوناته خلال الربع الأول من القرن الواحد والعشرين. سواء على صعيد تجديد قراءة التطور النوعي في بُنية الرأسمالية وأزمتها الراهنة، والتي تتجه نحو مزيد من التجاوز لمنطق العلاقات الرأسمالية، من خلال النظر إلى الانتقال من صعيد في فهم الخيار الاشتراكي إلى صعيد آخر، يساعد على فهم مقدار ما تحفل به الأوضاع العالمية حالياً، وما تحشده من وقائع تزكي تجدد وإمكان بروز قوى تشكل عوامل إعادة اعتبار للخيار الاشتراكي مرة متجددة. ومن صعيد يتجاوز ربط الديمقراطية بالبرجوازية، إلى صعيد تجديد الفلسفة السياسية الحديثة التي انبثقت منها الديمقراطية، وتجديد النقاش في المفارقة والفارق بين الديمقراطية والليبرالية، واستعادة تعيين إشكالية الديمقراطية بصفتها كانت في أساس بروز الفكر الاشتراكي، وإعادة وصل ما انقطع بين الديمقراطية تاريخياً وبين الاشتراكية بصفتها الخيار الذي جرى اعتناقه في بواكير بروزه على أنه يشكل أعلى درجات الديمقراطية. ما يستدعي العودة إلى مناقشة العقلانية السياسية التي تشكل أحد مظاهر الحداثة في التاريخ البشري، والتي في مرآتها نرى التطورات منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى الآن.
ولا يستقيم التزام الخيار الاشتراكي بأهدافه المعلنة، إلا إذا اقترن بالتحليل الاجتماعي الأصوب الذي يتوسل العلم في سبيل طي المسافة بين الواقع والاهداف، وجعل الخيار الاشتراكي رداً على اشكالية تطور الديمقراطية المعاكسة لليبرالية، وليس انبعاثاً لفلسفة مثالية. ما يضع المنظمة امام مسؤولية الاضطلاع بمهمة إعادة انتاج تحصيل ثقافي لا يتلخص بالإحالة إلى مراجع محددة ومرسّمة جاهزة.
إن صوغ تقدير اجمالي حول الوضع العالمي أمر ضروري في سبيل محاولة رؤية آفاق المشروع الاشتراكي عالمياً. وهو المدخل الطبيعي لتلمس احتمالات تطور العالم الثالث الذي ننتمي اليه، والأكثر مساساً بتجسيدات خيارنا. الأمر الذي يستدعي رصد ما يمكن تسميته آفاق التقدم المتفاوت على صعيد الوضع العالمي بمختلف أجزائه المكونة، لاستشراف آفاق الواقعية التي نرى بأن تطورات الوضع العالمي بكل تفاوتاته واجزائه المكونة يمكن أن تفتحها، لتحقيق انجازات متنامية على طريق غلبة المشروع الاشتراكي. خاصة في ظل المفارقة المتنامية القائمة مع انتهاء عقدين من القرن الواحد والعشرين، حيث إننا أمام تطور موضوعي في الوضع العالمي تمثله العولمة المتزايدة في الوضع الدولي اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً واعلامياً، في مقابل انحسار أممية الحركة السياسية المعارضة. لأن كل مشاريع التقدم وكل الخيارات الاشتراكية، لاتزال على الصعيد السياسي مشدودة إلى إطار الدولة الأمة الموروث حالياً. وهو عكس الصورة التي تحدرت إلينا نهاية القرن التاسع عشر، حيث كانت الحركة العمالية الأممية تنظيماً سياسياً يريد أن يستبق تطور رأس المال على الصعيد العالمي.
وفي سبيل الوصول إلى سياسة يمكن أن تسترشد بها حركة ديمقراطية وتيارات تقدمية واشتراكية في العالم الثالث، وتستطيع أن تنتج من خلالها البرامج التي تعينها على دق ابواب تطور مجتمعاتها حقاً، لا بد من مناقشة متجددة لأوضاع العالم الثالث وتعيين حدود دور السيطرة الخارجية في تقرير مساره وتطوره. وضرورة قياس دور العوامل الداخلية المؤثرة لتنتهي إلى تعيين مدى قدرة هذه المجتمعات كلها أو بعضها على أن تحشد في بُناها الداخلية من العناصر ما يوازن واقع عوامل السيطرة الخارجية. يبقى أن الوجه الآخر للنقاش يتعلق بعناصر ونتائج التخلف الداخلي في بُنى هذه المجتمعات على الصعد كافة: الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، الثقافية، والايديولوجية. أخذاً بنظر الاعتبار أن تطور المجتمعات المسماة متقدمة استغرق قروناً وصراعات دامية، ولا يمكن اختزاله وفق ترسيمة اقتصادية لا نرى منها الا الانتقال من نمط انتاج إلى نمط آخر.
إن بُنى العالم الثالث بمقدار ما هي محجوزة بفعل علاقات التبعية مع المراكز الرأسمالية المتقدمة، هي بالمقابل تحشد عناصر من التخلف لا بد من مقاربتها، لأن الطريق الوحيد للتقدم والحداثة يكمن في اضطرار تلك المجتمعات لدفع الكلفة المطلوبة لتجاوز البُنى الموروثة، والتي تشكل الوجه الآخر للسيطرة الخارجية في إعاقة تطور تلك البلدان. آخذين بنظر الاعتبار مقدار الاستقلال النسبي الذي يجب أن يرافق كل محاولة تنمية، والذي بموجبه يمكن أن تحشد العناصر الداخلية الوازنة في اتجاه ليس فك ارتباط مطلق بالنظام العالمي، وانما باتجاه بناء حیز استقلال ما، يسمح للسوق الداخلي بان يأخذ مكانه، ولعوامل التطور الداخلي بأن تلعب دورها، وبالتالي يسمح باندفاع البلد المعنى خطوة على طريق التنمية الاقتصادية والتحرر والاستقلال الاقتصادي في آن. ولا يختلف الأمر عنه بالنسبة للمراكز المتقدمة في النظام الرأسمالي العالمي لناحية مقدار ارتهانها واستقلالها عن بعضها البعض. إن مهمة من هذا النوع بإتساعها وتنوعها وشمولها ملقاة على عاتق كل اليساريين والتقدميين باعتبارها بوابة نهوض متجدد لقوى الحداثة والديموقراطية.
لقد حمل النص الذي وضعه الأمين العام الراحل محسن إبراهيم وصدر عن اللجنة المركزية في العام 1993 بعنوان “في الاشتراكية”، مراجعة نقدية للماركسية اللينينية وإدعائها أن ما جاءت به هو العلم الخالص، وباعتبارها نهاية الاجتهاد البشري في صياغة رؤيته للوجود والعالم، والعلاقات داخل المجتمعات بقواها ومصالحها المتعددة والمتناقضة من منظور طبقي صارم. ورأت المراجعة أن النص الماركسي التأسيسي ظل محكوماً بالمرحلة التي جرى إنتاجه فيها، ما يجعله الآن أقرب إلى الايديولوجيا منه إلى العلم المحض. وتوسعت المراجعة في نقد وقراءة النموذج السوفياتي في مختلف مراحله وصولاً إلى انهياره. كما طالت تاريخ الحركة الاشتراكية العالمية، من نقد الأممية الثالثة والحركة الشيوعية العالمية، إلى نقد النموذج الصيني واليسار العالمي الجديد. وختمت بنقد تجربة أحزاب الحركة الاشتراكية الديمقراطية في دول أوروبا الغربية.
لقد خلصت المراجعة إلى إدراج النص الماركسي ضمن تراث الحركة الاشتراكية العام، رافضة إعدام الماركسية أو التنكر لها انطلاقاً من ضرورة تفكيك النص الأصلي لمصلحته، ولمصلحة الإفادة منه. ما يوجب التحرر من النظرة إليه كنص مقدس، صالح لكل مكان وزمان ولكل المجتمعات، يُؤخذ به أو يُنصرف عنه كلياً. ما يستدعي تجديد البحث عن توجهات فكرية تستند إلى التجربة ودروسها، ويمكن من خلالها الفعل في واقع المجتمعات والمساهمة في اطلاق طاقات تطورها.
ولذلك فإن الخلاصات الختامية التي حملها نص “في الاشتراكية”، قد أشّرت إلى الوجهة الفكرية الجديدة التي يمكن التزامها، في ضوء مراجعة الهوية الشيوعية، التي خلصت إلى أن الماركسية وحتمياتها من الفكرة إلى الحركة إلى الثورة إلى الدولة، لم يحكم لها التاريخ بالنجاح، بل حكم عليها بالفشل. لكنها تبقى جزءاً من تراث الحركة الاشتراكية لا يمكن شطبه، بل ينبغي حفظ الاعتبار له، والانفتاح عليه، واستيحاء كل ما هو صحيح ومفيد منه. وأن الهوية الشيوعية لم تعد تصلح وجهاً للاشتراكية المتجددة التي نسعى إلى اشتقاق مفاهيمها وصوغ برنامجها وتأسيس التنظيم الملائم مع متطلباتها. الأمر الذي يوجب اشتقاق اسم جديد يتطابق فعلاً مع التوجهات الفكرية الجديدة.
ولأن الأصل في قيام المنظمة هو التزام خيار الاشتراكية، وهو الخيار الذي اخترق مجمل تراثها النظري والفكري والسياسي منذ نشأتها حتى إعلان مراجعتها الشاملة. وهو يشكل المبدأ الأول في هويتها الفكرية الجديدة. فإن ما تطرحه المنظمة من توجهات لخيار اشتراكي هو ما يلتزمه حزب يساري في القرن الحادي والعشرين. لكنها في الوقت ذاته تعتبر أن انجاز هوية فكرية متجددة هو مهمة تاريخية تقع على عاتق كل القوى المؤمنة بالتغيير وبالاشتراكية خياراَ. وهي مهمة تتجاوز المنظمة بقدراتها الفكرية والنظرية المتواضعة لتطال قوى التغيير والديموقراطية والاشتراكية والتقدم على الصعيد الأممي والعربي. لكن هذا على صحته لا يمنع أن تظل المنظمة ضمن سياق العمل على المساهمة في هذه المسؤولية من موقعها النضالي، جاهدة من أجل تأطير وإشراك قوى متنوعة على استعداد للانخراط وبذل الجهد في هذه المهمة التاريخية.
إن الاشتراكية التي تعلن المنظمة التزامها واعتناقها كمبدأ، ما تزال بمثابة توجهات عامة تتسع لكل أنواع الخيارات والاجتهادات والتيارات والمواقف والأجنحة التي تتمتع بالحيوية والدينامية، بما يستوعب جملة من التباينات بين مجموعة من القوى التي تتلاقى عند مصب هذا الخيار. ما يعني أن الاشتراكية بالنسبة لنا ليست عبارة عن ترسيمة وبديهيات تقوم على قوانين جامدة. فالخيار الاشتراكي ـ اليساري لدينا يتأسس على موقع اجتماعي ـ طبقي معين، يلحظ المتغيرات التي يشهدها عالم الاقتصاد بتحولاته، وعالم العلم والعمل ودور التقنيات والكفاءات في مزيد من التطوير على مجالاته، وتأثير ذلك على العلاقات المجتمعية وسط مناخ العولمة، التي ستكون أكثر تشابكاً وتداخلاً في المقبل من الأيام. وبهذا المعنى فالخيار الاشتراكي ليس مجرد مباديء أخلاقية من الماضي معلقة في هواء عهد ذهبي غابر، بل هو إعادة اعتبار للأساس الاجتماعي لهذا الخيار بالمعنى العلمي والسياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي.
ومما لاشك فيه أن خيارنا الاشتراكي بانفتاحه على مجريات العلم وفتوحات الثقافات وعلوم الاقتصاد والتكنولوجيا وما يرافقها من تحولات في العالم، يستوعب أهمية الماركسية ووظيفتها في سياق العلوم السياسية والاجتماعية، لكنه لا يمكن أن يعتبرها بداية ونهاية العلم، ومنتهى الطموح البشري إلى مجتمع العدالة الانسانية. فالماركسية ضمن الخيار الاشتراكي هي رافد من الروافد التي يتشكل منها الجهد الانساني والبشري بعلاقاته مع تجاربه الماضية، وبما ينتجه في المستقبل. وهو ما أشارت إليه المنظمة عندما قالت في وثائق مؤتمرها الرابع: “إن اشتراكيتنا هي البديل عن القول باشتراكية علمية مطلقة اليقين، لا يأتيها الباطل من أي جانب. نريد اشتراكية حمّالة أوجه، بقدر ما أن التطور البشري يطرح أوجهاً متعددة ومتباينة بتباين الحقبات واللحظات والمجتمعات.“
وانطلاقاً من ذلك فإن خيارنا اليساري الاشتراكي اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وفكرياً يستجيب لمبدأ التطور، بل هو حصيلة هذا التطور ودروس وخبرة التجارب على تنوعها. خصوصاً في اللحظة التي تجتاز وتتجاوز فيها البشرية قيود طروحات الماضي، وتنطلق نحو آفاق من التطور والتقدم بالغة التنوع والغنى والتعقيد، ما يعني أن كل الأصعدة مهمة وفاعلة ومتأثرة ومؤثرة.
ـ حول الهويـة الديمقراطيـــــة
انطلاقاً من الاعتقاد أن الاشتراكية هي أعلى درجات الديمقراطية. وأن الديمقراطية كجوهر لا تتحقق وتكتمل إلا بمقدار ما تتجه يساراً. بهذا المعنى تصبح الديموقراطية تعبيراً عن اكتمال مسار حداثي ضمن مجتمع متعدد ومتنوع، يعترف بحق الآخرين في التعبير عن مواقعهم وأوزانهم ومصالحهم، طامحاً إلى صياغة تسويات اجتماعية غير محايدة، تحتكم في تحقيقها إلى آليات ديمقراطية دون سواها. والواقع أن تنوع المجتمعات أصبح أمراً قائماً لا جدال فيه في دول العالم كافة تقريباً، بفعل تفاعل وتشابك المصالح والعلاقات. وبالتالي فقد بات مستحيلاً إدارة تعقيداتها، إلا من خلال بُنية ديمقراطية تحافظ على خصائص هذه المجتمعات وهوياتها الجامعة، وتؤطرها في عملية دينامية تفاعلية تصب في مجرى احترام هذه الخصوصيات، دون أن تذهب بها إلى حدود التشظي والانقسام والاحتراب، مع ما يرافق ذلك من خراب ودمار للمتحقق من إنجازات أمكن الوصول إليها بالكدح والجهد البشري.
مع ملاحظة أن الخصائص المتنوعة للمجتمعات وضمن المجتمع السياسي الواحد، ليست وحدها التي يقتضي أن تُحتَرم عن طريق النظام الديموقراطي، بل أيضاً ينبغي الإحتكام إلى النظام الديموقراطي لإدارة تضارب المصالح وتعبيراتها السياسية دون التنازل عن تحقيق المجتمع الإشتراكي المنشود. فتعريف المجتمع الإشتراكي والعمل على تحقيقه ليس وصفة واضحة المعالم وجاهزة سلفاً، ولا أحد يمكن له أن يدّعي امتلاكها دون غيره. ولذلك يبقى النظام الديموقراطي الإطار الأنسب لخوض النزاع حول رؤيتنا للمجتمع الإشتراكي، والإطار الأضمن لإنتاج التصور الأفضل للمجتمع الإشتراكي المنشود. الديموقراطية ضرورية إطاراً سياسياً وتنظيمياً لخوض النزاع مع أخصامها، ومع أصحاب الخيار الإشتراكي الذين يتنازعون حول تحديد خصائصه والطرق المؤدية إلى تحقيقه.
وعليه، فالديمقراطية كما تراها المنظمة كهوية تستطيع دون سواها أن ترسم الخط البياني الفاصل بين إنصاف التراث، بما يمثله من مخزون تاريخي للشعوب وثقافاتها وحضاراتها وتجاربها، أو التنكر لهذا التراث والسعي لإلغائه كما ينادي البعض. أي إن الديمقراطية تستطيع بهذا المعنى الذي نحمله أن تميز بين حداثة ذات بصيرة ومتبصرة بالتاريخ، وتعمل على تطوير سياق ومسيرة التقدم الذي تحقق. وحداثة عمياء لا ترى في الماضي سوى صفحات سوداء تتطلب التمزيق مرة واحدة وإلى الأبد. ومن المؤكد أن الديموقراطية بما تتيحه من فكر نقدي وتحليلي وعقلانية تستطيع أن تحسم بمقادير وقدرات تحقيق الحداثة الممكنة، وحجم وحدود حضور التراث بأشكاله وأصنافه في ممارسات الشعوب.
تنطلق المنظمة من هذه الرؤيا لتشدد على ما توصلت إليه من أن الديمقراطية والحداثة لم تكن يوماً عبارة عن حيلة من حيل الطبقة البرجوازية، التي اضطرت للخضوع إلى أحكامهما. بل ثمرة نضال معاند خاضت غماره قوى اجتماعية صاعدة متنوعة متعددة الاتجاهات، توجته بفرض حضورها التمثيلي وأحكامها ومصالحها على هذه البرجوازية، التي كانت تطمح دون مواربة إلى إبقاء سيف تسلطها على الطبقات والفئات الشعبية، لتحقيق مزيد من الاستغلال والنهب لمقدراتها. وقد أدت التحولات التي شهدتها الكثير من المجتمعات إلى رسوخ فكرة التحول المتدرج، بديلاً عن الفكر والممارسة الانقلابية التي قادت إلى إغراق بلاد وشعوب في حمامات دم، دفعت اثمانه إعاقة في تطورها وتقدمها وحداثتها. وقد ظهر جلياً وفي معظم الاحيان أن الطبقات المستغِلة هي اكثر اندفاعاً نحو الخيارات العنفية والأمنية التدميرية من أجل حل تناقضات المجتمع وصراعاته، بدل التسويات المتدرجة التي تفتح على تسويات أشد متانة ورسوخاً، وبما يتيح إشراك القوى المجتمعية الحية في إدارة شؤون البلاد والمؤسسات، وتامين حضور مصالح هذه الأكثرية في وضع الخطط وتقرير المشاريع وصياغة التحولات.
وعليه، فإن المنظمة على صعيد فكرها التنظيمي، تجاوزت المبدأ الذي سارت عليه ردحاً من الزمن تحت سمة المركزية الديمقراطية تحقيقاً لما كرسته اللينينية حول بُنية التنظيم وعلاقاته الداخلية. وهي لذلك أقرت توجهات نظام داخلي يرسخ قيام علاقات ديمقراطية بين مكوناتها مع الاحتفاظ بأهمية وجود مركز سياسي وتنظيمي وإداري، يتيح قيام أشكال من التنوع الداخلي والتعددية في مختلف الميادين الفكرية والسياسية. إن الهدف من القول بعلاقات ديمقراطية ذات مركز هو للتأكيد على أن العلاقات الديمقراطية داخل التنظيم لا تعني بأي حال من الأحوال تحويل التنظيم إلى نوع من أنواع الفيدراليات المناطقية والقطاعية المتجاورة. إذ يظل هدف أي تنظيم متمثلاً في التعبير عن محصلة مختلف المبادرات النضالية لمجموع قواه وفعالياته، وصياغة القدرة على التعبير عما تختزنه القوى المكونة له من اتجاهات ومصالح، ضمن رؤية موحَدة وموحِدة في الوقت نفسه. إن العلاقات الديمقراطية ووجود مركز يحقق حماية التنظيم من أشكال التشرذم والشللية أو الفوضوية، ويشكل البوصلة التي تحدد الاتجاهات الصحيحة لنضاله وحركته ودوره، خصوصاً اذا اقترن ذلك مع وجوب احترام مبدأ قيام تعددية داخلية تعبر عن التنوع وتحتفظ بمواقعها في رحابه.
أتى ذلك في إطار التحديد للمركزية الديموقراطية: إذ إن مركزية من دون ديموقراطية مولِّدة للقرار المركزي تتحول إلى ديكتاتورية، وديموقراطية لا تستهدف إنتاج قرارات شاملة تعبر عن المصلحة العامة للمجتمع يتولد عنها التشرذم والتقسيم والتفتت. وما كانت الأحزاب الشيوعية تمارسه، ومن ضمنها المنظمة، هو المركزية المفرطة والديكتاتورية باسم المركزية الديموقراطية. هذا أولاً. وثانياً، إن هذه الأحزاب لم تُعن بتطوير الآليات الديموقراطية داخل البنيان التنظيمي، ولم تعِره أي إهتمام تماشياً مع توجهاتها الديكتاتورية. لذا فإن ضمانة الديمقراطية تكمن في تطوير هذه الآليات على نحو يكفل إجراء انتخابات حرة بصورة دورية، ووضع ضوابط لتجديد الهيئات القيادية، ومراقبة تنفيذ المبادئ التنظيمية، وتمكين القواعد الحزبية من محاسبة القيادة هيئات وأفراد،إلخ… من أجل ضمان ديمقراطية الحياة التنظيمية الداخلية والتطلع إلى تطويرها الدائم. إلى جانب التمسك بالمبادئ الديموقراطية كإطار مرجعي لخوض النزاعات مع القوى السياسية الأخرى وتقديم الحلول لها، تكون أكثر إنسجاماً مع تمسكنا المبدئي بالديموقراطية.
ـ حول العلمانيـــــة
إن علاج البُنية الطائفية للنظام السياسي اللبناني بوصفها علة العلل والتي تترك مضاعفاتها على مختلف أوجه الحياة والشأن والفضاء العام والصراعات والعلاقات والمجالات، لا يمكن ـ وكما أثبتت التجربة التاريخية للكيان اللبناني منذ تأسيسه واستقلاله ـ أن تُعالَج عبر اعتماد خيارات طوائفية ما، على حساب طوائفيات أخرى، تبعاً لموازين القوى الداخلية والاقليمية المتداخلة والمقرِّرة. لقد تحول الاصلاح الطائفي الذي عبرت عنه نصوص اتفاقية ودستور الطائف إلى محاصصة سافرة، قادت إلى إضعاف وحدة الشعب المشروخة، وتدمير هياكل ومؤسسات الدولة وإفقارها، وإلحاقها بأركان السلطات الطائفية وممارساتهم وفئوياتهم وفسادهم. ومع انكفاء الوصاية السورية عام 2005، تحولت المحاصصة إلى عملية نهب سافرة لمقدرات البلاد، بعد أن باتت المؤسسات إقطاعات طائفية ومذهبية وحزبية صافية. ما قاد إلى زوال التمثيل العابر للطوائف في العمل السياسي والدستوري وتولي المسؤوليات العامة بفعل إنتهاك الأنظمة والقوانين النافذة. والأسوأ هو أن استقواء القوى الطوائفية بدعم الخارج، أباح البلد لتدخلاته وأبقاه رهينة المصالح المتضاربة للقوى الاقليمية والدولية، ما أدى إلى وضع علامة استفهام كبرى حول مصير الكيان ومستقبل بُنية الدولة ووحدة مؤسساتها السياسية والتشريعية والقضائية والأجهزة الإدارية والقطاعات العامة والخاصة على حد سواء. ولا شك أن الدول المتقدمة التي حققت نقلات كبرى في مجرى الحداثة عملت ومنذ قرون على فصل الدين، ومعتقدات مواطنيها أياً تكن، عن الدولة وقوانينها، لضمان تحقيق المساواة بينهم مهما كان جنسهم ولونهم وإثنياتهم ومشاربهم الفكرية والعقائدية. وفي لبنان لم تعد العلمانية والمواطنية المتساوية في الحقوق والواجبات مسألة خيار، بقدر ما أصبحت مسألة حياة أو موت للكيان والدولة ووحدة الشعب والمجتمع، بعد الدرْك والهوة البالغة الخطر في أعقاب الانهيارات والتطييف والمذهبة القائمة والمكرّسة.
على ذلك لا بد من قرن العلمانية بالديمقراطية. فالعلمانية من دون الديمقراطية تتحول إلى استبداد وديكتاتورية على غرار ما عرفته الأنظمة النازية والفاشية والشيوعية، بما فيها الأنظمة العربية على تنوعها الملكي والجمهوري بما فيها التي استنسخت “النظام السوفياتي”. إن صيغة العلمانية التي ندعو لها، هي التي تعمل على فصل الشأن العام عن الخاص المعتقدي والموروث عن التشكيلات المجتمعية ما قبل عصر الحداثة، وعلى تفاعل الناس في حياتهم اليومية وعلاقاتهم ومصالحهم واقتصادهم ومصانعهم ومزارعهم ومدارسهم وجامعاتهم. وهي بالتالي عندما تؤكد على فصل الدين عن الدولة، تهدف إلى فصل المقدس السماوي الذي لا يمكن المس به تبعاً لمعتقدات أصحابه، عن القوانين الوضعية التي تتفاعل مع درجة تطور قوى المجتمع وتعبر عن دينامياته ودرجة تقدمه المتحقق. واذا كانت العلمانية جزءاً من مفاهيم وفلسفة الحداثة، ورافعة من روافعها، فقد ثبت أن العلمانية نجحت بقدر ما عبرت عن مسار ديموقراطي له قواه المجتمعية الحاشدة، التي تستطيع أن تدفع باستمرار نحو المزيد من الاندماج المجتمعي المتكافئ على أسس ومنظومات حديثة، ما يعبر عن مصالح فعلية لقوى عابرة للطوائف وانقساماتها ومعازلها النفسية والفكرية والثقافية والجغرافية. في المقابل فإن العلمانية التي فُرضت على بعض المجتمعات بقوة القمع والقهر من جانب سلطات حزبية أو عسكرية انتكست، وجرى الإرتداد عما سبق وتحقق من اعتبار إدارة الدولة وعلاقات المجتمع شأنا دنيوياً له قوانين وضعية ناظمة، بحاجة دوماً إلى تحديث وتعديل وتغيير، لمجاراة تطور المجتمعات والشعوب..
ولذلك، إن العلمانية التي نلتزم، هي الوجه الرئيسي المعبر عن علمانية ديمقراطية قابلة لإستيعاب موروثات وقلق وهواجس الجماعات والفئات في البيئة اللبنانية، موصولة بارتياد آفاق المستقبل، بما يحرر اللبنانيين من قيد الانقسام الطائفي ـ العشائري الذي يؤرق عليهم سلمهم وعيشهم، ويدفعهم على فترات متقاربة ومتلاحقة نحو محرقة الحروب الأهلية، ما يدمر اجتماعهم، ويهدم بشكل دوري ما راكموه من انجازات التطور والبناء بنضالاتهم، كما بتعبهم وعرقهم وهجراتهم نحو أقاصي بلاد الأرض.
وعليه، فإننا نرى في العلمانية الديمقراطية، البديل عن الاعتقاد الذي لا يفتأ يكرره أصحابه اليوم من أن الخروج من مأزق الكيان واضطراب حياته السياسية والمجتمعية، يتم من خلال الفيدرالية أو أي من الصيغ المشابهة، الأمر الذي يشكل تكريساً لمعازل طائفية غير صافية، لا مقومات لاستمرارها على قيد الحياة، كونها تمثل تراجعاً عما تحقق من وحدة وتداخل مجتمعي عبر قرون من التبادل المادي والثقافي بين سائر مكونات الوطن.
كما تشكل العلمانية الديمقراطية تجاوزاً لمطلب إلغاء الطائفية السياسية في النظام القائم. لأن شعار إلغاء الطائفية السياسية وما يرافقه من دعوة إلى جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة ـ ضمن الظروف والمناخات الطوائفية السائدة من مختلف الضفاف ـ هو أقصر الطرق نحو تبرير محاولات فرض هيمنة ديكتاتورية طائفية، باسم الأكثرية العددية على الآخرين، واستسهال الاستقواء بالدعم الاقليمي الخارجي واعتماد السلاح وسيلة للهيمنة. فيما المطلوب هو تحرير المجتمع اللبناني برمته من كل الطوائفيات، وتجاوز مفاهيم العشائر “الحديثة” المتسربلة بالطائفية للانقسامات اللبنانية، عبر نقل المجتمع من المفهوم التقليدي الماضوي إلى المفهوم المدني العصري، الذي ينهض على قاعدة العلمانية وواجبات وحقوق المواطنين المتساوية أمام القوانين، وحق كل منهم كأفراد أحرار في اختيار وممارسة معتقداتهم مهما كانت، دون أي زيادة أو انتقاص من حرياتهم الدينية وحقوقهم ودورهم في الحياة العامة. وهو أمر لا يمكن له أن يتحقق من دون وجود كتلة اجتماعية كبرى ترى في العلمانية طريقاً وسبيل خلاص وحيد، بعد أن ثبت أن الاستمرار بالصيغة الطائفية مع ما بلغته من انهيار وافقار في مختلف المجالات، وما فرضته وانتجته من تفكك وانقسامات، هو في حال الاصرار عليه أقرب ما يكون إلى حال انتحار جماعي.
من هذا المنطلق لا نجد معنى لشعارات إلغاء الطائفية السياسية أو الفدرالية وأشباههما، إلا إذا نظرنا إليها كتراجع عن طموح المواطنين إلى مجتمع علماني مواطني مدني يتعامل مع أبنائه كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات رغم تعدديتهم وتنوعهم، بديلاً لمجتمع أهلي بات قاتلاً لمعتنقيه وللبلاد في حاضرها ومستقبلها. إن العلمانية الديمقراطية هي الخيار الوحيد الذي يفتح الآفاق للانتقال من مجتمع طائفي مفكك إلى مجتمع سياسي حقوقي موحد. كون المجتمع الطائفي سواء داخل الوحدة الكيانية أو بالانفكاك عنها، هو في المحصلة مجتمع تمييزي عنصري تقليدي وعشائري، لا يمكنه تحقيق التطور والتقدم المنشود وحل إشكاليات البلد المستعصية، إلا في امتداد التحول والإرتقاء على درجات متصاعدة نحو خيار العلمانية والمواطنية.
وإذ لا نستسهل أبداً أمر الوصول إلى علمانية تفتح كهوف البلد لأنوار التحديث، فإننا ندعو إلى وعي جملة حقائق أهمها أن إنجاز العلمانية بانقلاب أو بمرسوم هو مجرد سراب ووهم لا يجدي الركض خلفه، وأن تحقيق العلمانية بسلطة الاستبداد هو بديل أسوأ من الطائفية على سوئها الفادح، لأن العلمانية لا تقوم ولا تستقيم ولا تتحول إنجازاً عصياً إلا بنضال شاق من أجل بناء كتلتها الاجتماعية الراجحة الوزن في ميادين السياسة والثقافة ومؤسسات الانتظام المدني الاجتماعي الحديثة، وهي لا تتحول أخيراً من نوابض اجتماعية منتشرة حاشدة إلى نظام سياسي وطيد إلا باستفتاء اللبنانيين على مصيرهم في هذا المجال مع كل الحرية الواجبة والمسؤولة. وهنا أيضاً لا يمكن أن يُقاد اللبنانيون حتى إلى جنة العلمانية بقيود السلاسل الغليظة.
ـ مسألة اسم المنظمــة الجديد
إن المراجعة الفكرية، كما الوثائق الصادرة عن مؤتمرات منظمة العمل الشيوعي، طرحت ودعت إلى ضرورة إعادة النظر بإسمها بما يتوافق مع المنطلقات الفكرية السياسية التنظيمية الجديدة. ولذلك كان الاحتفاظ بالإسم خلال العقود الماضية ممراً انتقالياً بين المقدمات المعلنة بما هي المراجعة الفكرية والسياسية، وبين تحقيق عملية الانتقال فعلياً وفي اليومي من الحضور والممارسات. وخلال التحول الذي خاضته المنظمة، وفي خضم العمل النضالي الذي بذله مناضلوها منذ أن خرجت من انكفائها، لم يلاحظ الرفاق أن الاسم يمثل قيداً يحول دون انخراطها في مجرى النضال، خاصة مع انتفاضة تشرين الأول 2019 والمجموعات والقوى المشاركة فيها. لأن اسم المنظمة الموروث منذ العام 1971 أي قبل خمسين عاماً يعبر عن مخزون نضالي سقط في الدفاع عنه شهداء وجرحى في عموم مراحل المواجهات التي خاضتها، وله محمولاته النضالية. إن الاحتفاظ بالإسم أتى في إطار تحمّل المنظمة ومناضليها مسؤوليتهم الكاملة عن تاريخها بما له وعليه. وهي التي ساهمت في ادبياتها ونصوصها وممارستها بتقديم أقسى نقد لفكرها وخطها وممارستها مما لم يجرؤ عليه الآخرون يميناً ويساراً. كما وأنها دعت إلى نقاش علني صريح ومسؤول حول التجربة برمتها وبشأن تغيير إسم المنظمة، لاسيما وأنها لم تعد تلتزم الهوية الشيوعية التي كانت تعتنقها.
ومن باب تطابق الاسم مع المضمون الفكري كان لا بد أن يتم هذا التغيير الذي يعبر عن صيرورة المنظمة فكراً وتحليلاً وممارسة. لقد كان طموحنا أن تشارك كتل وتيارات ومجموعات في أوسع نقاش وسجال وتفاعل ممكن داخل المنظمة وخارجها لصياغة رؤية جماعية متجددة تساهم في بلورة توجهاتها، بما في ذلك المشاركة في اختيار الاسم الجديد، تعبيراً عن خيارها الديمقراطي داخلها وفي علاقتها مع جمهورها المعني بمواكبة هذا الانتقال نحو بناء حزب يساري ديموقراطي علماني. لكن محاولات المنظمة بالانفتاح على هذه المجموعات اصطدمت بجدار سميك من الصد، مؤكداً خيار أصحابه في البقاء أسرى فئوياتهم وحساباتهم الضيقة. ما دعا المنظمة إلى المراهنة أن تتمكن من خلال فترة انتقالية بين مؤتمريها السابق والراهن وعبر هيئاتها وفروعها، على تنظيم ندوات وسهرات ولقاءات في مختلف المناطق، تشرح فيها معالم مراجعتها الفكرية وتوجهاتها البرنامجية، وتطرح خياراتها الاشتراكية والديموقراطية والعلمانية للنقاش. وينجدل وسط هذا التقديم تغيير اسم المنظمة. إن هذا كله ومعه تفشي وباء كورونا والتعبئة العامة والحجر المتكرر وتبعات الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي، قد حال دون النجاح في فتح النقاش على أوسع جمهور ممكن، ما يعني أن المنظمة وحدها تتحمل مسؤولية قرار تجديد هويتها الفكرية وتوجهاتها البرنامجية وخطها، بالإضافة إلى تغيير الاسم وتبعاته ايجاباً وسلباً.
إن الاسم الجديد كمنظمة عمل يساري ديموقراطي علماني نرى أنه يتطابق مع الهوية الفكرية والتوجهات البرنامجية الجديدة التي قررت منظمة العمل الشيوعي التزامها، كما عبرت عنها وثائقها وبياناتها التي تضمنت مواقفها وتوجهات ممارستها النضالية، قبل وخلال انخراطها في انتفاضة 17 تشرين 2019 المجيدة، والانفتاح على مختلف المجموعات الناشطة، مما شكل شهادة لطروحاتها حول الوضع اللبناني الراهن من مختلف جوانبه وأزماته كياناً وطنياً ونظاماً سياسياً ومجتمعاً أهلياً. وخاصة ما أدلت به من مطالعات نقدية حول ما ساد في ساحات الانتفاضة من استسهال وتبسيط لعملية التغيير، وما سعت إلى بلورته من رؤية وتوجهات برنامجية من اجل بناء حركة معارضة ديمقراطية مستقلة، على طريق إعادة تأسيس حركة شعبية تعددية في حواراتها وسجالاتها وعبر نشاطية اعضائها وكوادرها، ما شكل محطة اختبار استثاني ليس في ميادين السجال والنقاش، إنما أيضاً على الصعيد النضالي، وساهم في إعادة تجديد حضور المنظمة نسبياً على صعيد المناطق، وقطاعات المجتمع كما على الصعيد الوطني، دون أن يغيب الصعيد العربي من بواباته الفلسطينية وساحاته المأزومة والمتفجرة القريبة والبعيدة على حد سواء.
وعليه، تتحدد طبيعة الاسم الجديد بانتماء التنظيم إلى ضفة اليسار الاشتراكي تعبيراً عن موقعه في الحياة السياسية ونضاله من الموقع الاقتصادي والاجتماعي والطبقي لمصلحة وصالح أعرض الفئات والشرائح والطبقات في المجتمع. ولما كانت المنظمة تقرن يساريتها بالديمقراطية، فهي تؤكد سعيها للمساهمة في بناء يسار يختلف عن اليسار الماضوي، من أجل تجربة عمل يساري يرى الاشتراكية في صميم نزوعها الديمقراطي. أما العلمانية التي نعلي رايتها فهي تنهل من تراث لبناني عريق في الدعوة إلى العلمانية منذ بزوغ عصر النهضة حلاً لإشكاليات الوضع الطائفي والوطني والقومي العام، والتي لم ينقطع دُعاتها عن مواصلة نهجهم رغم ما عانوه من الطغيان والاضطهاد الطائفي، ومن كم أفواههم وتسفيه طروحاتهم. لذا يتبدى طموحنا في اطلاق الدعوة لحركة يسارية ديموقراطية علمانية لبنانية شاملة تعمل على المساهمة من موقعها في معالجة الانقسام العمودي والأفقي والهوة القائمة بين مكونات المجتمع اللبناني، وتشارك في رسم طريق النضال من أجل خلاصه عبر مسار ديموقراطي، يقطع الطريق على المغامرات والمغامرين من أرباب الطوائف والباحثين عن أدوار مهما كان الثمن.
إن اسم “منظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني” يتصل دلالة ورمزية بتاريخ نصف قرن من نضال منظمة العمل الشيوعي في صفوف الشعب اللبناني. كما يربط هذا الماضي بكل ما تخلله من صلابة ونزاهة واستقلالية وثبات من جهة، مع الهوية الفكرية والسياسية الجديدة التي يلتزمها مناضلوها ومؤيدوها وأصدقاؤها من جهة ثانية.
الوضع العربي ومعضلاته البنيوية
إذ تجتاز المنطقة والدول العربية واحدة من أخطر منعطفات تاريخها الحديث نتيجة تضافر عاملين متفاعلين أحدهما داخلي وثانيهما اقليمي دولي، فإن نتائج انتشار جائحة كورونا قد فاقمت معضلاتها، وما كانت تشهده وتعانيه مجتمعاتها من ممارسات قمعية قبل وبعد فشل انتفاضاتها، وإغراقها في لجة الحروب الأهلية، والدفع ببلدانها نحو التفكك والفوضى الكيانية، فضلاً عن التخلف المقيم في ربوعها على مختلف الصُعد. الأمر الذي ابقى زمام المبادرة والإمساك بمقاليد الأمور مرة أخرى بيد أنظمة الاستبداد والتخلف، وسط استسهال تكرار تجارب الماضي، مع كل ما حفلت به من هزائم وتراجع على مختلف المستويات السياسية والتنموية والحريات والحياة الديموقراطية وإعاقة للتطور الاجتماعي. كما ساهم في تفكيك بُنى هذه المجتمعات وأعاد انتاجها مجموعات متنازعة، بما يعبر عنه من إنعكاس لفشل محاولات بناء وحدات مجتمعية كيانية حداثية، تستند إلى مصالح مشتركة تؤسس لولادة نهضة متجددة، وتراكم العمل على بناء هويات وطنية جامعة، تشكل حصانات لها، وتقطع الطريق أمام الأسئلة التي تدور حول مستقبلها.
سبق ذلك، التطورات التي شهدها العالم، بعد انهيار منظومة الدول “الاشتراكية”، وبروز الآحادية القطبية. ما أتاح للقوى الكبرى تعزيز هيمنتها وتوسيع ميادين سيطرتها على الصعيدين الإقليمي والعربي، لخدمة شبكات مصالحها في شتى المجالات لمراحل بعيدة مقبلة. أدى ذلك إلى تشريع بوابات المنطقة وتحويلها إلى ساحات صراع دولي اقليمي، وميادين حروب أهلية تحكمها مسارات ذات طبيعة تفكيكية مضاعفة لكياناتها الوطنية ونظمها السياسية وبُنى مجتمعاتها، ما ساهم في تجديد وتعميق انقساماتها على أسس عرقية أو دينية مذهبية ومناطقية. وهي الحروب المندلعة والمُدارة اقليمياً ودولياً، والتي جعلت دول المنطقة مجرد مساحات مستباحة، وسط حالة عجز مطلق باتت معها مجردة من وسائل الدفاع عن أساسيات وجودها، إلا ما تسمح به تعارضات السياسات الدولية والاقليمية وتناقضاتها، وهو ما ترك مجتمعات الدول العربية رهينة لتدخلاتها، أمناً واستقراراً وسياسةً واقتصاداً وثرواتٍ ومستقبل أجيال.
إن شعارات التقدم والديموقراطية والكرامة والعدالة الانسانية والحريات التي رفعتها انتفاضات الربيع العربي، الناجمة عن حالة الاختناق جرَّاء انعدام الحياة السياسية وتراكم أزماتها، افتقدت لوجود قوى يسارية فاعلة، قادرة على تأطير فئات وقطاعات مجتمعاتها وقيادتها وانتاج برامج التغيير. بينما نجحت التيارات الاسلاموية بشعاراتها الشعبوية الأصولية في تجديد بُناها وكسب حواضن جماهيرية واسعة، سمحت لها بتصدر المشهد، واقتطاع مناطق ومساحات نفوذ لها على أكثر من صعيد، بما فيه إعلان “إمارات”، وتأسيس “دولة الخلافة”. عدا أنها تحولت سلطات أمر واقع تستظل ايديولوجيا دينية وطائفية ماضوية، ذات طبيعة تناحرية وتدميرية للكيانات والدول القائمة، ولِما هو متحقق من تراكمات وبُنى حداثية. مما عاد يلقي بثقله على المنطقة، ويعيق عودة الحياة إلى نهضتها الموؤدة، والتي عرفتها في مرحلة التحرر الوطني، على يد النخب العسكرية العربية، التي استلمت زمام السلطة، وعطلت الآليات الدستورية والممارسة الديموقراطية والتعددية، ومنعت قيام دولة القانون والمواطنة. الأمر الذي سهّل تركّز النظم الاستبداية التي اختزلت الدولة وأسرت مجتمعاتها، وأعاقت تطورها ووحدتها. وهي النظم التي فشلت في مواجهة تحديات الاستعمار الجديد في تحولاته ومرتكزاته الاقليمية. كما عجزت عن السيطرة على أسواقها الوطنية والتخلص من التبعية، مما كان له إنعكاساته السلبية على مفهوم الدولة الحديثة.
وعليه، فإن جملة السياسات التي اعتمدتها تلك الأنظمة، جعلت من دولها أرضاً يباباً تتنازع الهيمنة عليها راهناً قوى إقليمية ثلاثة:
ـ الكيان الصهيوني، باعتباره الحارس الامبريالي الأول المدجج بالمظلة السياسية والسلاح والتكنولوجيا الحديثة، ورغم أن ضغطه الأقصى يتناول القضية الفلسطينية وحقوق شعبها في الحرية والاستقلال وبناء دولته الوطنية على ترابه الوطني المحتل عام 1967، إلا أن السياسات الاميركية دفعت بدولة العدو الاسرائيلي إلى الأمام ووضعتها في موقع الإمساك بزمام مفاصل حساسة في قيادة العلاقات الإقليمية، بحجة الدفاع عن وجودها، وبذريعة مواجهة الخطر الإيراني من خلال عمليات التطبيع التي امتدت من الخليج إلى المغرب العربي مروراً بالسودان.
ـ النظام الإيراني، الذي دخل المنطقة لتكريس نفوذه وهيمنته منذ أكثر من عقود ثلاثة، بزخم ثورته ومشروعه المذهبي، متكئأ على إشكالية الاقليات الشيعية في دول الجوار الإقليمي والعربي. وركزت على إيجاد مواطئ أقدام لها، وعملت على إمدادها بالمال والسلاح تحت ظلال أيديولوجيا ولاية الفقيه والفكر الديني المذهبي. وقد أدت هذه الاندفاعة التي تمحورت في كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان.. إلى حال من الفوضى الكيانية العامة، عبر تسعير الانقسام الطائفي والمذهبي، ما ساهم في تفجير وحدة المجتمعات الداخلية، وتدمّيَر مؤسساتها السياسية والاجتماعية والديموقراطية والنقابية، وإبادة ما راكمته من عناصر توحيد على مرِّ قرون من الاندماج بين مكوناتها، الأمر الذي شكل ارتداداً عن همّ اجتراح الحلول الديموقراطية الفعلية لمعضلاتها الكيانية والاجتماعية والتنموية المتراكمة.
ـ الحكم التركي، وكما أغرى الفراغ السياسي والمؤسسي والفكري العربي القيادة الايرانية، فقد سهّل أيضاً الاندفاعة المتأخرة للقيادة التركية الحالية ذات التوجه الاسلامي الماضوي، الباحثة عن مناطق لنفوذها ارتكازاً على حوامل ومناخات دينية مذهبية خدمة لسياستها في قلب المنطقة وعلى أطرافها. ولذلك خاضت ولا تزال صراعاً لا هوادة فيه نحو تثبيت دعائم دور يحاكي توجه النظام الايراني على حساب المجال العربي العام القومي والكياني الدولتي في المنطقة. إن حلم استعادة الخلافة العثمانية كخلافة اسلامية سنية، هو الوجه الآخر لمشروع ولاية الفقيه الشيعية. فكلاهما يتعامل مع المنطقة باعتبارها مجرد طوائف متناحرة ومذاهب ملحقة، وأرياف تدور حول مركزيها في طهران واسطنبول.
ورغم تحوّل المنطقة ساحة مشرعة لتدخلات القوى الخارجية القريبة والبعيدة منها، بحثاً عن مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية، الا أن الولايات المتحدة الاميركية تبقى الطرف الرئيسي والقوة المهيمنة والأكثر نفوذاً، باعتبارها الجهة الأقدر على استثمار الخلل البنيوي القائم بين الأطراف الدولية والاقليمية المتدخلة والمتصارعة، معطوفاً على الخلل بنى الكيانات العربية ومجتمعاتها. وقد قاد ذلك إلى تلاشي كل مؤسسات العمل العربي المشترك الموحدة، وأبقى تلك الدول والنظم الحاكمة عارية تحت سقف السيطرة والإدارة الاميركية. أما إدعاء بعضها الممانعة فليس سوى عملية استجداء رخيصة لاعتراف الولايات المتحدة بها بهدف تثبيت سلطاتها الهشة وحجز حيز لها في حساباتها.
وعليه، من الصعب، بل ومن العسير الحديث عن احتمال استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي عام، في دول المنطقة. وهي التي تتعرض ككيانات لامتحانات عسيرة، لا سبيل للخروج منها الا بإحداث تغييرات بنيوية عميقة على مختلف الصعد. لكن التغييرات المرجوة تفتقد حتى الآن إلى القوى المجتمعية التي تستطيع أن تلعب دورها القيادي عبر خوض صراع ديموقراطي حداثي، يضع هذه البلدان على طريق الخروج من مآزقها المتداخلة ويدفع بها نحو التقدم. لا نتقصد من هذه المقاربة الدخول في تفاصيل الأوضاع العربية على امتداد ساحاتها، بل إحاطة إجمالية، لا تمنع من الوقوف السريع عند ما تمر به كل من مصر والعراق وسوريا وفلسطين باعتبارها جميعاً تستحق الدراسة المفصلة لأنها الأكثر تماساً وتأثيراً على لبنان ومجريات أوضاع المنطقة.
الثابت حتى الآن أن جامعة الدول العربية التي تشكلت ونهضت في مرحلة نيل هذه الدول استقلالاتها قد فقدت دورها الجامع، أو حتى الحد الأدنى من وظائفها كمؤسسة اقليمية تجمع بين أكثر من عشرين دولة عربية ساهمت في تشكيل أطرها المختلفة، ورسم سياسات مشتركة حول العديد من المشكلات المطروحة. ولا شك أن المرحلة التي أعقبت توقيع اتفاقيات “السلام” في كامب ديفيد بين مصر واسرائيل، كانت الفاتحة التي تبعتها عواصف عاتية أبرزها الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982 واخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية منه وتشتيت قواها المقاتلة، قبل احتلال العاصمة بيروت وتسعير الحرب الأهلية. ومن ثم الحرب العراقية الايرانية وانعقاد مؤتمر السلام العربي الصهيوني واجتياح الكويت وصولاً إلى عاصفة الصحراء واحتلال العراق وتدمير دولته في العام 2003. مما وضع مصير هذه المنظمة الاقليمية محل أسئلة وجودية جوهرية. خاصة في ظل الأحداث التي تلاحقت تباعاً وقادتها إلى مزيد من الضعف والتفكك، ودفع ببعض أطرافها المشاركة في هياكل الجامعة العربية، إلى تشكيل أطر بديلة موضعية ضيقة، كمجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي.
وإزاء عجز الأنظمة والسلطات القائمة عن مواجهة أعباء المرحلة ومتطلباتها، فقد حصرت مهامها ومسؤوليتها في تكريس بقائها والدفاع عن سلطاتها. ولذلك أفلتت العنان لأجهزتها القمعية لحجز ارتياد آفاق أي تجربة ديموقراطية فعلية، تتصل بحق مشاركة المواطنين في السياسات العامة على مختلف مراتبها، بما يفرج عن طاقات المجتمع الكامنة، ويحرره من القيود التي تشد عليه الخناق. ولعل ما أصاب كل من مجلس التعاون والاتحاد المغاربي، من تعثر وتفكك كان بمثابة تعبير عن مآزق الأنظمة والدول، التي لا يمكن معالجتها ضمن هذه الأطر الضيقة، حيث الغلبة للحسابات الآنية بالنسبة للاطراف المشكلة لها. أما باقي الدول العربية فقد واجهت كل منها مصيرها منفردة، ما أوقعها ضمن الأوضاع الدولية المعقدة والمتداخلة في فخ التلاعب الدولي والاقليمي بكياناتها ومقدراتها.
ومن البديهي القول إن التطورات التي عصفت بالمنطقة العربية منذ نهاية العقد الأول من القرن الحالي، وما تعرضت له من تحديات جاءت على رافعة الانتفاضات التي شهدتها العديد من بلدانها. وهي الانتفاضات التي نادت بالحريات الديمقراطية ومبدأ تداول السلطة واحترام حقوق الانسان، وكان في أسباب اندلاعها الاختناق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي عانته مجتمعاتها ودولها على ايدي أنظمتها الإستبدادية. غير أن تلك الانتفاضات فشلت في فرض التغيير الديمقراطي المطلوب بالوسائل السلمية، وذلك لأسباب موضوعية وذاتية أيضاً، تتعلق بتدمير تلك الانظمة وعلى امتداد عقود طويلة لكل اشكال الحياة السياسية وتشكيلات المعارضة. ولذلك عجزت عن النفاذ من أفخاخ تحويل معارضتها وتحركاتها حروباً أهلية طاحنة قادت إلى تدمير النسيج الاجتماعي، والمتراكم من مؤسسات حداثية، وإعادة بلدانها عقوداً طويلة إلى الوراء.
ومع استمرار دول المنطقة في ظل أزماتها بالدوران في حلقة مفرغة، بات الوضع العربي يشبه المسرح المفتوح للصراعات الداخلية بين مكوناته المختلفة والمتنوعة، ولتدخلات القوى الاقليمية والدولية المتنافسة على تركيز نفوذها واقتطاع مساحات منها لتحقيق شبكة مصالحها في السيطرة على ثروات المنطقة، عبر إخضاع واستغلال شعوبها وطمس طموحاتها في بناء أنظمة حديثة وعلاقات ديموقراطية، ومؤسسات تستند إلى القوانين والأنظمة وتحتكم إلى الشرعية الانتخابية. وقد استغلت تلك الدول بقايا السلطات والنظم السابقة والبُنى الموروثة وقوى الأمر الواقع، وجعلتها مجرد واجهات لسلطات تدور في فلك حُماتها من الاطراف الاقليمية أو الدولية. حدث ذلك بالتزامن مع دفع العديد من الأنظمة الحاكمة إلى الإرتماء في الحضن الاميركي والاسرائيلي استطراداً، من خلال عمليات التطبيع والتمثيل الدبلوماسي المتبادل والتنسيق الأمني والعسكري، فضلاً عن الانفتاح الاقتصادي والسياحي وغيره.
ـ مصر وغياب الدور
والواضح أن تعرّض دول المنطقة راهناً لتحديات متداخلة من القوى الدولية والاقليمية المحيطة جعلها عُرضة لشتى المخاطر. ففي مصر والسودان هناك مسألة سد النهضة الأثيوبي، ورفض اثيوبيا التوصل إلى اتفاقية مُلزمة تتضمن الاعتراف بالحقوق المائية لدولتي مجرى النيل العربيتين. وفيما يواجه السودان مضاعفات سياسات العهد السابق من الأزمات وآثار العقوبات الاميركية وتعدد الحركات الانفصالية وتدهور الاقتصاد والأوضاع المعيشية، والصراع على مآلات نظامه بعد انتفاضته بين المؤسسة العسكرية والقوى الديموقراطية والنقابية، تشهد مصر على حدودها الغربية تعقيدات الوضع الليبي الذي يتداخل فيه عجز قوى البُنية القبلية والمناطقية عن التوافق حول مشروع توحيدي للبلد، مع تدخل قوى دولية ممثلة بإيطاليا وفرنسا واميركا وروسيا، وأقليمية ممثلة بتركيا التي باتت لاعباً أساسياً في داخله، انطلاقاً مما لديها فيه من ارتباطات بميليشيات اصولية وتشكيلات أهلية، تعززها قوى نظامية ومرتزقة، لحماية استثماراتها، ومصالحها التي تتعلق بترسيم حقول النفط والغاز في منطقة شرقي البحر المتوسط.
علماً أن عودة العسكر مجدداً إلى الحكم في مصر في أعقاب الانتفاضة والانقلاب على سلطة الأخوان المسلمين، لا يعني بأي حال من الأحوال استعادة تجربة التحولات الناصرية وما رافقها من إنجازات وأعطاب. تضاف إليها ممارسات التنظيمات والمجموعات الاسلامية الأصولية ذات الصلة بالعهد السابق، وذات الطابع الأمني سواء في سيناء أو في الداخل المصري، والتي تهدد بتصاعد الانقسامات والنزاعات الأهلية والطائفية، وسط استمرار افتقاد البلد إلى المكوّن الديمقراطي القادر على الاعتراض والتاثير في مجريات مواجهة تحديات الوضع الراهن.
ومع استمرار العجز عن حل معضلات الوضعين السياسي والاقتصادي والمعيشي المتردي رغم بعض الانتعاش في مؤشراته الاقتصادية بعد أن فاقمتهما سياسات الانفتاح وعمليات الخصخصة، واقفال العديد من مؤسسات الصناعات الثقيلة وتشريع أبواب البلاد للمستوردات الخارجية، فإن ارتهان ميزانية البلاد للمساعدات والقروض الخارجية يجعل من دور مصر خارج اطار الدينامية والقدرة على التأثير في قضايا المنطقة العربية، ويعرّضها لأزمات لا قبل للسلطات القائمة بعلاجها أو الحد من سلبياتها. وهي الأزمات التي يزيد من حدتها تراجع فعالية حضور الدور المصري عربياً، والاكتفاء بلعب دور الوسيط حيال الإنقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني، كما حول ما يعانيه قطاع غزة وفق رغبة الإدارة الاميركية، فيما الحصار يبقى مطبقاً على القطاع جواً وبحراً وبراً، رغم الدمار الذي تسببت به الحروب الاسرائيلية المتلاحقة، وآخرها ما شهده العام الماضي.
ـ العراق بين الصراع فيه وعليه
وفي العراق لا يزال مشروع إعادة بناء الدولة يخضع لتجاذبات الصراع بين كل من ايران والولايات المتحدة، كما بين مكوناته الداخلية التي أعادت ادارة الاحتلال الاميركي تشكيلها وتقنين انقساماتها على نحو طائفي. في المقابل نجح النظام الإيراني في رعاية الانطلاقة الطائفية ـ المذهبية والاستثمار فيها. وعليه فإن وحدة السلطة والبلاد باتت أمراً صعب المنال، خاصة في اعقاب قيام ما هو أكثر من الحكم الذاتي للاكراد في الشمال والشيعي في الجنوب والوسط والسني في المناطق الشرقية من البلاد. ومع احتدام التنافس على الإمساك بالوضع العراقي بالنظر لأهمية موقعه وحجم مقدراته النفطية وغيرها، علماً أن الايرانيين تمكنوا من استغلال اسقاط النظام العراقي وتدمير مؤسسات الدولة، ودفعوا بميليشياتهم ومشروعهم المذهبي الإلحاقي إلى داخل البلاد وفي المتيسر من دول الاقليم، ونجحوا في تحويلها قوة سياسية لها حضورها في مجلس النواب والسلطة التنفيذية، وطرفاً مؤثراً في السياسات العامة وبرامج الحكومات ومشاريعها، كما تمكنوا من شرعنة ميليشيات “الحشد الشعبي” المسلحة في إطار القوى النظامية، في سياق السعي للإمساك بالسلطة، والتحكم بادارة الوضع على نحو يضمن تأبيد السيطرة والنفوذ الايراني عليهما.
وفي ما يبدو أن الولايات المتحدة تتجه نحو تقليص وجودها في العراق وفي جملة دول الاقليم، تحاول فرنسا وراثة هذا الدور بالتوافق مع ايران، والدخول عبر شركات صناعة الأسلحة والنفط وتطوير عمليات التنقيب والتكرير وتحديث المصافي القديمة، والعمل لتأمين أسواق لتصريف منتجاتها. أما تركيا التي تحتل بدورها شريطاً من الاراضي العراقية بداعي مواجهة المعارضة الكردية المسلحة، فهي تشترك مع ايران أيضاً في فرض إرادتها ومصالحها، وتمارس تقنين وحصار مائي يحصد خسائره الفلاحون العراقيون في مناطق البصرة وجوارها، عدا الحاجة الملحة والمتفاقمة في عموم العراق إلى مياه الشرب النظيفة.
وأمام تفاقم الأزمات السياسية ومصادرة قرار البلاد وتفشي الفساد ونهب موارد الدولة برزت مشكلات البنية التحتية من شبكات مياه وكهرباء وخطوط اتصالات وطرقات وجسور ومستشفيات ومؤسسات تعليم وارتفاع منسوب البطالة، نهضت خلال العام الفائت مجاميع من الشباب العراقي، خرجت إلى شوارع المدن الرئيسة مطالبة بالحرية والاستقلال والتنمية، وتغليب المصالح الوطنية على ما عداها، وملاحقة ناهبي المال العام والمطالبة بحل المعضلات المتراكمة. هذا الحراك وعلى الرغم من قمع القوى الميليشياوية وعمليات التصفية والاغتيال التي طالت المئات من قادة الاعتراض والناشطين، نجح في التعبير عن نفسه خلال الانتخابات الأخيرة التي ألحقت نتائجها هزيمة كبرى بالقوى المرتبطة بالنظام الايراني، ما دفع قائد الحرس الثوري الايراني إلى ممارسة أقصى الضغوط على نحو متكرر لهندسة الانقلاب على هذه النتائج من خلال الضغط لتعديلها وتعطيل انتظام عمل المجلس النيابي الجديد وقيام حكومة جديدة وممارسة سلطاتها، بالاضافة إلى رعاية ابتزاز سائر الاطراف الأخرى بقوة الاغتيالات والتفجيرات والفوضى الأهلية المسلحة في حال إقصاء قوى الحشد الشعبي المهزومة عن الحكومة ومؤسسات الدولة والادارة، وذلك لضمان استمرار انضواء العراق تحت العباءة الايرانية، مما يعكس حجم الاستعصاءات والتحديات التي تواجه الوضع العراقي.
ينبغي الإدراك أن إنجازات الانتخابات ونتائجها قد تحققت رغم نظام المحاصصة الطائفية والفئوية لتوزيع السلطة بين المكونات الطائفية والاثنية الذي أرسته الإدارة الاميركية، والتي تتم في ظل الهيمنة والوصاية المدارة اميركياً وايرانياً. هذا المركب المتداخل بين الداخل والخارج يشكل عوائق فعلية امام تصفية بقايا “دولة” داعش الاسلامية ومجموعاتها المقاتلة، ويسهل استنبات ما يشابهها، خاصة مع ما نجم عن محاولتها الأولى من تهميش وتدمير وتهجير لم يزل جاثماً في المدن والأرياف السنية.
وكما تفتقد مصر إلى قوى اليسار والحركة الديموقراطية، يعاني العراق بدوره من تراجع وزن الأحزاب اليسارية والشيوعية التاريخية، وعجزها عن القيام بأي مبادرة من شأنها إعادة استنهاض القوى المتضررة من المآل الذي تندفع البلاد نحوه، وبالتالي بقاء الوضع على ما هو عليه من صراعات متداخلة، ومن قيام مشاريع ومحاولات انتحارية ترفع راية الطروحات الاسلاموية أو سواها، والتي تصب في طاحونة النفوذيْن الاميركي والايراني وقوى السلطة أكثر مما تلحق الأذى بها.
إن خسارة الموقع والدور المصري والعراقي أصاب المنطقة العربية في الصميم، وأدى إلى فقدانها توازنها الاستراتيجي، وترك بواباتها مفتوحة وجعلها مجرد ساحات تنازُع بين قوى اقليمية ـ دولية، تضع يدها على مقدراتها، وتديرها على النحو الذي يخدم مصالحها الاستراتيجية، فيما الشعبان المصري والعراقي يعانيان من شظف ومرارة الحصول على الحد الأدنى من مقومات الحياة اليومية، هذا دون أن نتحدث عن التطلع إلى حل المعضلات التي تحول دون صياغة مستقبل يخرجهما من مستنقع التخلّف والإنقسامات العرقية والطائفية.
ـ المسألة السورية والحروب المتعددة
يكتسب الاهتمام بالوضع السوري مقارنة مع الوضعين المصري والعراقي موقعاً استثنائياً بالنسبة لنا، بالنظر إلى تأثيراته على مصير الكيان والشعب السوري من جهة، وعلى لبنان من جهة أخرى. خصوصاً لناحية مضاعفاته على الوضع السياسي العام والديموغرافي الداخلي، ووجود ما يزيد عن مليون لاجيء سوري في لبنان منذ عقد من السنين. وهم مستمرون فيه ما دامت الأوضاع لم تتغير نحو إيجاد حلول فعلية لمشكلات عودتهم إلى بلادهم المرفوضة من جانب السلطة، على الرغم مما يشاع بأن النظام يسيطر حالياً على أكثر من 80% من الاراضي السورية. وهو تطور نوعي بالقياس إلى إنكفاء نفوذه مع بداية الأزمة إلى حدود الشريط الساحلي في الغرب، والعاصمة التي كانت مهددة بالسقوط قبل التدخل الروسي استجابة لطلب النظامين السوري والايراني.
لقد أنقذ هذا التدخل كلاً من النظام وحلفائه في طهران، وكل من يدور في فلكهما من قوى ميليشاوية طائفية لبنانية وعراقية، ساهمت ولا تزال في القتال الدائر في سوريا. كما ساهم فيه التلاعب بقوى ومجموعات المعارضة من قبل أطراف عربية ودولية، عمدت إلى استغلال أعطابها البنيوية وعجزها عن صياغة وقيادة مشروع التغيير الذي دفع ثمنه المواطنون السوريون ألوفاً مؤلفة من الشهداء والسجناء والمفقودين والجرحي والمعوقين، بالإضافة إلى نزوح وتهجير نصف سكان البلاد. إن آلة الحرب المتعددة الهويات والجنسيات التي تناوبت ولا تزال على دك المدن والبلدات والقرى السورية، والمرافق العامة والممتلكات الخاصة، قادت إلى تعميم الخراب على مختلف أجزاء البلاد. وهي التي تحتاج عملية إعادة إعمارها إلى عقود من الزمن وبأكلاف باهظة، لكن الشروع فيه يبقى أمراً متعذراً، بالنظر لغياب الحل السياسي المؤجل الذي يتطلب توافقاً دولياً اقليمياً وداخلياً ما زال مفقوداً.
لكن كارثة الدمار التي ترزح تحت أثقالها البلاد، تظل أهون مما أصاب بُنية المجتمع السوري من تفكك نتيجة التلاعب والتغيير الديموغرافي والجغرافي الطائفي والعرقي، وجرَّاء عمليات التهجير القسري للمواطنيين مما سمّي “سوريا المفيدة”، وتجنيس واحلال أقليات طائفية متنوعة الجنسيات في البلدات والمدن السورية القديمة والتقليدية، سواء من قبل النظام لتمكينه من استعادة السيطرة على مقاليد الأمور فيها، والسعي لتكريس هيمنة الأقلية الفئوية بعد توسيع قاعدتها بدعم روسي وايراني، أو من قبل التنظيمات الاصولية المتصارعة التي تتنازع السيطرة على بقية المناطق واقامة سلطات الامر الواقع برعاية وحماية اميركية أو تركية.
إن ملايين السوريين الذين أُخرجوا من ديارهم قسراً، وقذفت بهم الحرب المستعرة إلى المدافن والسجون والمنافي البعيدة والقريبة، تجعل من المستحيل تصور عودة سوريا إلى ما كانت عليه، وكما كان يعرفها أبناؤها، مجتمعاً أهلياً متنوع الانتماءات والمشارب والثقافات وحتى اللغات. إذ إنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل عودة الدولة لبسط سلطتها عليها، في ظل مئات القواعد والمراكز العسكرية الأجنبية الاميركية والروسية والتركية والايرانية، وتعدد القوى التي تمتلك مناطق نفوذ وسيطرة، والتي لن تتخلى عنها الا بعد ضمان شبكة مصالحها على حساب وحدة ومصير الكيان والشعب السوري ومصالحه.
ولا بد هنا من الإشارة إلى الدور الاسرائيلي ضمن قائمة القوى المتدخلة في الصراع الدائر في سوريا وعليها. إن الغارات التي ينفذها الطيران الاسرائيلي في طول البلاد وعرضها، بذريعة مواجهة خطر التواجد الايراني في جنوب وشمال البلاد، تعني أن العدو الصهيوني بات لاعباً رئيسياً في تطور الأحداث وفاعلاً في غرف العمليات الاميركية والروسية التي يحظى فيها بكل أشكال الدعم والرعاية والتنسيق. وإلى جانب محاولاته تكريس ضم الجولان السوري المحتل منذ العام 1967، وعدم الاكتفاء بالاعتراف الاميركي بسلطته عليه، واعتبارها بمثابة أرض اسرائيلية من صلب الكيان الصهيوني وليست أرضاً سورية محتلة، فإنه يستهدف أيضاً المشاركة في أية مفاوضات تدور حول صياغة مصير الكيان والجغرافيا والتوازنات السورية، فيما النظام لا يحرك ساكناً إزاء ذلك.
بعد أكثر من عشر سنوات على الحرب الأهلية المستمرة دون انقطاع، فإن سوريا لا تزال ساحة لحروب متعددة يتداخل فيها الدولي الاميركي والروسي مع الاقليمي التركي والايراني والعربي الخليجي، انتهاءاً بالاسرائيلي. وهي القوى التي تتشارك معارك تقاسم النفوذ والسيطرة والمصالح، تحت عناوين متنوعة لا صلة لها بحقوق ومصالح الشعب السوري الذي يشكل وقودها ويدفع أكلافها. بما فيه النظام المستَرهَن لتغطية حُماته بينما يتوهم الانتصار على شعبه.
وعليه فان المسألة السورية لا تزال أسيرة السؤال الذي يبحث عن جواب له وسط ركام العمران والاجتماع والاقتصاد، كما في المعتقلات والمنافي ومخيمات النزوح واللجوء في الداخل والخارج، وبين دهاليز المصالح الدولية والاقليمية التي تتحكم بقرار استمرار أو وقف الحرب الدائرة فيها وعليها، باعتبارها تملك اوراق التسوية السياسية التي تضمن لها مصالحها أولاً. ويتبين أن كل الأطراف الضالعة في تلك الحرب بهذا القدر أو ذاك تعمل على أولوية تأمين مصالحها. فالولايات المتحدة ومنذ عهد الرئيس أوباما تواصل سياسة التلاعب بالداخل السوري بين الحديث عن اسقاط النظام أو قبول بقائه، ضمن استراتيجيتها الأوسع على صعيد منطقة الشرق الاوسط. وروسيا توظف حضورها العسكري والسياسي من أجل حل معضلات علاقاتها مع كل من الاتحاد الاوروبي واميركا والملفات العالقة معهما حول اوكرانيا والقرم وسواهما. أما ايران وتركيا فتؤكدان على مصالحهما في الهيمنة على المجال الحيوي السياسي والاستراتيجي السوري سواء في الداخل أو الشمال ضمن مشروعيهما لملء الفراغ في المشهد العربي.
لقد أعاد النظام السوري بقوة الدعم الروسي والايراني والميليشيات التابعة تعويم موقعه، دون أن ينجح في التصدي لأي من المعضلات التي طرحتها الانتفاضة السورية، أو تلك الناجمة عن الحرب التدميرية التي لا تزال تتوالى فصولاً. ورغم وجود وبقاء مظهر مؤسسات وأجهزة دولة وقوات مسلحة نظامية، إلا أن الطابع الأقلوي للنظام لم يتبدل مع استمرار غلبة المنحى الميليشياوي المخابراتي. ورغم خضوع غالبية المناطق السورية شكلاً لسلطة النظام المركزية، إلا أنها فعلياً محكومة من سلطات عسكرية ومن قوى الامر الواقع الدولية ــ المحلية، التي لا يعنيها من القوانين والأنظمة سوى ما يحقق مصالحها في استمرار هيمنتها من جهة، ونهب ما تبقى من مقدرات البلاد من جهة ثانية. والأخطر من ذلك استغلال النظام بقواه وأجهزته المتفرعة قضية إعادة اللاجئين والنازحين السوريين، والاستثمار فيها وفق ما يخدم مصالحه وضمان سيطرته ومن دون السماح بعودتهم إلى بلادهم. يؤكد ذلك ما كشفه تقرير منظمة العفو الدولية الأخير، عن حقيقة سياسة النظام في تدبير حملات التهجير ورفض عودة النازحين إلى بلادهم. وتعريض العائدين منهم إلى شتى صنوف التعذيب والبطش عبر أعمال التحقيق، وفي التخلص منهم أو زجهم في السجون أو إعادة تهجيرهم.
وإذ يتحمل النظام المسؤولية الرئيسية عما آل إليه وضع سوريا وقد اصبحت كياناً ممزقاً ومحميات نفوذ دولي واقليمي. فإنه يستحيل تجاهل المساهمة الثمينة التي قدمتها التيارات الأصولية الاسلامية المتنوعة له ولحلفائه. خاصة الدور الذي لعبته كل من جبهة “النصرة” وتنظيم “داعش” وسائر التشكيلات والألوية المنضوية تحت عباءة التيارات الاسلاموية والفكر السلفي. وهو الدور الذي كان محورياً في إلحاق الهزيمة بالانتفاضة الديموقراطية السورية من خلال تفكيكها وشرذمتها وتطييفها. علماً أن الممارسات الارهابية وعمليات الذبح والتنكيل والخطف التي نفذتها، في المناطق التي سيطرت عليها وأخضعتها لما أسمته الأحكام الشرعية الاسلامية، قد ساهمت في استثارة الرأي العام الداخلي والخارجي ضدها. إن المسؤولية الرئيسة عن هذا الدور تقع على عاتق النظام الذي رعى تأسيسها، عندما أطلق سراح المئات من عناصر تنظيماتها من سجونه، كما على الدول الكبرى والاقليمية وأنظمة الاستبداد العربي التي تولت الاستثمار فيها عبر امدادها بالمال والسلاح، ومساندتها في قمع قوى المعارضة المستقلة أو في اختراق صفوفها وتشتيت وبعثرة قواها وجمهورها.
ومما لا شك فيه ايضاً أن المعارضة السورية بكل تلاوينها تتحمل قسطاً لا يستهان به من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع العامة للبلاد من نتائج كارثية. ورغم أنها دفعت ثمناً مرعباً من الدماء بنتيجة ممارسات النظام وأجهزته وحلفائه من الميليشيات وخصومه من الجماعات الاسلاموية الاصولية، إلا إن هذه الأثمان مرشحة للمزيد طالما استمرت الحرب الأهلية ومعها محاولات تأبيد سلطة النظام التي تقارب الاحتلال، سواء عبر إصراره على اجتثاث كل انواع الإعتراض والمعارضة أفراداً كانت أو مجموعات، أو نتيجة عجزها عن إعادة النظر والتدقيق في تجربتها واستخلاص الدروس والعِبر اللازمة من تجاربها بمراحلها المتعددة، مدخلاً لإعادة اطلاق معارضة ديمقراطية مستقلة حقاً، وقادرة فعلاً على مواجهة النظام، والضغط من اجل وقف الحرب الأهلية التدميرية، والسعي لفتح الأفق نحو إعادة بناء سوريا وتوحيدها.
ـ القضية الفلسطينية والصراع المفتوح
رغم حال الإطباق العربي ـ الدولي الذي يعانيه الشعب والقضية الفلسطينية، شهدت عشرات العواصم والمدن العالمية العام الماضي أشكالأ من التضامن وتظاهرات التأييد لنضالهم والتنديد بالاحتلال وسياساته العنصرية التهجيرية. في الوقت الذي يؤكد الفلسطينيون وبشكل متواصل قدرتهم على الصمود ومواجهة قوات الاحتلال والمستوطنين الصهاينة. وما عملية الفرار التي نفذها عدد من الأسرى المعتقلين، سوى تعبير عن اصرار الشعب الفلسطيني على مواصلة خيار المقاومة ورفض الاحتلال. كما وإن الانتفاضة التي شهدها شهر أيار العام الماضي انطلاقاً من حي الشيخ جراح في القدس القديمة والتي شملت أنحاء الضفة الغربية المحتلة وأراضي العام 1948 وقطاع غزة المحاصر، كانت البرهان الأسطع على ما يختزنه هذا الشعب من طاقة وقدرات في مواجهة الاحتلال، ومشاريع التهويد التي تستهدفه في وجوده وعلى أرض بلاده. إن نجاح الشعب في إبقاء شعلة النضال الفلسطيني حاضرة رغم قساوة الظروف الداخلية والمحيطة، لا يعني الإرتقاء بالصراع المصيري إلى المدى المطلوب لإجبار المشروع الصهيوني على الإنكفاء والتخلي عن الاراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967، والاعتراف بالحقوق السياسية الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، بما فيها حقه في إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني عبر ما يعرف بحل الدولتين وعودة اللاجئين إلى ديارهم.
تنبع المفارقة التي يعانيها الشعب الفلسطيني في صراعه مع الاحتلال الاستيطاني من جملة ظروف دولية ـ اقليمية مؤاتية لهذا الاحتلال. ففي غضون العقدين المنصرمين تمكنت الولايات المتحدة الاميركية من الإنفراد، وكف يد سائر الاطراف الدولية الأخرى، عن إدارة ملف الصراع العربي ـ الاسرائيلي، بما فيها الأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي وجامعة الدول العربية. وخلال ولاية الرئيس ترمب حقَّق الهجوم الاميركي ـ الاسرائيلي على القضية الفلسطينية، خطوات إضافية تمثلت بنقل السفارة الاميركية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة لدولة اسرائيل وبيهودية الدولة العبرية. واكب ذلك إقفال مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وقطع المساعدات عن الشعب الفلسطيني ومؤسساته المدنية، وحجب الأموال عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ـ الاونروا كمؤسسة أممية معنية بحمايتهم وتقديم الخدمات لهم كمقدمة للتخلص منها وإلحاقهم بالمفوضية العليا لشؤون اللاجئين. وتُوج الهجوم الاميركي برعاية عملية التطبيع بين دولة الاحتلال والسلطات الحاكمة في كل من الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين والسودان والمغرب. جرى ذلك في اعقاب الاعلان عن خطة “صفقة القرن” لإنهاء الصراع العربي ـ الفلسطيني مع الكيان الصهيوني، وهي الخطة التي استهدفت تصعيد الاحتلال وتحويل المؤقت إلى دائم، وجعل المناطق الفلسطينية الخاضعة له عبارة عن جزر متناثرة مجردة من أي سيادة على الأرض والجو والبحر، والعمل للإبقاء عليها مجرد سلطات محلية أو إدارة ذاتية هزيلة. ولعل الأهم في الخطة، هو اعطاء اسرائيل موقعاً قيادياً إقليمياً لجبه التدخل الايراني والتركي في أوضاع المنطقة. في موازاة التوجه لإلغاء مؤسسة الأونروا، بهدف قطع الطريق على إمكانية عودة اللاجئين إلى المناطق التي طُردوا منها، والسعي لتوطينهم في دول الشتات العربية والخارجية، أو الحاقهم بما ينتظره عشرات ملايين اللاجئين من دول العالم الثالث من مصير مجهول. لكن الأخطر هو محاولات دمج دولة الاحتلال ضمن المنطقة وتحويلها إلى مركز رئيسي للمواصلات البرية والبحرية والجوية والاستثمارات والتجارة الخارجية.
إن تجميد العمل بخطة “صفقة القرن”، مع تبدل الادارة الاميركية، لا يعني العودة عما انجزته اسرائيل بدعم ورعاية اميركيين، بما فيه الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ويهودية الدولة، لأنه بمجمله يقع في سياق توجهات وثوابت الاستراتيجية الاميركية حيال المنطقة بأسرها. وهو ما ستواصل الادارة الحالية العمل على تنفيذه.
أما الوعد الاميركي بالعودة إلى حل الدولتين فلن يكون أكثر من سراب، بالنظر إلى ما خبره الفلسطينيون طوال العهود الاميركية السابقة بصرف النظر عن هوية الحزب الحاكم. فقد أحجمت تلك العهود عن ممارسة الضغط الفعلي على اسرائيل لإرغامها على تنفيذ القرارات الاممية وتحقيق الانسحاب من الاراضي المحتلة والقبول بقيام دولة فلسطين المستقلة. وما يؤكد هذا المنحى استمرار تغطية ورعاية مشاريع الاستيطان المتصاعدة في عموم الضفة الغربية ورفض التفاوض على الانسحاب منها، وإبقاء ما يوصف بأنه مفاوضات الحل النهائي معلقاً منذ العام 2014. الأمر الذي يتوافق مع ثوابت السياسات التوسعية الاسرائيلية خاصة في ظل سيطرة اليمين الصهيوني على الدولة والمجتمع، وهو ما يشكل مصدر اطمئنان لدولة اسرائيل التي تدرك جيداً حدود الموقف الاميركي في الضغط عليها، ومدى قدرتها على استيعابه ومتابعة تنفيذ مخططاتها.
إن القضية الفلسطينية لا مكان لها راهناً بين أولويات واهتمامات الإدارة الأميركية عالمياً. وهي التي تعمل من أجل إعادة ترتيب العلاقات الاوروبية الاميركية، ورسم استراتيجية التعاطي مع التحدي الصيني والعلاقات الروسية الاميركية. بينما يتصدر تلك الاولويات على الصعيد الاقليمي بالإضافة للأمن الاسرائيلي، الملفات العالقة مع ايران حول السلاح النووي والعمل على ضبط سياساتها ودورها وتدخلاتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها تحت السقف الأميركي، ومن خلال المفاوضات لتعديل الاتفاق النووي والاتفاق حول منظومات الصواريخ والأسلحة الباليستية والدور الاقليمي في المنطقة.
إن الوضع القائم يجدد طرح الأسئلة الجوهرية حول التحديات التي تواجه الشعب والقضية الفلسطينية في طورها الراهن. وهو المختلف نوعياً وجوهرياً عن كل ما سبقه، سواء على الصعيد الوطني أو على الصعيدين الدولي والعربي. لقد أثبتت الوقائع ومعطيات الانتفاضات المتلاحقة منذ أكثر من مائة عام، القدر الهائل الذي يمتلكه الشعب الفلسطيني من طاقات وعزيمة واستعداد للتضحية في سياق إصراره على نيل حريته، ومقاومة الاحتلال بكل الأشكال والوسائل المتاحة. إلا أن ذلك لا يمنع القول إن كلاً من قيادات الشعب الفلسطييني سواء في منظمة التحرير الفلسطينية أو في التحالف الوطني والتشكيلات الاسلامية التي تنضوي في اطاره، لا تملك إلى الآن مشروعاً سياسياً ووطنياً جامعاً لمواجهة الاندفاعة الهجومية الجذرية للمشروع الصهيوني الاستيطاني والاستعماري،واستمراره في سياسات مصادرة الاراضي الفلسطينية المحتلة سواء في القدس ومحيطها أو في أعماق الضفة الغربية وغور الاردن، مع مواصلة الحصار البري والبحري والجوي على قطاع غزة.
إن المآلات التي انتهت إليها المفاوضات واللقاءات والاتفاقات الموقعة بين القوى والفصائل الفلسطينية، فشلت لغاية الآن في إعادة توحيد مؤسسات السلطة السياسية، والعبور منها نحو تعزيز الوحدة الوطنية والعمل على تحديث المشروع والبرنامج الوطني الفلسطيني، كما عجزت عن توحيد الرؤيا وتنسيق التحركات الشعبية والصمود الميداني النضالي والسياسي والعسكري انطلاقاً من القطاع. ولا يمكن قراءة هذا الواقع بمعزل عن تراجع الدور العربي وسياسة التطبيع مع العدو الاسرائيلي، وتأثير وتدخل العوامل السلبية والتدخلات الاقليمية من عربية وغيرها في القرار الوطني الفلسطيني، وفي تعطيل تنفيذ الاتفاقات السابقة، وبالتالي لجم التوجه نحو المساهمة في إعادة تجميع الشعب الفلسطيني أوراق القوة التي يمتلكها، وإعاقة خوضه الصراع موحداً من بوابات النضال المتعددة، وفي ميادين العمل الشعبي والعسكري المقاوم على ارضه، والدبلوماسي في المحافل الدولية وعواصم القرار.
إن محاصرة المشروع الصهيوني غير ممكنة إلا بقوة ووحدة الشعب الفلسطيني ونضاله على أرضه أولاً، وفي الساحات العربية والعالمية على حد سواء ثانياً. كما وإن إجبار هذا العدو على التخلي عن أهدافه والإنكفاء عن متابعة الزحف الاستيطاني، لن يتحققا إلا في ظل معادلة تؤكد أن أكلاف مواصلة تحقيق مشروعه العنصري أكبر من كلفة تراجعه وتخليه عنه. لقد تأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن وحدانية وفئوية الصراع والمواجهة سياسياً أو عسكرياً تبقى ومهما بلغت من التضحيات قاصرة عن تحقيق اهدافها. هذا عدا إمكانية استغلالها لمواصلة سياسات التوسع والاستيطان والطرد، وتسهيل تقديم دور دولة الاحتلال في اوروبا والعالم كواحة خلاص للشعب اليهودي وسط صحراء عربية قاحلة مفككة تمتاز بالتخلف والقمع والإنغلاق والتهجير والعنف. بالإضافة إلى استغلال انعدام أية مؤشرات راهناً وفي المدى المنظور، من أن الوضع العربي برمته بصدد إعادة الاعتبار لموقع القضية الفلسطينية، ومد يد المساعدة للشعب الفلسطيني ونجدته في نضاله لاستعادة حقوقه السياسية والوطنية المهدورة.
مرة أخرى يتجدد التحدي الذي يواجه الفلسطينيين وقضيتهم الوطنية، حيث على عاتقهم وبالاعتماد على قواهم الذاتية أولاً وأساساً، يقع العبء الرئيسي لتجديد النهوض بمسؤولياتهم الوطنية حيال قضيتهم ووجودهم ومصيرهم. ما يتطلب قراءة ونقد تجربتهم من شتى الضفاف، وصولاً إلى إعادة جلاء قضيتهم وتعريفها راهناً بما هي قضية تحرر وتحرير وطني من آخر منوعات الاستعمار والأنظمة العنصرية التمييزية. وتنسيبها مجدداً للقضايا القومية والانسانية للشعوب والمجتمعات العربية الطامحة للتحرر من التخلف والتبعية. أن إصرار البعض على تقديمها بوصفها قضية دينية إسلامية أو ما شابه، يبقى أقصر الطرق نحو تكريس حصارها والتلاعب بها وتعريضها لأفدح الأخطار على مذبح التدخلات الدولية والاقليمية ومصالح انظمة وقوى الاستبداد التي تستظل رايات الدفاع عن فلسطين والدين والطوائف والمذاهب لتغطية سياساتها التوسعية على حساب القضية وجملة القضايا العربية.
إن ما نطرحه حول القضية الفلسطينية يقع في أطار توجهاتنا نحو بناء حزب يساري ديموقراطي علماني في لبنان، وهو يصدر عن موقع يعي جيداً أهمية الصمود والصراع الوجودي الذي يخوضه الشعب الفلسطيني على ارضه في سبيل تقرير مصيره واستعادة حقوقه وبناء دولته الوطنية المستقلة. كما يدرك أن نضال هذا الشعب وقواه الحية، كان ولا يزال يشكل خط الدفاع الاول عن الدواخل العربية، وأنه يستحق كل اشكال الدعم والتاييد الدائم لصموده ولقراره الوطني الفلسطيني المستقل، بعيداً عن كل أشكال الوصاية والتدخل في شؤونه الداخلية. عدا أن هذا الأمر يقع في اطار الدعوة إلى تجديد واستنهاض الحركة الوطنية والديموقراطية الفلسطينية بدءاً من المصالحة بين مكوناتها فصائلياً ومجتمعياً، والعمل باتجاه استيعاب وتأطير القوى الشبابية الحية والمناضلة من ابناء هذا الشعب، على أرضه المحتلة منذ عامي 1948 و 1967 وفي دول الشتات والمنافي، باعتبارها قوة تغيير حداثية ديموقراطية في مواجهة مشروع عنصري أعجز من أن يقدم حلاً للقضية اليهودية كما برزت في القرن الماضي، أو لقضايا التخلف والاستبداد في المنطقة العربية، فيما أنه كان ولا يزال يشكل ضمانة لتكريس الهيمنة الاستعمارية على المنطقة العربية، ولسيطرة الحركة الصهيونية الاستيطانية على فلسطين.
إن بقاء الفصائل والتنظيمات الفلسطينية على موروثها وعدم مراجعته، ووضع تصورات جديدة للمواجهة التي تخوض، يجعل بعض قواها على استعداد للتفريط باستقلاليتها ويحيلها مجرد أدوات طيعة في حسابات القوى الاقليمية، التي تقضي مصالحها استغلال هذه القضية، واعتبارها مجرد ورقة في بورصة التفاوض حول ادوارها وتقاطعات مصالحها مع الولايات المتحدة الاميركية وسواها. ومما لا شك فيه أن الشعب الفلسطيني وقياداته مسؤولون أولاً عن مصير ومسارات قضيتهم، ومن حق شعبهم عليهم ووفاءً لشهدائهم وأسراهم ومشرديهم القيام بمثل هذه المراجعة التي تعيد جلاء قضيتهم الوطنية والقومية وسط صعوبات الداخل، وجذرية المشروع الصهيوني وعنصريته، وبين ركام الواقع المحيط سواء كان عربياً في الدول المضيفة أو خارجياً في المدار العالمي، حيث تطغى لغة وصراعات المصالح على ما عداها من شرائع وحقوق ومواثيق ومبادئ تتعلق بقيم العدالة والحرية. والمؤكد أن وضعاً على هذا النحو من الاطباق لا يمكن أن يعالج بالاجراءات القمعية سواء على يد السلطة الوطنية في الضفة أو سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، بل في العودة إلى رحاب العلاقات الديموقراطية المؤسِسة للتجربة الفلسطينية خلال عقود نضالها وصراعها المديد.
الإنهيار السياسي والإقتصادي ـ الإجتماعي اللبناني
تتكثف في هذه المرحلة عوامل التأزم المتداخلة، التي يعانيها الكيان اللبناني والنظام السياسي الطائفي القائم على مختلف الصُعد، بعد أن تراكمت في غضون السنوات والعقود المنصرمة. وقد أدت إلى انفجار الأزمة راهناً على نحو صاعق. وهي أزمة مرشحة للتصاعد في المقبل من الأيام. ففي العام الجاري يواجه اللبنانيون استحقاق الانتخابات النيابية والرئاسية. ومع أن المسؤولين يؤكدون على حدوث هذه الاستحقاقات في مواعيدها المحددة، الا أن مسار الوضع العام وبلوغه هذه الدرجة من الانهيار والتأزم لا يجزم بوقوعها رغم الضغوط الدولية لإجرائها. وذلك بالنظر إلى ما آلت إليه أحوال الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، من تفكك وضعف جعلاها عاجزة عن القيام بالحد الأدنى المطلوب من مهامها. والواضح من معالم ومظاهر الأزمة السياسية أنها سائرة نحو الاحتدام، مع المحاولات الدؤوبة لتجاوز دستور الطائف، وما أرساه من قواعد على صعيد مواقع السلطة ومؤسسات الحكم والعلاقات بين قوى وأحزاب الطوائف المتناحرة. وسط سعي بعضها لتعديله من خلال فرض الأمر الواقع، وإقرار تراتبية جديدة في بُنية النظام تعبر عما تعتقده أنه أوزان مستجدة بفعل عوامل قوة داخلية ـ خارجية، أو مفترضة لكل منها. ما يشكل تاكيداً لمدى عمق الأزمة ووظائفها المتعددة على صعيدي الداخل والخارج، واقتراب إمكانية معالجتها من حد الاستحالة، ما يشرِّع الأبواب أمام احتمالات انفجارات اجتماعية وأمنية.
ولأن اتفاق الطائف الذي أرسى معالجة طائفية لأزمة النظام الطائفي، أعاد صياغة توازنات السلطة في ضوء نتائج الحرب الأهلية، من خلال تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح مجلس الوزراء مجتمعاً، فإن الواقع الراهن وأوضاع وتوازنات قوى السلطة قد تخطاه. كما أن تكرار تأجيل الاستحقاقات الدستورية واستطالة تشكيل الحكومات وتعثر انعقادها ونفاذ قراراتها، وتعطيل المؤسسات قبل العهد الحالي ومعه، كل هذا يعكس عمق أزمة النظام السياسي وعدم استقراره جرَّاء المتغيرات التي أصابت ركائزه في الداخل والحواضن الإقليمية والدولية التي قام عليها دستور الطائف. ما يعني أن المحاولات المتتالية لتطبيقه، تحت راية الميثاقية و”العدالة الطائفية” لم يكتب لأي منها الاستمرارية والثبات، جرّاء الامعان في تصعيد مستويات المحاصصة على نحو متواصل بشكل سافر.
إن نهاية حقبة الوصاية السورية في العام 2005 لم تؤدِ إلى تحرر لبنان واستعادته زمام قراره المستقل، أو انتظام مؤسسات الدولة والحكم فيه. فقد بقي لبنان أسير حالة الصراع الداخلي الظاهر والمستتر منه برعاية إقليمية ودولية، حول هويته الوطنية وموقعه وعلاقاته الخارجية خاصة مع محيطه العربي وقضاياه وأزماته المتفجرة. وهو الصراع الذي أنتهى راهناً إلى غلبة الدور والنفوذ الإيراني على قرراته، بالاستناد إلى قوة وهيمنة الطرف المحلي الذي يشكل امتداداً لاستراتيجيته الإقليمية. ومن نتائج هذه الغلبة ومظاهرها التحكم بتنفيذ الاستحقاقات الدستورية وفرض مرشح أوحد لها، وصعوبة تأليف الحكومات ورهنها بموافقاته وتحقيق طموحاته في الإمساك بقرارها، بالإضافة إلى فصل لبنان عن عمقه السياسي والاقتصادي وهويته العربية، وإلحاقه بما يسمى محور الممانعة. ولإن تشكيل الحكومة الحالية وبعد طول تأخير، أتى في سياق تسوية بين النظام الإيراني والإدارة الفرنسية الباحثة عن دور ومصالح بلادها في المنطقة، فإن التعطيل كان بانتظارها عند كل منعطف تواجهه، ما يحول دون إنتظام عملها أو القيام بدورها في معالجة الملفات العالقة. بما فيها إعداد خطة التعافي الاقتصادي والمالي والتفاوض مع صندوق النقد الدولي، أو التصدي للخلل السياسي العميق المفتوح على انفجارات كبرى، وباعتبار ذلك من اختصاص العهد وقوة الأمر الواقع المهيمنة دون سواهما. مما يعني أن المرحلة المقبلة لن تختلف عما خبره اللبنانيون لجهة الإيغال في مصادرة القرار الوطني وإلحاقه بالمحور المذكور وشلِّ دورها، رغم ما يشكله ذلك من أخطار عليه من مختلف الجوانب، أقل ما يقال عنها أنها تقود البلد بالسلاسل نحو طرح مصيره ككيان على طاولة المساومات الاقليمية ـ الدولية.
إن المقاربات التي اعتمدت لتطبيق دستور الطائف بعد خروج الوصاية السورية لممارسة الحكم وإدارة البلاد وفق قواعد المحاصصة الطائفية والفئوية وبذرائع الصلاحيات وحقوق الطوائف، وتحت راية “الميثاقية”، وعبر إدِّعاء الحرص على “الوحدة الوطنية” بإسم “الديمقراطية التوافقية”، استندت بمجملها إلى اختلال التوازنات بين مكونات منظومة السلطة. وقد شكل ذلك غطاءً لفرض سياسات الطرف الأقوى بقوة الأمر الواقع، مقابل رضوخ وتسليم سائر الاطراف الاخرى بما يقرره. وصولاً إلى التحكم بقرار البلاد السياسي والسيادي، والدفع بأوضاعها إلى ما هي عليه راهناً من مخاطر تهدد وجود الكيان والدولة والسلم الأهلي وحياة اللبنانيين.
إن الإطاحة عملياً بمبدأ انتظام عمل مؤسسات الحكم، قاد إلى الحؤول مراراً دون تجديد شرعيتها في مواعيدها الدستورية والطبيعية، بالإضافة إلى شل وتعطيل مؤسسات الدولة واجهزتها كافة، وتصنيف الوزارات بين سيادية وخدماتية وهامشية، وتطويبها ضمن محفظة “حقوق” الملكيات الطائفية والحزبية. إن فرض ذلك بقوة الأمر الواقع، وخضوع الآخرين له، هدفه تأكيد محورية هذا الطرف أو ذاك، وتوظيف قوة تأثيره ووزنه وشبكة مصالحه الداخلية مع جمهوره، وفي علاقته مع الخارج مصدر الدعم والرعاية له. ومع تحوُّل وتكريس الدور الخدماتي العام للدولة لصالح الفئوي والمذهبي الخالص، ما بات متعذراً معه القيام بأي عملية اصلاح تأكل من رصيد هذه القوى لحساب ما هو مشترك، وينتسب إلى حقل الصالح الوطني العام.
وما يتوجب تسجيله في هذا المقام، أن لبنان لم يعد ومنذ زمن يدار عبر مؤسساته الدستورية، بل من خارجها، وبواسطة حفنة من القيادات التي تهيمن على قراره استناداً إلى عناصر القوة والنفوذ التي يتمتع بها كل منهم في طائفته، بما يمكنهم من استباحة وتقاسم وتمثيل مؤسسات الدولة وإداراتها العامة وأجهزتها، وفق التراتبية التي يتربع على قمتها راهناً ويتحكم بها الطرف الأقوى، مستنداً إلى فائض قوته وقدرته على تنفيذ سياساته عبر استغلال تحالفه مع العهد، الذي ساهم في إيصاله إلى سُدة الرئاسة قسراً بقوة التعطيل، في إطار تبادل الخدمات تبعاً لسياسات وأهداف ومصالح كل منهما.
ومن تجليات أزمة النظام، أن صيغة الممارسة الفئوية للسلطة خارج الأطر والقوانين والأنظمة، تشكل نموذجاً مثالياً للفساد وسياسات النهب لموارد الدولة والاستهانة بدورها، والإطاحة بحقوق المواطنين ومصالحهم الوطنية. والفساد الذي يشهده لبنان هو في الأساس فساد سياسي يشكَّل الغطاء الرئيسي والأهم لكل منوعات المحصاصة الطائفية وتجاوز القوانين والقفز فوق آليات العمل الناظمة والمعروفة، بما فيها تعطيل أجهزة الرقابة والتفتيش لصالح تقاسم الهيمنة الأهلية الفئوية. وعن الفساد السياسي يتفرع الفساد الإداري والمالي والقضائي والاقتصادي والأمني وغيره. وضمن هذه البنية والآلية المركبة للحكم تحتشد ملفات الإرتكابات والفضائح الموصوفة والجرائم المغفلة المسؤولية، بما فيها مسلسل جرائم النهب والتهرب والتهريب وصولاً إلى الاغتيال السياسي. التي تضاف إلى ملفات الحرب الأهلية التي لم تزل مفتوحة، وأبرزها دون منازع قضية مصير ألوف المخطوفين والمفقودين في لبنان وسوريا. وهي التي تتطلب المعالجة باعتبارها مدخلاً لطي تلك الصفحة المؤلمة للبنانيين، وكل الذين طالهم الإخفاء القسري من المواطنين والمقيمين. لأن الكشف عن مصير هؤلاء، يشكل الباب الرئيسي للدخول في المصارحة والمسامحة وتجاوز المآسي الماثلة لدى اللبنانيين عموماً وذويهم خصوصاً. وفي هذا الإطار أيضاً تقع جريمة تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020، وما يواجهه التحقيق والمحقق العدلي راهناً من محاولات التفاف قانوني وترهيب سافرة، وصولاً إلى التهديد بـ “قبعه” وحتى بتفجير الحرب الأهلية، لعرقلة التحقيق وتعطيله، من خلال التلطي خلف الحصانات الطائفية والدستورية والتنصل من المسؤولية، بهدف تحويلها إلى مجرد حادث عرضي أو تقصير إداري! .
إن القاسم المشترك بين الأحزاب والتيارات الطائفية المكوِّنة للسلطة والمجلس النيابي والحكومة، أنها ردائف طائفية متشابهة بالنظر لطبيعة بُنيتها وأدائها المليشياوي، وخطابها وأهدافها الفئوية وأدوارها في معارك المحاصصة، في مسلسل الصراع المفتوح على السلطة ومواقع النفوذ بذريعة حقوق الطوائف “المقدسة”. إن الإصرار على متابعة السياسات والممارسات المعتمدة من قبل تلك القوى ساهمت ولا تزال في تجديد انقسام اللبنانيين حول الهوية وصيغة النظام وتوازناته، وحول موقع الكيان وعلاقته بمحيطه. وما استحضار طروحات الحياد والفيدرالية راهناً، في موازاة هيمنة الأمر الواقع الفئوي المركَّب على أوضاع البلد، وسط تبادل تهم الخيانة والعمالة للخارج، إلا تعبير عن استمرار وتصاعد حدة الانقسام الأهلي الموروث، الذي ما يزال يحكم علاقات الجماعات اللبنانية ببعضها البعض، مع غياب “الضابط الاقليمي” الذي مثله النظام السوري لسنوات ولحسابه في المقام الأول. وتأكيد على حرص الجميع على تقاذف المسؤولية عن الانهيار، والتنصل منه عبر إدعاء البراءة، واجترار شعارات الاصلاح ومكافحة الفساد ضمن هاجس الدفاع عن حقوق الطوائف بدعوى حصرية تمثيلها السياسي وحقوقها.
و من الواضح أنه خلال السنوات والعقود السابقة، ونتيجة زحف الأهلي الطائفي على المدني، والولاء للخارج على حساب الوطني العام، جرى تجريد الدولة من عناصر هيبتها وقوتها كناظم للحياة المشتركة للبنانيين. ما جعلها الحلقة الأضعف في علاقتها مع دويلات الأمر الواقع الحزبية الطائفية القائمة والافتراضية، التي استباحت مؤسساتها وأجهزتها الإدارية وقطاعاتها الخدماتية والعامة، وعملت على تفكيكها وإلحاقها من خلال المحسوبيات والاستزلام، وتحويلها أدوات في خدمة مواقع نفوذها، ومطية للمافيات التابعة لها دون سواها. علماً أن القطاع الخاص بدوره لم ينج من الأداء الميليشياوي الذي وضعه أمام جملة مصاعب مستعصية في ميادين عمله كافة، سواء كانت خدماتية أو انتاجية. وعليه فإن عمليات المصادرة لمقدرات الدولة واستخدامها وتوظيفها لمصالح فئوية في الداخل والخارج معاً، لم تؤد إلى تدمير القطاع العام وقدرته على القيام بدوره وحسب، بل قادت قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات والسياحة إلى السقوط في حالة حصار سياسي واقتصادي مستحكم، رافقه عجز عن تأمين مقومات تشغيل ما تبقى منها، بعد أن خضعت عملية انتاج واستيراد وتوزيع الطاقة الكهربائية والوقود والسلع الاساسية لأحكام السوق السوداء الموازية، التي تديرها قوى سياسية مالية من خلال شبكة معقدة من المصالح الفئوية في الداخل اللبناني، إضافة لقوافل التهريب عبر شتى المرافق والمعابر من وإلى الخارج، ما قاد لى محاصرتها وخنقها. هذا عدا المخاطر التي تحاصر سائر القطاعات الاستشفائية والتعليمية والسياحية والفندقية وتهددها بالتوقف الكلي، والعجز حتى عن أداء دورها الداخلي بعدما تراجع دورها الاقليمي تماماً.
إن وعود الاصلاح التي ألف اللبنانيون سماعها طوال عقود، سواء عبر التعهدات الرئاسية أو في البيانات الوزارية وفي مواسم الانتخابات، وبصرف النظر عما يساق من تبريرات وتبادل اتهامات بين ممثلي قوى الطوائف عن أسباب تعذرها، فإن الإلتزام بتنفيذها لا مكان له في جداول أعمال سائر اطراف السلطة والقوى المشاركة فيها، لأنه يتناقض مع مصالحها، نظراً لطبيعة البُنية الطائفية والفئوية التي تحول دون القيام بالحد الأدنى منها، بقدر ما تشكل عائقاً وقيداً غليظاً في مواجهتها. ويدخل في هذا المجال موضوع مشاركة المغتربين في الانتخابات النيابية المقبلة. وهم أبناء الوطن الذي دُفعوا إلى الهجرة من وطنهم قسراً خلال عقود طويلة وخصوصاً في محطات التأزم، بحثاً عن عيش أو مستقبل مفقود فيه، سواء بحكم طبيعة النظام وسياسات قواه، أو جرَّاء عدم الاستقرار السياسي والأمني. فالثابت حتى اللحظة استمرار محاولات التنصل مما سبق وأقر حول حقهم بالمشاركة العامة في الانتخابات، وسط إصرار البعض على الاكتفاء بتمثيلهم بستة نواب يجري انتخابهم وفق قاعدة تمثيل طوائفي ـ قاري. وهو ما كان مثار رفض من المغتربين اللبنانيين أنفسهم الذين يُعلون انتماءهم الوطني على انتسابهم الطائفي والقاري من جهة، ويؤكدون على حقهم بالمشاركة في الترشح والتصويت للمقاعد الـ 128 النيابية من جهة ثانية. ومع استمرار المحاولات الحثيثة من القوى الطائفية لإدخال المغتربين في الحسابات الحزبية الفئوية، فإنها لا تتواني عن مناشدتهم دوماً لارسال الأموال بالرغم مما حل بوادئعهم من عمليات نهب وهي التي تشكل جنى أعمارهم في الغربة.
إن ما لم ينفذ من وعود واصلاحات ليست قابلة، بل ومستحيلة التحقق الآن على أيدي هذه السلطة، التي يتقاسم جميع اطرافها المسؤولية عن تعميم الفساد بكل منوعاته، بصرف النظر عن تفاوت الأقساط تبعاً لتنوع الميادين، وتفاوت الأحجام واختلاف الادوار وعوامل القوة والضعف. علماً أن الفساد قد بلغ مع العهد الحالي ذرىً غير مسبوقة عالمياً. وهو ما تؤكده التقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية ومراكز الابحاث التي تتناول حجم وعوامل ومعدلات الفساد والانهيار العام الذي حل بالبلد، وخطورة ما يواجهه على كل الصُعد. بالنظر لما رافق ذلك من انهيار شبه كامل للنقد الوطني ومن ارتفاع قياسي على الصعيد العالمي لمعدلات تمركز الثروة والفقر والبطالة والمرض والهجرة على نحو كارثي.. وهي المشكلات التي يستحيل أن تجد حلولاً لها أو حتى معالجات مؤقتة، في ظل مصادرة القرار الوطني واستمرار المحاصصات الطائفية وسياساتها والأداء الميليشياوي الفئوي. ما أدى إلى تفاقم حالة الفوضى الأهلية والأمنية وسرّع إمكانية انفجار ملفات الأزمة الراهنة.
وفي موازاة إصرار الطرف المتحكم حصرياً بسياسات البلد العامة وبقرار الحرب والسلم، بذريعة حمايته، مسلحاً بفائض قوته المحلية والإقليمية، ومحصّناً بتغطية من العهد وتياره السياسي، وحرصه الدائم على إلحاق سائر الاطراف الأخرى بسياساته أو إخضاعها بقوة الأمر الواقع. فقد اندفعت تلك القوى لخوض معاركها دفاعاً عن مواقع نفوذها ومصالحها وحماية وجودها، باعتبارها جميعاً ردائف تستمد حيثياتها من وجود الآخر، وما يمثل من مصالح فئوية محليه أو خارجية. الأمر الذي أدى إلى تفاقم حالة الفوضى الأهلية والأمنية وسرّع إمكانية انفجار ملفات الأزمة الراهنة. وعليه اصبح التفريط بالمصالح الوطنية العامة للبلد أمراً ملموساً وقائماً، وتعريضه لشتى الأخطار أمراً غير مستغرب، في ظل استسهال الارتهان للخارج وربط مصير البلد بأزمات المنطقة. وبالقدر نفسه أصبح مفهوماً تراجع دور ووزن الأطراف المحلية، التي راهنت ولا تزال على السياسات الاميركية وملحقاتها الاقليمية والعربية نتيجة اختلال التوازنات، وتبدل توجهات السياسات الأميركية ضمن ثوابت استراتيجيتها القائمة على أولويات الأمن والدور الاسرائيلي وإدارة سائر الأزمات تحت سقف مصالحها، والاستعداد للتضحية بالانظمة والقوى العاجزة عن حماية وجودها، وانعدام الحاجة لها. في مقابل الانفتاح على القوى المهيمنة على أرض الواقع بصرف النظر عن طبيعتها، وما تدعيه من أهداف معاكسة، أو تستظله من رايات وشعارات مخادعة. ولأن تلك هي السياسات الاميركية السائدة في المنطقة برمتها، فالأمر لا يختلف عنه في لبنان. وقد تأكد ذلك مراراً، من خلال التسويات المؤقتة لمعالجة أزمات البلد طوال الاعوام الماضية وصولاً إلى الحكومة الحالية.
ولأنه من الصعب، بل المستحيل العثور على تعريف جامع لدى أي من قوى السلطة للهوية والمصالح الوطنية اللبنانية، لأن الإشكاليات التي رافقت تأسيس الكيان قبل مائة عام لا تزال حاضرة. كما وأن صيغة تقاسم الحكم والسلطة وعدم المساواة بين اللبنانيين، التي رافقت ولادته لا يزال جوهرها قائما ومستمراً وإن بمسميات أخرى، لذلك استمر البلد أسير مسلسل صراعات أهلية تتجدد مع تبدل معطيات توازنات الداخل وعناصر الاستقواء في الخارج.
ـ فشل العهد وتياره ومأزق خصومه
وإذا كانت المارونية السياسية التي هيمنت طويلاً، بقواها وتشكيلاتها المتعاقبة، قد تراجع موقعها في الحكم والسلطة وفق اتفاق الطائف، لأنها غلّبت الفئوي على سياساتها، ولم تعمل على ارساء مقومات دولة المؤسسات الحديثة، وفرَّطت بالسيادة تحت ذرائع متنوعة، وانغلقت على مشاريع الاصلاح بقوة الانقسام الأهلي. فإن الطرف الحاكم راهناً لم يزل مقيماً عند خطوط التماس المتعلقة بالصيغة الطائفية، وسط وهم استعادة ما كان من الهيمنة والصلاحيات المفقودة لرئاسة الجمهورية والأرجحية المقررة. وذلك من خلال التلاعب بالدستور ورفع راية استعادة الصلاحيات الرئاسية، للاستئثار بالسلطة واستعمال حقوق المسيحيين مطية لاستفراد تيار العهد بالحكم وبسائر مواقع القرار مع ما يرافقها من مكاسب في النفوذ والمغانم، من خلال اعتماد سياسة التعطيل والتفرد نهجاً لممارسة الحكم والتحكم بموسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والادارية والقضائية، وسط اصرار على ادِّعاء البراءة من تبعات الانهيار العام في البلاد، وإحالة المسؤولية على خصومة وشركائه في السلطة، وتحميل حاكم المصرف المركزي مسؤولية الانهيار النقدي والمالي والاقتصادي العام.
ورغم تراجع رصيد العهد وتياره ونفوذهما، سواء ضمن بيئته الطائفية أو على الصعيد الوطني العام، جرّاء سياسة الاستئثار بالصلاحيات والنفوذ، إلا أن وجوده ودوره اصبح مرهوناً ببقائه في السلطة. ولذلك تبرز حاجتهما المستمرة للعلاقة مع حزب الله، التي شكلت ولا تزال مصدر الدعم شبه الوحيد، في إطار تبادل الخدمات المؤقت في ما بينهما وسط تعارضات وتناقضات المشاريع الفئوية لسائر القوى المشاركة في السلطة، التي يعززها اختلال التوازنات الخارجية ذات الصلة سواء كانت عربية وإقليمية أو دولية.
وبينما تخوض القوات اللبنانية معركتها ضد العهد في محاولة منها لوراثته، متلطية في ذلك تارة خلف الانتفاضة، وطوراً بعباءة البطريرك الماروني وطروحاته الملتبسة حول الحياد. فإنها تبدو في سياساتها اليومية والعامة مشدودة إلى وهم تجديد دور المخلِّص الذي يقود المواجهة دفاعاً عن الوجود المسيحي في لبنان، مستظلاً راية خوض الانتخابات النيابية المقبلة بأمل الفوز بالحصة الأكبر من التمثيل السياسي المسيحي، للترشح لرئاسة الجمهورية، وسط تجاهل تام لحجم الاستعصاءات الداخلية والخارجية التي تحول دون ذلك، والتي يستحيل عليها القفز فوقها.
وإذ يسعى حزب الكتائب إلى استعادة وهجه السياسي عبر الاختلاف مع شركائه من المسيحية السياسية، والبناء على مناخات الاعتراض على المنظومة والحكومات الحاكمة، والانتقال إلى موقع المواجهة معها من خارج السلطة، ومحاولة الانتساب إلى صفوف المعارضة، في أعقاب الاستقالة من الحكومة التي سبقت التسوية الرئاسية، ولاحقاً من المجلس النيابي الحالي. إلا أن اشكاليات الحزب الموروثة من الحقبات السابقة سواء خلال الحرب الأهلية أو بحكم بنيته الطائفية وكونه كان طرفاً في منظومة السلطة، لا تزال تشكل قيداً غليظاً يأسره ويحول دون تحرره الكامل من أعباء الموقع الطائفي، خاصة في ظل عدم تشكل الاطار الديمقراطي الواسع الذي بامكانه استيعاب منوعات متعددة من الاعتراضات والانشقاقات عن قوى النظام، ومحاولة بناء ميزان قوى تعددي متنامي الوزن والتمثيل في مواجهتها. في حين تشهد الساحة المسيحية ولادة تيارات وتشكيلات اعتراضية نخبوية متنوعة، سواء من مواقع اقتصادية بورجوازية، أو ذات توجهات ليبرالية وديمقراطية مستقلة كتعبير عن أزمة التمثيل السياسي على نحو عام.
الثنائي الشيعي: مأزق القوى وأزمة الموقع
ـ حركة أمـــــل
وفيما تبدو قوى الشيعية السياسية وكأنها كرّست هيمنتها على السلطة والسيطرة على البلد عبر التحكم بأوضاعه وإدارته. إلا أن موقع الرئاسة الأولى وخاصة خلال العهد الحالي الساعي للانفراد بالحكم بذريعة ممارسة صلاحياته، وضعه على نحو دائم في حالة نزاع مع موقع الرئاسة الثانية. وعليه بدا موقع رئاسة المجلس النيابي وتيارها السياسي المتمثل بحركة أمل في حال من انعدام الوزن والعجز عن المواجهة مع رئيس الجمهورية، المتحصّن بتحالفه مع الطرف الأقوى من الثنائي الشيعي. ورغم تعارض المشاريع الفئوية للطرفين إلى حد التناقض، سواء من حيث النظر إلى الكيان والنظام وموقعه العربي والاقليمي، فإن حركة أمل لا تقل سعياً للإستئثار والتفرّد في مؤسسات السلطة والحكم، بالاستناد إلى الصيغة الطائفية ذاتها، وإن تبدلت معادلاتها مراراً منذ الطائف. ولذلك فإن قيادتها تجهد راهناً لاعادة ترتيب أوضاع الحركة، بهدف تثبيت موقع الشراكة كي لا تصبح ملحقاً في العلاقة مع حزب الله، الذي يتابع تنفيذ مشروعه السياسي وبناء “دولته” متجاوزاً دور الدولة الرئيسي.
ـ حزب الله: أدوار تتجاوز الداخل
إن أي مقاربة لدور حزب الله المحلي والاقليمي، تبدأ أولاً من مساهمته في استكمال تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الاسرائيلي، لكنها لا تتوقف عنده. وهو دور يسجل له بوضوح، وقد دفع سيلاً من الدماء والتضحيات لإنجازه وتحقيقه. ومع أن التحرير الذي تحقق عبر إجبار جيش الاحتلال على الإنسحاب من لبنان دون قيد أو شرط، على نحو لم يحدث شبيه له طوال عقود الصراع العربي ـ الاسرائيلي، الا أن ما يجب تسجيله، أن عملية التحرير كانت تتويجاً لفعل تراكمي أطلقته تنظيمات اليسار اللبناني، وتحديداً الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي. وساهمت فيه قوى متنوعة عديدة، سواء من خلال اطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، أو عبر ممارسة النضال المسلح ضد قوات الاحتلال الصهيوني. وهي القوى التي نجحت في إثبات جدوى خيار المقاومة للاحتلال الاسرائيلي لأنها جعلت أكلاف استمراره، أكبر بكثير من كلفة انسحاباته المتلاحقة التي تتالت تباعاً، بدءاً من العاصمة والجبل وصيدا ومعظم الجنوب والبقاع الغربي وراشيا، قبل الانكفاء، أولاً إلى الشريط الحدودي وجزين، والانسحاب منهما لاحقاً إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. ورغم أن هذا برمته قد بات طي التاريخ تتويجاً بحدث التحرير في العام 2000، الا أن النقاش استمر ولا يزال متواصلاً لتقويم دور الحزب، بالمقارنة مع الشعارات التي رفعها المقاومون الأوائل بما هي التحرير والتوحيد والديموقراطية، واستعادة مؤسسات الدولة للعمل والانتظام في إطار دورها التوحيدي، والابقاء على عجلة إدارة البلاد في الدوران والانتاج. لأن ما هو راهن على صعيد نتائج التحرير عديم الصلة بالمقدمات والأهداف. فالإنجاز المتحقق قد انتهى أسير المكوّن الطائفي والفئوي الشيعي دون سواه، كما وأن المناطق المحررة وتحديداً الشريط الحدودي لا تزال ساحة مرتهنة للسلاح بذريعة تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وتحت راية قواعد الاشتباك لحماية لبنان، وكأنها مهمة خاصة بالحزب دون سائر اللبنانيين، وخارج إطار الدولة ومؤسساتها، منذ التحرير ولغاية الآن.
إن بقاء خطر العدوان الاسرائيلي شبحاً مقيماً على نحو دائم يهدد بتدمير ما تبقى من مقومات البلد ومرافقه، لا يبرر إطلاقاً استمرار سلاح حزب الله الذي تحوَّل عامل تزخيم لاضعاف مؤسسات الدولة وتفكيكها وللانقسام الأهلي، بذريعة حماية المقاومة، التي ترفع بدورها شعار حماية لبنان سواء في مواجهة اسرائيل أو الارهاب، مستندات لتبرير فائض القوة التي مكنت الحزب من ممارسة هيمنته الطائفية والفئوية، والتحكم بأوضاع البلد. وعليه، اصبح هذا السلاح أداة وقوة تعطيل للمؤسسات والاستحقاقات، بالإضافة إلى كونه وسيلة لتحقيق أهداف الحزب وفرض سياساته وتبرير أدواره في الداخل والخارج على السواء. بدءاً من المشاركة في الحرب الأهلية في سوريا دفاعاً عن النظام الاستبدادي، وصولاً إلى التدخل في العراق واليمن وسواهما. الأمر الذي أدى إلى إلحاق أفدح الأضرار بالموقع الوطني والقومي اللبناني وبالاقتصاد الوطني ودورته في سائر قطاعاته، كما أساء ولا يزال إلى علاقات لبنان الخارجية وخاصة العربية منها.
ومما لا شك فيه أن دور وأداء حزب الله في الداخل، يأتي في سياق مشروعه السياسي للدولة، الذي يقع في امتداد التوجهات الاستراتيجية للنظام الايراني على صعيد المنطقة. ما يدفعه إلى تجاهل جملة مصالح وعلاقات اللبنانيين ضمن محيطهم العربي الطبيعي. ولذا يُصرّ الحزب على استرهان لبنان لمحور الممانعة، وجعله مركز انطلاق للتدخل في أوضاع وأزمات العديد من البلدان العربية على رافعة إشكالية طائفية مذهبية، تتناقض مع وحدة كياناتها ودولها ومجتمعاتها. وقد نجم عن سياساته هذه انعكاسات ومضاعفات بالغة السلبية على مختلف المستويات، وقادت لبنان إلى السقوط في هوَّة عزلة عن مجمل الدول والمجتمعات العربية. عدا أنها بددت الاحتضان السياسي والمعنوي الذي حازه الحزب عربياً ودولياً سابقاً أثناء مقاومته للاحتلال الصهيوني.
إن إشكالية سلاح حزب الله، لا يمكن عزلها عن استمرار الخطر الصهيوني الوجودي على لبنان. وهو خطر يتعدى قضية مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ذات الإشكالية الحدودية مع النظام السوري، ومسألة ترسيم الحدود بشقيها البري والبحري. لأن جذرية عنصرية وقومية المجتمع الصهيوني للدولة اليهودية، والطبيعة التوسعية لهذا الكيان ومدى خطورته، لا تقتصر على فلسطين وشعبها وحدودها التاريخية المعروفة. بل تتعداها إلى الدور الاقليمي الذي يجد تغطيته ومبرراته في الحروب الأهلية التي تستهدف تكريس تخلف وتفكك المجتمعات العربية، ومن خلال بقاء دولها غارقة في نزاعاتها الدموية بفعل أزماتها ومعضلاتها البنيوية. والمؤكد أن لبنان يحظى بتنوعه الاجتماعي والثقافي وبنقاط قوته وضعفه المتعددة بموقع أولي في الاستهدافات الصهيونية. مما يتجاوز الإدعاءات الاسرائيلية بامتلاك الحزب لأسلحة نوعية من شأنها الوصول إلى عمق الكيان الصهيوني والتهديد بتدمير مؤسساته ومرافقه.
إن إنقسام اللبنانيين بين مؤيد ورافض لسلاح حزب الله، يقع في امتداد الإنقسام اللبناني ـ اللبناني الموروث حول الهوية الوطنية، وموقع ودور وعلاقات لبنان في المنطقة وقضاياها. ولذلك فقد ساهم التوظيف الداخلي والاقليمي له خارج إرادتهم وشبكات مصالحهم، في تعزيز هذا الانقسام الذي لا يمكن القبول أو التسليم بوجهته. لأن المؤيدين لبقائه يُضمرون فعلاً استعماله لتغليب الموقع والموقف الفئوي لاصحابه وحلفائهم، ولإخضاع اللبنانيين لأداء سياسي يتناقض مع رؤاهم ومصالحهم. بينما ينقسم الرافضون لهذا السلاح بين من يدعو إلى تسليمه والتخلي عنه للدولة الضعيفة، باعتباره عامل هيمنة وتسلط عليها، ومصدر ضرر لمصالحهم الفئوية التي يسعون لتكريسها. أما دُعاة نزع السلاح فإنهم أسرى وهم استسهال تحقيق ذلك بالقوة، الأمر الذي يبرر لأصحابه التمسك به وتعزيزه، وبما يؤدي إلى تعميم انتشار فكرة وثقافة السلاح والتسلح على سائر القوى والفئات. عدا أن هذا الشعار يشكل دعوة صريحة لتجديد الحرب الأهلية، وإبقاء البلد مشرعاً على كل اشكال التدخل الخارجي، مع ما ينتجه ذلك من مشاريع وصايات لا صلة لها مطلقاً بمصالح اللبنانيين وطموحاتهم.
إن المدخل الطبيعي والوحيد لمعالجة معضلة سلاح الحزب باعتباره سلاحاً أهلياً يكمن في أولوية إعادة الاعتبار لمشروع بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، التي لها وحدها حق احتكار حمل السلاح، وحق اتخاذ قرارات السلم والحرب عبر مؤسساتها السياسية الناظمة. لأنه على عاتقها وحدها تقع مسؤولية حماية المواطنين ولبنان الوطن من الأخطار والاطماع الصهيونية في أرضه ومياهه وسمائه. أو ما يشابهها من اي جهة أخرى. ثم إنه من حق وواجب الدولة توظيف علاقاتها الخارجية والإفادة من منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها وأجهزتها ومن القرارات الدولية وقوات اليونيفيل لتأمين مظلة شرعية أممية تحقق الأمن للجنوب وأهله وللبنان بأسره. وفي هذا السياق تكمن أهمية بحث وإقرار الاستراتيجية الدفاعية الوطنية، بديلاً عن إدعاء احتكار حق الدفاع عن لبنان وحماية حدوده وموارده الطبيعية من قبل حزب الله، بمعزل عن إرادة أكثرية اللبنانيين. الأمر الذي يفتح النقاش حول الصيغة السياسية الواجب اعتمادها والتي تكفل سوية الحياة السياسية الوطنية ودور مؤسسات الدولة وأجهزتها كافة، بعيداً عن سياسة التلزيم الفئوية والمعادلات التقسيمية، التي لا تبني ولا تحمي وطناً ومواطناً، واستخدامها لتبرير الوضع القائم بضعف الدولة الذي تتشارك المسؤولية عن واقعه جميع قوى السلطة دون استثناء، وسط رفض التخلي عن لغة التخوين، وعن منطق الغلبة والاستقواء بإسم حقوق الطوائف بعوامل داخلية أو إقليمية لصالح هذا الطرف الطائفي أو ذاك.
وفي هذا السياق تقع المسؤولية على اللبنانيين الذين يتوجب عليهم البحث في أجواء من المصارحة التي تنطلق من أولوية المصالح والسياسات الوطنية، والاستفادة من التجارب السابقة. والتي تؤكد كم أن الرهانات الخاطئة والمدمرة على الخارج دولاً وأنظمة، وربط لبنان بمجريات الصراعات الإقليمية أو المفاوضات الاميركية والاوروبية ـ الايرانية أو على نتائجها، من شأنها وضع لبنان في فوهة توترات لا قِبل له للتحكم بمداها الزمني ومضاعفاتها الكارثية على مصير الكيان وبقاء الدولة أو ما تبقى من وحدة المجتمع. إن استمرار الوضع على هذا النحو سيؤدي إلى إدامة الغرق في مستنقع الأزمات من البوابات السياسية والاقتصادية والأمنية على حد سواء. عدا أنه يضع اللبنانيين راهناً بين خيارين أحلاهما مرٌّ. يتمثل الأول في عودة الاقتتال والاحتراب على رافعة الفوضى الأهلية والأمنية السائدة. والثاني الدفع باللبنانيين نحو الهجرة متى تأمنت لهم الطرق. وفي الحالين فإن الأكثر مأساوية يتمثل بتعميم الفقر والعوز على أكثر من 80% من اللبنانيين، في حين يتطلب الخروج من المأزق ما يفوق عقد من السنين في حال تأمن القرار السياسي ووحدة الرؤية، وهما متعذران الآن بإرادة القوى السياسية الطائفية.
من المؤكد أن حزب الله لا يتحمّل وحده مسؤولية الوقوف أمام الهاوية التي تنساق إليها البلاد، ولا عن المحصلة الراهنة لأوضاعها. لكنه في مقدمة القوى الأهلية المسؤولة عن الغرق الفئوي في مشكلات الاقليم من جهة، ومن جهة ثانية بالنظر إلى قدراته في التأثير على القرار السياسي، إضافة إلى مشاركته وحراسته لمنظومة فساد الحكم بأدائها الراهن، في ظل النظام الذي يجد فيه مبررات وجوده ودوره واستعداده حتى لاستعمال السلاح دفاعاً عنهما. ما يجعل من المتعذر اعتماد سياسات تنهض على دور المؤسسات الشرعية، وتنفيذ اجراءات وقرارات تستعيد حقوق الدولة في أموالها وعوائدها ومواردها وضبط حدودها ومواجهة كل ما يخرج عن إطارها.. إن الإستقواء بفائض القوة لفرض سياسات الأمر الواقع الطائفي ـ الفئوي على حساب الدولة اللبنانية ومؤسساتها لتكريس بديل عنها مهما كانت الذرائع، لن يحقق أكثر من دفع فرقاء آخرين إلى استنساخ المزيد من مشاريع دويلات الأمر الواقع هذه، والعودة إلى ما قبل قيام الكيان اللبناني في العام 1920 مروراً بمحطة الاستقلال وما تلاها، ناهيك بتجارب كانتونات الحرب الأهلية وانقساماتها وما قادت إليه من تعميم الخراب على المواطنين في المناطق اللبنانية كافة، وعلى رأسهم الجمهور الذي يدَّعي قادته النطق باسمه والتعبير عن مواقفه، نتيجة الانهيار السياسي والاقتصادي المطبق على البلاد، وبما يتجاوز مناطق الهيمنة الفئوية.
ـ أزمة السُنية السياسية ومأزق تيارها الرئيسي
أما السُنية السياسية فإن موقعها في الحكم والمتمثل برئاسة الحكومة، قد حُوصر بعد اتفاق الطائف بقوة اختلال العلاقات الطوائفية الداخلية، وامتداداتها الخارجية الاقليمية السورية أولاً والايرانية تالياً والدولية استطراداً. سواء حدث ذلك خلال فترة الوصاية السورية أو ما تلاها. ولذلك كان الموقع عرضة لضربات متتالية أبرزها تمثل في اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري والعديد من رموز تياره السياسي، الذي حاول تحصين موقع رئاسة الحكومة عبر الاستئثار بتمثيل الطائفة لتعزيز وجوده ودوره في السلطة. غير أن هذا الموقع وفي ظل اختلال موازين القوى أستمر محاصراً سواء من خلال ما سُمّي بالميثاقية الطائفية أو الثلث المعطل، نتيجة إصرار شركائه في السلطة على صيغة حكومات “الوحدة الوطنية”. ما وضع موقعي الحكومة ورئيسها، دورأ وصلاحيات تحت وصاية التحالف الأقوى في الحكم والمتحكم بتوازناته. وبذلك اصبح رئيس الحكومة وتحديداً وريث الحريرية عاجزاً عن البقاء في السلطة خلافاً للشروط المفروضه عليه. وإذ أمّنت التسوية التي اتت بالعهد الحالي للرئاسة عودة وريثه رئيس تيار المستقبل الى رئاسة الحكومة بعد إخراجه القسري منها، فإن ما قَبِله وسواه من تنازلات في سبيل تبوّء الموقع أو البقاء فيه، قد أضعف دوره وجعله عاجزاً عن الوفاء بتعهداته للخارج، وأفقده ما ورثه من دعم خارجي وعلاقات إقليمية ودولية. مما إبقاه أسير البحث الصعب عن سبل العودة إلى الموقع الذي بات مغلقاً بوجهه، كما تبدّى الأمر مع تكليفه تشكيل الحكومة بناءً على طلبه بعد انتفاضة تشرين 2019. وبذلك نجح العهد بتغطية من حليفه الاقوى في تهميش رئاسة الحكومة ومصادرة الكثير من صلاحيات الموقع خلافاً لدستور الطائف، مما كان له انعكاساته تراجعاً في الدور والوزن، ليس على صعيد تيار المستقبل وحسب، إنما بالنسبة لتيارات السُنية السياسية كافة، والتي تبدو عاجزة عن تجاوز ما هي فيه من التفكك والشرذمة والضعف.
وبلغت ذروة هذا التردي في موقع السنية السياسية ودور وموقع رئاسة الحكومة في قرار رئيس تيار المستقبل حول تعليق مشاركته وتياره في الحياة السياسية والانتخابات النيابية المفترض حصولها هذا العام. وتبرير ما أعلنه باستحالة انقاذ البلد في ظل النفوذ الايراني. (دون تسمية حزب الله كممثل لهذا النفوذ). وبصرف النظر عن حصته من المسؤولية عما آلت إليه أوضاع البلد الكارثية، فإن انسحابه وتياره من التفاعل مع الحياة السياسية، يؤشر إلى عمق الخلل بين المكونات الطائفية السياسية اللبنانية على نحو لم يسبق للبلاد أن شهدت مثيلاً له. وما يفاقم من خطورة هذا الانسحاب أنه يتم في ظل الشروط العربية الدولية لدعم لبنان ومساندته على الخروج من أزماته الخانقة التي تبلغها المسؤولون الرسميون على نحو واضح وصريح من وزير الخارجية الكويتي باسم الدول الخليجية والعربية والمجتمع الدولي، وهي المتعلقة بالتزام اتفاق الطائف والاصرار على تطبيق القرارات الدولية والعربية ورفض أي وصاية حزبية أو خارجية على البلد وإدارة سياساته وعلاقاته الخارجية، ووقف التدخل في القضايا والشؤون الداخلية للبلدان العربية. ما يؤشر إلى منحى تصعيد الصراع حول لبنان في ظل الاحتقان الطائفي المتصاعد داخلياً، باعتباره ميدان تصفية حسابات اقليمية ودولية.
ومن ناحية أخرى وفي موازاة المخاطر الزاحفة وانعكاساتها الخطيرة على لبنان، تجهد قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي في إلحاحها على السعي للتوصل إلى تسوية تحفظ وجود الكيان تحت سقف نظام الطائف. وذلك خشية من التطورات التي لا قِبَل للبلد بتحمل تبعاتها، وخوفاً على مصير الطائفة، وسط رياح عاتية قد تطيح أيضاً بالكثير من الأقليات بعد أن عصفت بالأكثريات. وهذا ما يُبقي الزعامة الجنبلاطية على استعداد لعقد التسويات مع خصومها، سواء داخل الطائفة أو في الطوائف الأخرى لحماية موقعها، والإبقاء على دورها داخل تركيبة النظام العام للبلد.
ـ الإنتفاضة والثمن المدفوع
حققت انتفاضة 17 تشرين الاول من العام 2019 العديد من الإنجازات التي يجب أن تسجل لها بوضوح ودون لبس. فقد زعزعت قيادات وقواعد القوى الطوائفية المتسلطة على الحياة السياسية والنقابية، واستحضرت مجاميع من المواطنين وأخرجتها من قواقعها الطائفية نحو المشاركة مع سواها في الاعتراض على نتائج ما قادت إليه هذه السلطة الطوائفية من إفقار وتجويع، وما تلحقه بالبلاد من كوارث على مختلف الصعد. وأبرزت طموح اللبنانيين في الارتقاء بمواطنيتهم، بديلاً عن اعتبارهم مجرد رعايا طوائف معزولين عن بعضهم بعضاً. كما عكست حاجتهم لبناء دولة العدالة الاجتماعية وحكم القانون بديلاً عن تسلط وهيمنة القوى المتحكمة بمفاصل البلاد التي تتقاسم السلطة والمغانم.
كما وضعت الانتفاضة جميع قوى السلطات الطوائفية في موقع المتَهم عن الخراب والافلاس والبطالة ومعاناة الحياة اليومية. وبذلك أسقطت الانتفاضة هالات “القداسة” التي طالما حاول قادة احزاب السلطة إضفائها على أشخاصهم وسياساتهم. لقد حمل اللبنانيون بشبابهم وشاباتهم وعداً بالتغيير، سرعان ما تراجع لصالح منوعات من اليأس والاحباط، رغم معاناتهم المضاعفة، التي ترغمهم على الإنضواء في طوابير البحث والانتظار المنتظمة أمام محطات المحروقات والصيدليات والافران والمستشفيات وسواها، كما تدفع بهم إلى البحث عن مخارج با لهجرة خارج البلاد. فيما هم ومعهم كل المتابعين لشؤونهم يكررون طرح الأسئلة التي تلح على ضرورة استقراء تلك التجربة، التي دفعت بمئات ألوف الناس، ومن مختلف الشرائح إلى النزول للساحات العامة في العاصمة والمدن في مراحل معينة، مقابل حال الفراغ والانصياع الراهنة وسط تصاعد وتلاطم الأزمات.
إن أي مقاربة متنورة للانتفاضة بعد قرابة عامين على اندلاعها تتطلب رصد المسائل التالية:
أولاً ـ لقد شعر اللبنانيون أن مصالحهم مهددة بالخراب على أيدي الطبقة السياسية التي تقود البلاد، فخرجوا من معازلهم الطائفية تعبيراً عن طموحهم إلى بناء كيان وطني يخرجهم من واقعهم الجهنمي، ويحمي حقوقهم ويلبي مطالبهم المشروعة ويصون مستقبلهم في بلادهم.
ثانياً ـ رغم أشهر المد الشعبي الحاشدة، والتي شملت بتفاوت مختلف المناطق والفئات والشرائح، لم يكن من السهل تشكيل قيادة عمل موحدة ومشروع وبرنامج مشترك يجمع بين مكوناتها ويحدد خطوات نضالها.
ثالثاً ـ ليس من قبيل الصدف أن تعبّر كثرة وتنوع مجموعات الانتفاضة عن انفراط وتذرر البنية اللبنانية وتفكك الفئات الاجتماعية وهزال القوى النقابية والديموقراطية، جرَّاء ما تعرضت له خلال العقود السابقة من استباحة وتجويف ومحاصصة طائفية وفئوية. لقد ثبت بالتجربة أن بناء معارضة فعلية ومستقلة لا يمكن أن يُرتجل، إذ يحتاج إلى وعي فكري وسياسي وممارسة نضالية مديدة.
رابعاً ـ كان الأفدح هو غياب العديد من القوى الحزبية عن المشهد، وضخ بعضها وعياً مزيفاً للوضع، وترك المسؤولية لما يسمى قوى المجتمع المدني. عبَّر ذلك عن انقطاع التواصل وغربة تلك القوى عن نبض فئات المجتمع وشرائحه المتنوعة التي تستشعر الخطر على مقومات عيشها ووجودها. في المقابل كانت أجهزة قوى السلطة الطوائفية تُنسّب الانهيار الذي تعاني منه البلاد إلى الانتفاضة وتحمّلها مسؤولية ما ترتب على تحركاتها في محاولة منها لتبرئة ساحاتها من المسؤولية عن سياسة الاستدانة وافلاس الدولة ونهب موارد الخزينة وانهيار الاقتصاد والعملة الوطنية وإفقار المواطنين.
خامساً ـ مقابل حشود المواطنين من مختلف الفئات والقطاعات، برزت قوى ومجموعات هامشية تستسهل الحديث عن قدراتها على اسقاط النظام وإنهاء هيمنته، وطرحت نفسها بدائل جاهزة لإستلام السلطة وإقامة النظام البديل.
سادساً ـ كما وأن مجموعات موازية ذهبت إلى حصر مسؤولية الانهيار بـ “حكم المصرف”، ممثلاً بحاكم المصرف المركزي والمصارف. بهدف إبعاد الشبهة عن أركان منظومة الحكم وإدارتها للبلاد. واعتمد بعضها ممارسة العنف الأعمى، تارة ضد قوى الأمن الداخلي، وطوراً ضد المؤسسات المصرفية ومصرف لبنان بما فيه الاملاك العامة والخاصة.
سابعاً ـ كانت فوضى الأهداف تتغطى بفوضى الشعارات المرفوعة دون أن يدرك اصحابها مدى عمق وتجذر النظام الطوائفي في البُنية اللبنانية، وقدرته على النفاذ من عاصفة الانتفاضة عبر استغلال قطع الطرقات وفوضى وتضارب حركة المجموعات الناشطة.
ثامناً ـ ساهمت أكثرية قوى السلطة وبعض المجموعات الأهلية الطائفية في التشكيك بالانتفاضة والقيام بدور تدميري لها عبر شيطنتها وإلصاق تهم الخيانة والعمالة بها، وتسليط القمع الميليشياوي عليها، والتلويح بإشعال الحرب الأهلية واستعمال السلاح لقمعها. ثم باختراقها من كل الجهات. من هنا يمكن فهم وظيفة وخطورة الشعارات المذهبية التي تم رفعها لتتحوّل ذرائع لحملات القمع المتكررة.
تاسعاً ـ مقابل ارتباك السلطة والتساهل النسبي للأجهزة الأمنية الرسمية والسماح بالتظاهر والتجمهر، إلا أنها لم تؤمّن الحماية الكاملة للمتظاهرين. ومع استقالة الحكومة، تولت بعض المواقع الميليشياوية في السلطة مهمة تصليب عصب المواجهة وتسليط القمع الأهلي والرسمي على المتظاهرين لتشتيت تحركاتهم.
عاشراً ـ عملت قوى سياسية وثقافية على تمجيد العفوية وعدم التسييس والفوضى في طرح المطالب وصولاً إلى المبالغات في حدود القدرات المتاحة، والتي طبعت نشاط بعض المجموعات التي وقعت أسيرة أوهامها المفرطة.
حادي عشر ـ سهّل ذلك اختراق الانتفاضة من قبل قوى السلطة والأجهزة الأمنية المتنوعة. وأقامت خيماً ومراكز لمجموعاتها في الساحات العامة، وشاركت في عمليات قطع الطرق واقفال الساحات العامة، والتلويح باعتماد “العنف الثوري”، فضلاُ عن تقصد الهجوم على مؤسسات عامة وخاصة وتخريبها. وما ساعد على هذا الاختراق بروز تيارين داخل الانتفاضة أحدهما سيادوي وآخر ممانع، ما أفقدها وحدة التوجه والموقف وساهم في أضعاف قدرتها على حماية استقلالية تحركاتها.
ثاني عشر ـ لا تزال بقايا المجموعات الناشطة محكومة بالتنافس والإنكار المتبادل بين مكوناتها وتصور جهوزيتها للانتقال إلى سُدة السلطة وإدارة الحياة السياسية في المؤسسات التشريعية والتنفيذية.
ولعل فشل أشكال التنسيق بينها رغم عشرات التشكيلات ومئات الاجتماعات هو الدليل الأبرز على هامشية تلك القوى، وتعدد القراءات التبسيطية والسطحية لطبيعة النظام وقواه، كما لمضاعفات ونتائج الهجوم المعاكس الذي تعرضت له الانتفاضة وأثرها العميق على الناس.
ـ الإنهيار الإقتصادي والمالي وقضية الفقر
أن ترفع الحكومة الحالية راية إنقاذ الدولة والاقتصاد والمجتمع اللبناني من الإنهيار، أمر لا يقدم خطوة في هذا الاتجاه، بقدر ما يشكل عامل تضليل إضافي ضمن سياسة تمرير الوقت، بانتظار الاستحقاقات التي تواجهها البلاد والمتمثلة بالانتخابات النيابية والرئاسية خلال العام الحالي. خصوصاً وأن الوضع الاقتصادي والمالي العام في البلاد قد بلغ حالاً لم يشهد لها مثيلاً من قبل. فعدا ما حل بمؤسسات الدولة وأجهزتها وقطاعاتها من تعطيل وعجز وشلل. وإلى وصول الخزينة العامة مرحلة الافلاس، فإن القطاعات الإنتاجية كافة سواء على صعيد الصناعة والزراعة من حيث كميات الانتاج والتصدير، كما بالنسبة لقطاعات الخدمات وخاصة السياحية منها، قد سجلت تراجعاً متلاحقاً ما انعكس على هذه القطاعات وعلى مساهمتها في الاقتصاد الوطني. لقد بلغت الأزمة المعيشية مستويات لم تصل اليها يوماً باستثناء المجاعة التي ضربت البلاد خلال الحرب الكونية الأولى قبل أكثر من مائة عام. وعليه وفي موازاة غرق البلاد بالعتمة، تتفاقم مشاكل البيئة ومطامر النفايات والتلوث الذي يصيب الشواطىء والانهر كافة، وأبرزها حوض الليطاني وبحيرة القرعون. مع ما يرافق ذلك من انتشار للأوبئة والأمراض السرطانية. والتي تضاف إلى تجدد انتشار وباء كورونا، بينما يواجه القطاع الصحي خطر التوقف جرّاء فقدان الوقود والأدوية والمواد الطبية وهجرة الاطباء والممرضين نتيجة تدني الاجور بفعل انهيار العملة الوطنية. هذا إلى جانب المخاطر التي تهدد العديد من قطاعات الخدمات بالتوقف عن العمل والانتاج بحدوده المتواضعة.
إن السلطة السياسية الممسكة بمقاليد الأمور والتي ادارت الشؤون العامة على امتداد عقود ثلاث تتحمّل مسؤولية الانهيار الشامل الذي يواجه البلد. علماً أن القوى المهيمنة راهناً تتحمل مسؤولية تسريع وتيرة الانهيار المريع، بسوء أدائها وفسادها وممارساتها الفئوية التي قادت البلاد إلى الإفلاس. كما وأن القطاع المصرفي والمصرف المركزي، يشكلان شريكين أساسيين في تحمّل مسؤولية هذا الانهيار، جراء تواطئهما مع السلطتين التشريعية والتنفيذية على الحصيلة التي دُفعت البلاد إليها.
إن السلطة السياسية كما الحكومات المتعاقبة، وعند توصيف الأزمة الأقتصادية والمالية ـ الاجتماعية، تتجاهل السياسات التي قادت إلى الانهيار سواء على صعيد السلطة وممارسة الحكم ونهج المحاصصة وتعطيل المؤسسات ونتائجهما. أو لناحية إغفال مسؤوليتها عن بتر الاقتصاد اللبناني عن محيطه العربي الطبيعي. كذلك فإنها لا تتطرق إلى أعطاب عمل المؤسسات الدستورية والقضائية والأمنية، ومعضلات العلاقات بين المكونات اللبنانيية، وبقاء قواها السلطوية في خنادق الإنقسام الأهلي. كما تتجاهل ما آلت إليه أوضاع الإدارات العامة في ظل المحاصصة الطائفية السافرة للمراكز والوظائف الخدماتية على كل المستويات وفي القطاعات كافة، وانعكاساتها السلبية على أدائها وانتاجيتها ومستوى خدماتها. هذا عدا الصراع المفتوح على توزيع واقتطاع الوزارات والإدارات تبعاً لما تتيحه من منافع مالية وخدماتية فئوية.
ورغم ارتفاع عجز الموازنة العامة وانعدام قدرة الدولة على إيفاء الديون المترتبة على الخزينة، والتي باتت تفوق المائة مليار دولار، تتزايد النفقات الحكومية عبر المزيد من طبع الأوراق النقدية بعد تعذر الاستدانة الداخلية والخارجية. في مقابل تراجع الجباية وسط تفاقم العجز في ميزان المدفوعات وتزايد الخلل في الميزان التجاري وتراجع الصادرات. ما يجعل الحديث عن برنامج انقاذي للتعافي الاقتصادي والمالي، عبر توسيع الاستثمار العام والاستقرار النقدي والمالي وتحديث القطاع العام والاصلاحات الهيكلية والقطاعية والانتاجية وحماية البيئة وتعزيز التربية والثقافة، والتصدي لمشكلات قطاعات الخدمات، أمور لا صلة لها بالواقع في ظل أداء قوى السلطة القائم والمستمر. علماً أن الحكومة التي تشكلت مؤخراً من اختصاصيين يمثلون القوى السياسية والمالية، ليست بوارد تحميل اعباء الانهيار للقادرين على الدفع من متمولين ومصارف وشركات مالية وعقارية وحُماتهم من الطبقة السياسية، وهي الفئات التي تملك أكثر من 4 اضعاف الدخل الوطني.
لقد تمكنت هذه الفئة من اقتطاع عشرات مليارات الدولارات من موارد الخزينة والمال العام، كما من أموال المودعين، وعلى حساب المكلف اللبناني والاقتصاد الوطني، وذلك عبر رفع الفوائد على ديون الدولة، وحصر التوظيف الاستثماري في شراء سندات الخزينة، باعتباره المجال الأكثر ربحية. ولذلك بلغت ديون قطاع المصارف وتوظيفاته للدولة، من أجل تأمين الرواتب وتمويل مشاريعها وسط الصفقات المشبوهة، الـ 70% من مجموع ديون القطاع، ما تسبب بشل القطاع الخاص لتعذر التمويل الاستثماري لقطاعات الاقتصاد. وقد نتج عن ذلك إنهيار شبه تام في القطاعين العقاري والخدماتي السياحي، وكذلك في قطاعي الزراعة والصناعة، خصوصاً في ظل المقاطعة العربية، والعقوبات المالية التي أدت إلى تراجع الصادرات إلى الخارج والتحويلات المالية من المغتربين وانقطاع المساعدات والقروض.
إن ارتفاع المديونية العامة للدولة ناجم عن ارتفاع الانفاق العام كنتيجة للمحاصصة والتوظيف الزبائني، وهيمنة الاقتصاد الموازي على الاقتصاد الطبيعي، بينما تراجع التمويل الاستثماري للقطاع العام إلى حدود الـ 1% فقط، وقد رافق ذلك سياسة خصخصة مستترة للمؤسسات العامة (أوجيرو) ومعلنة (شركات مقدمي الخدمات في شركة الكهرباء وجمع النفايات) وما شابه. فيما جرى تلزيم الكثير من الخدمات العامة إلى مافيات تابعة ومحمية من قوى السلطة، إلى جانب تطييف وتقاسم القطاع الخاص لما تبقى منها كما هو الحال في التعليم والصحة وغيرها.
لقد سهّل هذا الوضع للقوى الحاكمة، نهب القروض الخارجية قبل توقفها، وكذلك موازنات الدولة، عبر عمليات تحصيل الاموال لتمويل المشاريع وتقاسم تلزيمها بالتراضي لأتباعها خلافأ للأصول، سواء ما نفذ منها أو لم ينفد، بالإضافة إلى إغراق الادارة العامة بالمحازبين لضمان ولائهم. في مقابل هذا التمويل جنى القطاع المصرفي من الارباح من خلال الفوائد العالية التي دأب على تقديمها لتُهدر دون حسيب أو رقيب، وهي فوائد لم يشهد العالم مثيلاً لمستوياتها المرتفعة.
إن الأرباح التي حققها ارباب المحاصصة السياسية والمالية، من فوائد التلاعب بفوائد الديون وتوزيعها بين الليرة والدولار، ومن الهندسات المالية، ومن ثم إخراج ثرواتهم إلى ملاذات آمنة، أوقعت البلد كما القطاع المصرفي في هوة الانهيار الشامل على حساب صغار المودعين دون سواهم ومجمل الاقتصاد الوطني.
وإذ توهم البعض أن وقف سداد مستحقات الدين من سندات اليوروبوند، بمثابة انتصار. إلا أنه ساهم بتعميق الكارثة التي تطال تبعاً لاحصاءات الجهات الدولية أكثر من 75% من حياة اللبنانيين اليومية ولاعوام طويلة. معطوفة هذه المرة على مد اليد لأموال المودعين وممتلكات الدولة والقطاع العام، وبالاخص في المجالات الأكثر ربحية، وعبر تعميم وتوسيع القاعدة الضريبية لتراكم إفقاراً مضاعفاً لذوي الدخول الدنيا والمتوسطة، ودون أن تكون تصاعدية، بحجة تشجيع الاستثمارات على معاودة نشاطها.
إن ما يشهده اللبنانيون على صعيد صناعة الخبز وتجارة المحروقات والأدوية والسلع لضرورية وتوزيعها لن يكون أمراً طارئاً، بل سيكون القاعدة كونه مرتبط بالمحصلة التي انتهى إليها وضع الاقتصاد اللبناني وهيمنة السوق السوداء، والأداء المافياوي على استيراده وتوزيعه وتهريبه خارج إطار الدولة ومؤسساتها. وهو ما يتم برعاية وحماية ومشاركة قوى الأمر الواقع الطائفية.
كما وإن خسائر مئات ألوف اللبنانيين لتعبهم ومدخراتهم وجنى أعمارهم من أموالهم المودعة في البنوك، أو جرَّاء فقدان 90% من قيمة عملتهم الوطنية، وتوقف منشآتهم ومصادر رزقهم عن العمل والإنتاج، وتعرض عمالهم للبطالة السافرة والمقنَّعة، قد انتقلت بقدرة قادرين إلى حسابات الفئات الأكثر ثروة. إذ إنه وخلال العام الماضي، وفي عزّ الانهيار، بلغت الثروات المتراكمة بيد أقل من 10% من اللبنانيين ما يقارب من 91 مليار دولار. وهي ثروات بإمكانها الإسهام في القضاء على الفقر من خلال ضريبة لا تتجاوز نسبتها 1% سنويّاً.
إن الأرقام التي أوردها تقرير الأسكوا الأخير، تدلل على حجم الخلل والتفاوت الكبير في الدخل والثروة بين المقيمين في لبنان. كما أشار إلى أن نسبة الذين يعانون من فقر متعدد الأبعاد قد ارتفعت لتبلغ نحو 82% سنة 2021. ما يعني أن تركّز الثروات والمداخيل لم يأتِ من فراغ، بل من السياسات الماليّة والاقتصاديّة التي تم اعتمادها قبل الأزمة وخلالها، ومن التوزيع غير العادل للخسائر التي تسبب بها الانهيار.
وبما أن تركّز الثروة يتم قياسها وفقاً لمعايير ومؤشرات اقتصاديّة علميّة. فإن تقرير لـبنك “كريدي سويس”، سجل أن لبنان احتل المرتبة الثامنة عالمياً من حيث انعدام المساواة في توزّع الثروة. ما يجعله ضمن الشريحة العليا من البلدان المتوسّطة الدخل، مسجّلاً نسبة 81.9% في مؤشّر “جيني” لقياس عدالة توزّع الدخل القومي. إن ارتفاع نسبة هذا المؤشّر، واقترابها من مستوى 100%، يُعد علامة سلبيّة جداً تدل على التفاوت الهائل في توزّع الدخل، في حين أن هذه النسبة لا تتجاوز مثلاً، حدود الـ 30% في الدول الاسكندنافيّة، أو مستوى 32% في فرنسا وألمانيا.
ولدى التدقيق في توزّع الدخل في لبنان، وفق تقرير الاسكوا، نجد أن أقل من 10% من اللبنانيّين يستاثرون فقط بنحو 70% من الثروة الوطنيّة الموجودة في البلاد. فيما تستحوذ شريحة 1% منهم فقط وهم الأكثر ثراءً في المجتمع على أكثر من 40% منها. وإذا أخذنا بتقدير الأسكوا، يتبيّن أن قيمة ثروة ال 10% تتجاوز 2.7 مرّات قيمة الناتج القومي للبلاد بأسرها. ما يدل على توسع قاعدة الفقراء المعدمين وأشباههم ودخول شرائح جديدة دائرة الفقر، كانت حتى الأمس القريب تحسب على خانة الطبقة الوسطى.
إن التوجهات المعتمدة من قبل أهل السلطة، وكما ورد في البيان الوزاري، حسمت ونفذَّت رفع الدعم عن السلع الضرورية. ما فتح الطريق على المس بالاوضاع المعيشية للبنانيين من مداخل متعددة، تبدأ برفع اسعار المشتقات النفطية، وسعر الكهرباء قبل تامينها، ناهيك برغيف الخبر والدواء وسائر السلع التي تصيب الفئات الفقيرة والمتوسطة دون سواها.
إن ما يتوهمه البعض من عوائد انقاذية تتحقق من خلال التفاوض مع صندوق النقد الدولي، والمفاوضات مع الدائنين الذين قامت السلطة بوقف سداد ديونهم، يعني أن مشروعها الإنقاذي برمته هو في خدمة القلة المالكة للثروة ولا يؤسس لنمو اجتماعي عادل ومتوازن ومستدام.
إن هكذا خلل يحمل محاذير على درجة عالية من الخطورة، لا علاقة للحكومة الحالية والعهد وقوى المحاصصة السياسية في الحد منه وعلاجه، باعتباره مدخلاً لإعادة الاعتبار للاقتصاد وآلياته ودوره الاجتماعي حتى في النظم االرأسمالية، خلاف ما هو حاصل من هيمنة السوق الموازي والنهب المافياوي والاحتكارات المستظلة بها. إن علاج وضع على هذا النحو من الانهيار الشامل لا يمكن أن يتم من خلال البطاقة التمويلية الانتخابية، أو عبر استعمال حقوق السحب من الصندوق الدولي. إنما من خلال سياسات فعلية تعمل على ردم الهوة الاجتماعية والمعيشية على نحو متنام، بما يقود إلى إعادة تشكيل الطبقات والفئات والشرائح في المجتمع، بديلاً عمَّا عرفه البلد منذ الطائف على صعيد شرذمة وتفكك الطبقة البورجوازية وتوزعها ملاحق على قوى السلطة للافادة من فسادها وتغذية طموحاتها السياسية، وانعكاسات ذلك سلباً على الصعيد الاقتصادي. بإلاضافة إلى ما شهده مؤخراً من إفناء كلي للطبقة الوسطى بما تزخر به من كفاءات، وما تلعبه من دور إنتاجي وتحديثي. بينما الفئات الدنيا في المجتمع بما تضمه من موظفين ومعلمين وفلاحين وعمال وحرفيين تختصر من وجباتها اليومية ومن حليب أطفالها، في موازاة انعدام قدرتها على تأمين حاجاتها الضرورية على صعيد الصحة والتعليم والملبس والسكن.
ولذلك فإن البيان الوزاري الأخير، كرر تعداد المشكلات ووعود الاصلاح ومشاريع الحلول في إطار ما يدعيه برنامجاً انقاذياً، في شتى مجالات الخدمات والادارة العامة وسائر قطاعاتها، إلى جانب القطاع المصرفي، ووعداً باعادة هيكلته وضمان اموال المودعين. بالاضافة إلى تجديد الرهان على مقررات المؤتمرات الدولية وما تضمنته من وعود مشروطة. وصولاً إلى بنود المبادرة الفرنسية. بالاضافة إلى الحديث عن دعم القطاعات الانتاجية للتحول من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج تحقيقاً للعدالة الاجتماعية، والتصدي لقضايا الفساد والتهريب وغيرها من البنود. إن ما ورد في بيان الحكومة الذي نالت على أساسه الثقة هو بمجمله يقع في إطار التضليل الذي يمارس في سياق التغطية على تقاذف تهم المسؤولية عن الانهيار الذي يصعب، بل يستحيل ان تُعَالج مضاعفاته ونتائجه من قبل مَنْ تسبب به. الأمر الذي يُبقي مهمة التصدي لمثل هذه السياسة على عاتق المتضررين منها الذين بمكنتهم وحدهم فرض الاتجاهات البديلة والحلول والمعالجات الكفيلة بحماية حقوقهم والدفاع عنها.
وغني عن القول إن ما وصل إليه الاقتصاد اللبناني من انكماش وضمور وتأزم في مختلف المجالات، يفرض التوجه نحو إيجاد دور متجدد له على الصعيد الاقليمي، وبالعلاقة تحديداً مع محيطه العربي المجاور، مستفيداً مما تتيحه له موارده البشرية في المقام الأول. علماً أن هناك استحالة نحو عودته إلى الأنماط السابقة التي كانت قائمة قبل انفجار الانهيار. لأن القطاع المصرفي لم يعد يحظى بثقة المودعين اللبنانيين والعرب، والخدمات الصحية والتعليمية والفندقية مستمرة على نحو محدود بقوة انهيار العملة الوطنية، في وقت باتت عاجزة المنافسة مع ما شهدته مثيلاتها في المنطقة خلال العقود الماضية من تطور نوعي.
من هنا تبرز حاجة لبنان للتوجه نحو الاقتصاد الرقمي مع ما يتطلبه من تعليم “التشفير”coding اجبارياً وفورياً في المدارس والجامعات اللبنانية للتفاعل مع ما يشهده العالم والتعليم المعاصرين. وعليه يمكن طرح مشروع “المبادرة اللبنانية لتعليم التشفير” ما يتيح مساحة للتفاعل مع الدول العربية واقتصادات العالم. على أن يترافق ذلك مع تبني لبنان لقانون الاتحاد الاوروبي لحقوق الانسان وفرض ضرائب على الشركات الرقمية العملاقة والشركات العابرة للقارات التي أقرتها الدول العربية وغيرها، ودعم الشركات الرقمية الناشئة لتعزيز البنية التحتية الرقمية.
ولا بد في هذا الاطار من التفاعل مع التطورات الحاصلة في المراكز الرأسمالية العالمية في أعقاب جائحة كورونا، واعادة الاعتبار لدور دولة العدالة والضمانات الاجتماعية بما تتطلبه من ضرورة السعي لتشكيل وترميم أوضاع الطبقة الوسطى، والالتزام بحماية الصناديق الضامنة وفي مقدمها مؤسسة الضمان الاجتماعي لحماية حقوق العمال ومداخيلهم وضماناتهم وتعويضاتهم في نهاية الخدمة، وبناء قطاع عام صحي متطور وواسع بما يستعيد بعض ملامح المرحلة الشهابية وإعادة الاعتبار للمؤسسات.
ويبدو ملحاً وفي ضوء الجريمة التي استهدفت مرفأ بيروت ومحيطه في العام 2020 وما يلقاه إعادة بنائه من اهتمام دولي من تأمين اطار تكاملي لدوره، بالعلاقة مع مرافىء طرابلس وصيدا وصور وشكا وأنفا باعتبارها مرفأً واحداَ وربطها بمنصة رقمية واحدة تضمن تكامل عملها. وفي السياق نفسه تقع أهمية تطوير الصيد البحري لجهة تحديث الاسطول وتأهيل الموارد البشرية العاملة في القطاع، وتمكين الصيادين اللبنانيين من العمل في أعالي البحار العميقة، والابتعاد عن الصيد البحري الجائر ونشر مشروع المزارع البحرية للأسماك والاصداف. ويستطيع لبنان هنا الإفادة من الطاقات الاغترابية عبر تأمين رؤوس الاموال ومن موقعه المميز. وفي مجال الثروة المكتشفة من الغاز والنفط في مياهه البحرية من الضروري تعزيز مشاريع توليد الكهرباء من الغاز كما هو مقترح من الشركات ذات الخبرة وانشاء شبكة لإيصال الغاز إلى البيوت. ولما كان لبنان يعاني من أزمة نفايات مزمنة يمكن البحث في عملية تدويرها ضمن مشروع إقليمي مشترك. أما موضوع تأسيس الصندوق السيادي، وكي لا يتحول إلى مجال نهب من جانب الطبقة السياسية ـ الميليشياوية المهيمنة، فلا بديل عن حوكمة رشيدة لإدارته بالتعاون مع النقابات والجمعيات المدنية والحقوقية لضمان وضعه في خدمة المصلحة الوطنية للبنانيين، خلافاً لرغبة وطموحات منظومة قوى الفساد السياسي والاداري.
ـ إحتدام الطروحات المستحيلة
ومع احتدام الصراع السياسي بين سائر المواقع الطائفية الفئوية، ووسط تزايد المخاطر وتصاعد حدة الانهيار وعودة الفوضى الأهلية، ومع إعلاء رايات السجال حول معضلة سلاح حزب الله، وتجدد الانقسام الأهلي بشأنه، لم يكن مستغرباً استحضار مقولات الفدرالية المستحيلة واوهام الحياد الصعب. لكن ما زاد الطين بلة كان دخول المرجعيات الدينية والطائفية كافة ودون استثناء على خط السجال السياسي، سواء حول الخيارات الوطنية التي تتناول الهوية وموقع الكيان وعلاقته بمحيطه، أو حول أزمة النظام السياسي وتوازناته ومنازعات قواه. وإذ يسعى بعضها للعب أدوار سياسية مرجعية، إلا أنها جميعاً تشكل مراجع شعبوية للإفتاء قبولاً واعتراضاً وتحليلاً وتحريماً في شتى ميادين الصراع السياسي. وكذلك حول الخيارات السياسية ونفاذ القوانين والتحقيقات العدلية وحماية المسؤولين والموظفين من كل المستويات. الأمر الذي شكل غطاءً لمنظومة قوى السلطة وساهم في عرقلة وتعطيل ما تبقى من مؤسسات الدولة واجهزتها القضائية والامنية عدا الإدارية.
إن استمرار أزمة لبنان على هذا النحو، يبقيه ساحة صراع مفتوح، تضيفه إلى سائر ساحات المنطقة التي تعصف بكياناتها ودولها أزمات وحروب متفجرة. ما يبقي مصيرها معلقاً على نتائج الصراعات الإقليمية والدولية المتعددة المحاور فيها وعليها، والتي يلعب الطرف الأميركي الممسك الفعلي بزمام الأمور، دوره الاجمالي في التلاعب بأوضاعها، وتسهيل استباحتها ورهن مستقبل كياناتها وإبقائها عرضة لتقاسم السيطرة عليها ونهب مواردها. إن إلحاق لبنان بأي من محاور الصراع التي تدار اميركياً، أو بأي من المنظومات والأنظمة الاستبدادية الباحثة عن حماية لها، أو المحاصَرة بالعقوبات والتبعية، يستوي في ذلك الإقليمي الإيراني والتركي كما العربي السوري أو الخليجي، لا يشكل مطلقاً مدخلاً صالحاً لمعالجة أزماته الوجودية، أو منجاة له من المخاطر المتراكمة فيه والزاحفة عليه. كذلك فإن التبعية السياسية للخارج الموّلدة للأزمات، واستغلالها للتلاعب بالهوية والسيادة الوطنية ومقومات وجود الدولة ومؤسساتها وتعريضها للمزيد من الاستباحة والتفريط بمصالح اللبنانيين في الداخل والخارج على السواء، تبقى أقصر الطرق لديمومة وتجدد الإنقسام الأهلي حول مختلف أوليات ومبادىء تشكل الكيان وطناً ودولة، ومعها صيّغة نظام الحكم القابلة للاستمرار والتي يمكن في ركابها فتح الأبواب امام مسارات توحيد اللبنانيين حول مصالحهم المشتركة، وإرساء وترقية الهوية الوطنية كضمانة لمستقبلهم. علماً أن التصدي لهذه المسالة ومعالجتها مرهون بمدى قدرتهم على الإستفادة من تجاربهم المريرة والدامية وقطع الطريق أمام تكرارها، وعدم هدر ما دفعوه جميعاً خلالها من دماء وتضحيات من مختلف الاتجاهات.
ـ إلى أيـن وما العمـل؟
هذا السؤال المحوري المطروح تفترضه الأزمة العاصفة في البلاد في ظل المخاطر الزاحفة. في ظل تجمّع عوامل الإنفجار المتعدد الأوجه على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية. مما لن يجد تصريفاً له في الانتخابات النيابية والرئاسية في حالة حصولهما. إن طرحنا لهذا السؤال يصدر من موقع طرف مشارك وناشط بين قوى ومجموعات الانتفاضة وعلى الصعيد العام. ولذلك لا بد من القول أن انفجار الصراعات بين مكونات النظام السياسي لا يعني البتة القدرة على إزاحتها عن خشبة المسرح. فقد أثبتت التجربة الملموسة صعوبة ذلك، بل واستحالته ضمن توازن القوى القائم راهناً. وعلى العكس منه، يمكن القول إن اطراف السلطة فرادى ومجتمعين قد أثبتوا قدرة على استعادة أدوارهم، والاستفادة من الامكانات المتاحة لهم كحاصل للعلاقات الزبائنية مع جمهورهم سواء عبر استخدام الإدارات العامة، أو عوائدهم من نهب المال العام. كما في حماية مواقعهم في إدارة شؤون البلاد ضمن تبدلات محدودة في ميزان القوى بينهم، وعلى صعيد تجديد بُنى تنظيماتهم. بينما تفتقد غالبية قوى الانتفاضة ومجموعاتها للحد الأدنى من الامكانات، رغم تلقى بعضها دعماً خارجياً افقدها استقلاليتها وابقاها مرتهنة للمموّلين.
رغم ذلك تبقى الحاجة ضرورية لترصيد حساب ما جرى وما تحقق من نتائج بدقة بالغة. لاسيما بعد تبديد الكثير من إيجابيات الانتفاضة، وانكفاء الناس عن الساحات وعدم المشاركة في التحركات.. لقد شكلت التحركات الهزيلة التي شهدتها الساحات العامة خلال العام المنصرم دليلاً إضافياً على ما آلت إليه الانتفاضة، لا سيما بعد أن دخلت بوابة الانقسام الأهلي وانفلات السجال حول مسألة سلاح حزب الله ودوره، وتجدد دعوات الحياد والفدرالية. ما أدى إلى تشققات إضافية في مكوناتها، وجعلها قاصرة عن الحفاظ على الحد الادنى من الوحدة الإجمالية التي ميزت انطلاقتها. ومما ضاعف المعضلة التي عانتها وتعانيها الانتفاضة كثرة الباحثين عن أدوار ومواقع قيادية بين صفوف مجموعاتها من خلال الترشح للمناصب أو للانتخابات، والتنطح لتشكيل الحكومات البديلة والثورية، واستعراض السيّر الذاتية من قبل الساعين لأدوار بأي ثمن. أما الأحزاب المتحدرة من تجارب سابقة فأزمتها تكمن باستمرار إقامتها في دائرة الانقسام الأهلي والاجتماعي وسط ذاكرة متاريس الحرب الأهلية وامتداداتها المتوالية فصولاً.
وبعد، لا بد من القول إن أهداف الانتفاضة والطموحات العامة للمشاركين فيها، تستحق الالتزام والسعي لاستعادة روح وزخم الشباب والشابات بينهم، لأنها لا يمكن أن تتحقق عفو الخاطر. واذا كان المشروع الوطني الديموقراطي العلماني يمكن أن يكون الجامع بين اللبنانيين، لكنه بحاجة إلى سواعد أصحاب المصلحة فيه، من معلمين وطلاب وأطباء ومهندسين ومحامين وعمال ومزارعين وموظفين… وهي الكتل والفئات الاجتماعية المعنية بالتعبير عن حقوقها ومصالحها، وحاجتها لإعادة تحرير مؤسساتها وأدواتها النقابية من المصادرة، وانتظامها تحت راية الدفاع عن حقوقها، والنضال في سبيل قضاياها الملحة في مجرى صراع مديد ضد السلطة التي لا تعد اللبنانيين سوى بتعميق مأساوية كوارث الافقار والبطالة والمرض والهجرة.
ـ بين الممكن والمستحيل
أمام هذه اللوحة المعقدة من التشابكات بجوانبها الاقليمية التي تجتازها المنطقة العربية بأسرها، والأوضاع الداخلية التي تضغط على حياة اللبنانيين اليومية، يقف مؤتمرنا الخامس لمنظمة العمل الشيوعي، والأول لمنظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني أمام سيل جارف من التحديات المتعاظمة. وهي تحديات لا تطالنا فقط كتنظيم طامح إلى التحول حزباً يساريا ديموقراطياً علمانياً ناشطاً، بل تشمل المجتمع اللبناني بأسره، ولا سيما الفئات والطبقات التي تحصد نتائج الانهيار العام، ومضاعفاته على كيان الدولة والسلم الأهلي وعلى حياتها اليومية ومستقبلها. ولذلك نواجه هذه المرحلة ونحن على يقين أن مهام الاستنهاض تقع على عاتق ومسؤولية كل القوى الحية والمتضررة في المجتمع اللبناني من تحكم وهيمنة منظومة السلطة التي تدفع البلاد نحو مهاوٍ أكثر كارثية.
ومما لا شك فيه أن المنظمة ومن خلال التفاعل مع العديد من القوى، مطالبة بالقيام بدور أساسي في محاولة بناء قوى اليسار والعمل على تشكيل كتلة مجتمعية فاعلة في سبيل الانقاذ. وهي كتلة وطنية لا بد وأن تتجاوز انقسامات الحرب الأهلية وخنادقها الطائفية والفكرية المستمرة، والتي يُعاد انتاجها من جانب قوى السلطات الطوائفية. إن مهمة الإنقاذ التي نطرحها كأولوية هي خلافاً لما تدَّعيه قوى السلطة واحزابها من وعود وشعارات. إن المنظمة وبعد تأكيد خروجها من حالة الإنكفاء السياسي طويلاً، واستعادة نشاطيتها والتفاعل مع سواها من قوى سياسية، قد نجحت في إرساء علاقات حوار وتعاون سياسي ونضالي مع العديد منها بما فيها قوى ومجموعات الانتفاضة. وذلك من خلال الحوار والمشاركة في التحركات من موقع السعي لبناء وتشكيل قوة إعتراض شعبي ديمقراطي، قادرة على استعادة نبض انتفاضة تشرين أول 2019، والاستفادة من الدروس الغنية التي انتهت إليها. غير أن هذه العلاقات على أهميتها تظل محكومة بمدى نجاحنا في بناء المؤسسة الحزبية ـ النضالية الحاشدة، والقادرة على اختراق شرنقة الاختناق التي مرت وتمر بها البلاد واليسار والمنظمة وقوى المجتمع الحية. إذ لا يمكن لنا الآن ودوماً الا أن نعترف أن أزمتنا كتنظيم يساري هي جزء من أزمة لبنان الكيان والدولة وقوى المجتمع. ما يتطلب منا التأكيد على أهمية بناء العصب السياسي ـ النضالي الذي يسعى لأن يقدم مساهمة نوعية في مسيرة النضال الذي يخوضه اللبنانيون، رغم حال اليأس والإحباط الذي يطغى على الكثيرين منهم. إن مساهمة المنظمة في بناء كتلة اجتماعية ـ نقابية وديمقراطية، تعيد تنسيبها إلى قوى وقطاعات الإنتاج في المجتمع، هو الخيار الوحيد المتاح أمامنا في هذه المرحلة. ومع أن هذا التجديد تكتنفه صعوبات كثيرة ندركها جميعاً، الا أن ذلك يجب ألا يثنينا عن بذل الجهد الممكن والمثابر في هذا الإتجاه.
واستناداً لما ورد واهتداءً بما توافقنا عليه كمناضلين ملتزمين نؤكد على ما يلي:
أولاً ـ إن إنقاذ البلد شرطه الأول تحقيق الإصلاح السياسي للنظام، وإلغاء ما يسمّى المحاصصة السياسية وما يتفرع عنها من أشكال وألوان الفساد الطائفي والطبقي. كما وأن إنقاذ الاقتصاد يتطلب إعادة بناء دولة القانون والمؤسسات من جهة، وإعادة تحديد دور ووظيفة لبنان وقطاعاته على صعيد المنطقة العربية من جهة ثانية. أما قيام واستمرار دويلات الطوائف فهو أقصر الطرق نحو الدوران في حلقة الانهيار ومضاعفة نتائجه الكارثية.
ثانياً ـ التأكيد على أهمية عمل وانتظام وتطوير المؤسسات السياسية والتنفيذية في الدولة والالتزام بالاستحقاقات الانتخابية في مواعيدها المحددة، كما ينص عليه الدستور والقوانين والأنظمة المرعية الإجراء. والمطالبة بتعزيز دور الوزارات الخدماتية ومهامها في المجالات كافة، والتشديد على أهمية استقلال القضاء وإخراجه من دائرة التبعية السياسية والطوائفية.
ثالثاً ـ إن الحريات العامة والحقوق التي يضمنها الدستور والقوانين وميثاق حقوق الانسان وسواه من معاهدات عربية ودولية، هي ثمرة نضال الانسان واللبنانيين منذ استقلال بلادهم، ونرى فيها جوهر الصيغة والميثاق والتجربة اللبنانية، بما تفترضه من مساواة بين أبناء المجتمع بصرف النظر عن معتقداتهم وآرائهم وانتماءاتهم.
رابعاً ـ إن الإنتساب إلى رحاب العروبة الديموقراطية وفق ما نصت عليه مقدمة الدستور، تمليه وقائع تاريخ الكيان اللبناني، وشبكات مصالحه مع محيطه العربي. كما تؤكد المنظمة على دعم الشعب الفلسطيني في نضاله لتحصيل حقوقه الوطنية المشروعة وتحرره من الاحتلال الصهيوني وبناء دولته المستقلة. كذلك فإننا نرى في العروبة الديموقراطية والعلمنة أساس نهوض المنطقة وشعوبها من عثراتها، وسبيلاً وحيداً لخروجها من الإعاقات وإشكالية الأقليات العرقية والطائفية، وعلاجاً لمشكلة الأكثريات وما يتهدد كياناتها الوطنية ومجتمعاتها في سلمها الأهلي ومقومات وجودها وطموحات أبنائها في تحقيق الكرامة الوطنية وتحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة واستثمار ثراوتها انطلاقاً مما تتمتع به من مميزات.
خامساً ـ التأكيد على رفض كل أشكال الأمن والإدارة الذاتية، والإصرار على مسؤولية الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الرسمية النظامية على القيام بدورها في حماية البلد وحفظ أمن المواطنين وتقديم الخدمات لهم ضمن سيادة القانون، ما يتطلب العمل على حل المعضلات البنيوية التي تعانيها إدارات الدولة وتأمين الموازنات اللازمة للقيام بالمطلوب منها.
سادساً ـ الدفاع عن استمرارية واستقلالية وانتظام عمل القطاع العام وفق القوانين الناظمة لعمل كل منها، في مواجهة سياسات إلحاقه بالطوائفيات من شتى الضفاف، مع ما يجب أن يرافقه من تطوير وتوسيع لإدائه. إن القطاع العام هو التعبير عن وحدة الدولة والكيان وهو يشمل الجيش والأمن الداخلي والمدارس الرسمية والجامعة اللبنانية وقطاعات الخدمات العامة كالكهرباء والمياه والمستشفيات الحكومية والمصالح المشتركة وغيرها.
سابعاً ـ إن بلوغ الأزمات الاجتماعية المبلغ الذي وصلت إليه هو نتيجة حتمية للسياسات الاقتصادية المعتمدة من جانب سلطة المحاصصة. والتي ساهمت فيها الأزمات السياسية المتواصلة، عطفاً على الأداء الاقتصادي العام وجشع القطاع المصرفي، مما تسبب بالانهيار الشامل على حميع المستويات.
ثامناً ـ أن استفحال المعضلات الاجتماعية في البلد بالنسبة لأكثرية فئات المجتمع، يستدعي العمل على معالجتها من خلال إصلاحات فعلية عاجلة للحد من مضاعفاتها ومخاطر انفجارها. ما يتطلب العمل على منع انهيار قطاعات الخدمات العامة، واعتماد مخطط يهدف إلى النهوض بها، ووضع سياسات اجتماعية تؤمن الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم، وتحمي الفئات العاملة من مخاطر الصرف الكيفي والبطالة، وتكبح الاعتداء على المكتسبات المتحققة، وفي مقدمها الضمان الإجتماعي وسواه من صناديق ضامنة، و توسيع الضمانات الصحية وغيرها من القضايا الأساسية.
تاسعاً ـ إن تنويع مصادر الاقتصاد يفترض رؤية مستقبلية تتلاءم مع الثورة الرقمية التي يشهدها العالم، وتشجيع الإنتاج الصناعي والزراعي وحمايتهما وزيادة الاستثمارات فيهما، إلى جانب تطوير القطاع السياحي، وإصلاح النظام الضريبي الحالي وإدخال تعديلات أساسية على ضريبة الدخل واتباع سياسة الضرائب التصاعدية على المداخيل والثروات، وترشيد الإنفاق الاستهلاكي في القطاع العام ورفع انتاجيته، ومكافحة الفساد المالي والاداري ووقف الهدر، ووضع حد لنهب موارد الدولة، ومعاقبة كل من يتجرأ عليها، ومصادرة الثروات الناجمة عن الفساد. وكل هذا من أساسيات استعادة حقوق الدولة والنهوض بدورها المجتمعي. إن تحفيز النمو وإعادة التوازن إلى الدورة الاقتصادية، ووضع رؤية تنموية شاملة ومتكاملة، تتضمن الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والحد من عجز الموازنة عبر رفع مستوى الجباية، ومعالجة التهرب الضريبي الذي يفوق الثلاثة مليارات دولار سنوياً، ووقف التوظيف التعاقدي والزبائني، ووضع حد للخصخصة العشوائية في قطاعات الكهرباء والخدمات العامة، إلى جانب تفعيل أجهزة الرقابة والإصلاح الإداري، وتشجيع الاستثمار في القطاعات المنتجة خاصة في مجال صناعة التقنيات والزراعة ومحتلف المشاريع الانمائية. وحماية صناديق التعاضد الضامنة… كل هذه تجعل الإنقاذ أمراً ممكناً.
عاشراً ـ لا تنفصل خطط الاصلاح الاقتصادي في شقها الداخلي، عن التطورات التي تشهدها المنطقة العربية. لأن الاقتصاد اللبناني لم يكن يوماً مكتفيا بسوقه الداخلية، بل كان الإطار العربي عاملاً مؤثراً في صعوده وازدهاره، كما في تراجعه وانحساره. لذلك فإن السياسة الخارجية للبلد وعلاقات لبنان مع الدول العربية تشكل عاملاً رئيسياً في البحث عن دور متجدد للاقتصاد الوطني ومعالجة أزمة تصريف المنتجات اللبنانية. لقد لعبت المواقف الطائفية الفئوية المغامرة لبعض القوى المحلية ذات الامتدادات الإقليمية ضد بعض الأقطار العربية، دوراً في تدمير قطاعات منتجة ومصدِّرة يعتاش عليها اللبنانيون، كما قادت عمليات تهريب المخدرات دورها في حجز الصادرات عن الوصول إلى الأسواق العربية. كما أنها هددت مستقبل العمالة اللبنانية التي تراجعت تحويلاتها المالية إلى لبنان، علماً أن عشرات ألوف العائلات باتت تعتمد كلياً، في ظل انهيار قيمة النقد الوطني على ما يرسله أبناؤها من تحويلات شهرية لمساعدتها على الصمود.
حادي عشر ـ إن عودة الروح إلى مؤسسات القطاع الخاص المصرفية والتعليمية والاستشفائية والخدماتية في شتى فروعها، لا يغني عن البحث دوماً عن تنويع مصادر الاقتصاد بما يؤمن العيش الكريم لجميع اللبنانيين. إن هذه المؤسسات وجرَّاء ما حل بها من نتائج كارثة الانهيار، بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة وتحديث قوانينها وتأمين قروض وحوافز لها كي تعاود القيام بدورها وطنياً واجتماعياً وعربياً.
ثاني عشر ـ أخيراً إن بدء عملية الإصلاح الاقتصادي يبقى أمراً مستحيلاً من دون وجود كتل شعبية مجتمعية ضاغطة من مواقع إنتاجية وقطاعية متعددة ومتنوعة. لقد حققت هذه الكتل مكتسبات اجتماعية لا يُستهان بها تاريخياً، كما فرضت إصلاحات اقتصادية مهمة بقوة الضغط السلمي الديموقراطي الذي مارسته الحركة الشعبية والنقابات العمالية والمهنية والديمقراطية. إن عودة النبض إلى هذه الكتل المؤثرة، يجب أن يكون أحد القضايا التي لا بد أن تعمل عليها قوى الإنقاذ والديموقراطية دون كلل أو ملل، بالنظر إلى وزنها الاجتماعي من جهة، وقدراتها بما تملكه من كفاءات شبابية وعلمية على قيادة عملية الاصلاح والنهوض التحديثية الفعلية للبلاد.
التقرير السياسي ــ التنظيمــي من المؤتمر الرابع إلى المؤتمر الخامس
تمهيد
شكل انعقاد المؤتمر العام الرابع ختام محطة أساسية في مسار المغالبة الذي خاضته منظمة العمل الشيوعي تنفيذاً لقرار الخروج من حالة الانكفاء المديد. وكان تتويجاً لمسار العودة المتدرجة الى ميادين الممارسة السياسية والنضالية، التي تزامنت مع انتفاضة العام 2015، وتتالت محطاتها في الانتخابات البلدية 2016 والنيابية 2018، وعبر العديد من الأنشطة الحزبية، وعودة مجلة “بيروت المساء” إلى الصدور بشكل منتظم قبل إعادة احتجابها في العام 2021، واصدار موقع “بيروت الحرية” الألكتروني. وقد شكل ذلك بداية امتحان لمدى أهلية البنية الحزبية للمنظمة، وحدود فعاليتها وقدرتها على العودة إلى ساحات النضال السياسي المعارض، بالاستناد إلى مضامين المراجعة النقدية لتجربتها منذ التأسيس مع كل نتائجها، واختباراً للبيئة الحاضنة لها ولمستوى تفاعل الوسط الديمقراطي معها.
ـ المؤتمر العام الرابع وتحدي تجديد الدور
بعد اختتام المؤتمر الرابع وبدء نشر الوثائق السياسية والتنظيمية الصادرة عنه، والتي تتضمن المبادرة الفكرية ـ السياسية نحو “حزب يساري ديمقراطي علماني”، وتوزيعها على العديد من القوى السياسية والحزبية والمؤسسات والهيئات والاوساط الديمقراطية وقطاع الاعلام المرئي والمسموع والمكتوب، انخرطت فروع المنظمة والمكتب التنفيذي في ورشة وضع مقررات المؤتمر وتوجهاته موضع التنفيذ. وكان ذلك من خلال انعقاد مؤتمرات الفروع الحزبية التي اقرت خطط عملها الخاصة، وأعادت تشكيل وحداتها وانتخاب هيئاتها تطبيقاً للنظام الداخلي.
ورغم الخسارة الكبرى التي أحدثتها وفاة الرفيق خالد غزال أمين سر المكتب التنفيذي، بعد أسابيع على انعقاد المؤتمر، بالنظر للدور المتميز الذي اضطلع به طوال تجربته الحزبية وخاصة في محطاتها الاخيرة، وعلى صعيد الإنتاج البحثي والسياسي والإعلامي، إلا أن الوفاة شكلت أيضاً مناسبة سياسية بامتياز، برّزت حجم المكانة والاحترام اللذين يحظى بهما الرفيق المناضل والمنظمة. لكن الخسارة لم تحُل دون متابعة مسيرتها النضالية.
وقد مثَّل مهرجان عيد العمال في أول أيار 2019، محطة لافتة في مسار تأكيد حضور المنظمة وتأكيد استقلاليتها. كما ساهمت أيضاً في استنهاض الرفاق والاصدقاء، وفي إعادة تجديد نشاطهم بين الاوساط الديمقراطية والنقابية المستقلة. وتلا ذلك الزيارة التي شارك فيها حشد كبير من الرفاق والاصدقاء من مختلف المناطق إلى أضرحة شهداء المنظمة تكريماً لهم في بنت جبيل وباقي المناطق بمناسبة 25 ايار، ذكرى تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي، مما كان له أصداء إيجابية على أكثر من صعيد.
كذلك تحولت مناسبة العشاء السنوي، التي دأب فرع البقاع على تنظيمها منذ سنوات، إلى حدث سياسي مميز على صعيد المنطقة، من حيث كثافة المشاركة للرفاق الحاليين والسابقين والاصدقاء، بالإضافة للأوساط الديمقراطية المستقلة. وكانت محطة للإدلاء برأي ومواقف المنظمة حول بعض القضايا الفكرية والسياسية، ما أثار سجالاً سياسياً مهماً وردود فعل ايجابية وسلبية في آن، حول وضع المنظمة ودورها.
كما شكَّلت ذكرى انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية في ايلول 2019، والمهرجان المركزي الذي أقامته المنظمة بالمناسبة في قب الياس ـ البقاع، تكريماً لشهدائها وللرفيق خالد غزال باعتباره أحد قادتها البارزين، محطة هامة من حيث المشاركة والحشد، وعلى صعيد الكلمات. هذا بالإضافة إلى اللقاء التكريمي الذي أقيم في المنية في المناسبة ذاتها، بدعوة من رفاق الشمال تكريماً لشهداء المنظمة، والذي شكَّل إعلاناً عن عودة المنظمة إلى ميدان الممارسة السياسية في هذه المنطقة بعد غياب طويل.
وإذ واكبت المنظمة مع مطلع العام 2019، الحراك الشعبي للإنقاذ، وكانت مشاركتها لافتة في التظاهرات الثلاث التي دعي لها مركزياً، وفي بعض المناطق. غير أن هذا التحركات عكست أزمة قوى المعارضة وهامشية بنيتها ودورها في مواجهة سياسات وممارسات منظومة السلطة وتنظيماتها الميليشياوية وصراعاتها التي تدفع الوضع نحو حافة الإنهيار. غير أن اعتراضاتنا وملاحظاتنا النقدية حول قصور المبادرات التي أُطلقت تحت راية الحراك الشعبي، لم تفلح في دفع تلك القوى إلى تغيير الأداء ووجهة البحث والنقاش حول أزمات البلد. الأمر الذي انتهى إلى رفض المنظمة مشاركة الأطراف الأخرى طموحاتها في إعادة إنتاج نسخة مشوّهة للحركة الوطنية السابقة من حيث الصيغة والخطاب والبرنامج، في سياق لا صله له بما كان. سواء لناحية غياب الحركة الاجتماعية التي شكلت رافعة الحركة الوطنية وبرنامجها الاصلاحي، أو اختلاف أوضاع البلد وصيغة النظام وأزمته وطبيعة منظومة السلطة وسياساتها.
ـ المنظمة والإنتفاضة
تزامن وضع استحقاق المؤتمر الخامس أو التأسيسي على جدول أعمال المكتب التنفيذي والبدء بإعداد هياكل موضوعاته، مع تفاقم أزمات البلد على الصعيدين السياسي والاقتصادي ـ المالي. واحتدام الاشتباك بين اطراف السلطة داخل الحكومة التي تشكلت بعد الانتخابات لتنفيذ مقررات مؤتمر “سيدر” والبنود الاصلاحية. ما أدى إلى اختناق الوضع وانفجار انتفاضة 17 تشرين الاول 2019.
وضعت الانتفاضة البلد أمام مرحلة جديدة من الأزمات وشرّعت الصراع ضد قوى السلطة في مواجهة مفتوحة طالت كل المناطق. كذلك ومنذ ساعاتها الأولى، كانت المنظمة أمام تحدي التفاعل معها والمشاركة فيها. بدءً من شكل الحضور والإسم، إلى التعريف بها بعد انكفاء وطول غياب. كما واجه الرفاق الكثير من الأسئلة حول وضعها وإسمها وأسباب غيابها وعلاقاتها. بالإضافة إلى العديد من التساؤلات حول وجودها وخطها ومواقفها من قضايا البلد وأزماته، بما فيه تجربتها ودورها في الحرب الأهلية. وقد بدا الرفاق أحياناً كثيرة وكأنهم بحاجة إلى من يعرِّف عنهم، بقدر حاجتهم للتعرف على الآخر. كان الأمر يوازي من حيث الأهمية أولوية تجديد إنتسابهم إلى قضايا البلد، والتفاعل معها من مختلف بواباتها وميادينها الواسعة والمشرّعة امامهم.
لقد تميزت مشاركة المنظمة المتدرجة في أنشطة الانتفاضة وساحاتها، أنها كانت محصّنة بما يكفي من الوعي في مواجهة الأوهام والتبسيط والاستسهال في طرح الشعارات. مستندة إلى مراجعتها النقدية للتجربة السابقة، وبما تملكه من الصواب الإجمالي في قراءة أزمة البلد وطبيعة النظام وأوضاع قواه، وما تنطوي عليه مشاريعها الفئوية وولاءاتها الخارجية من إشكاليات ومخاطر، بالإضافة إلى فهم المنظمة الخاص لأوجه أزمات اليسار هوية ودوراً وموقعاً وقدرة.
كما رأت المنظمة في حالة التخبط والإرتباك التي سادت ساحات الانتفاضة وميادينها، انعكاساً لحالة التفكك المجتمعي، وهامشية القوى والمجموعات المشاركة فيها، بما فيها المعارضة الديمقراطية واليسارية الموروثة المقيمة وسط أزماتها المزمنة. وأمام استسهال طرح الشعارات والبرامج والمطالب وارتجال التحركات، فقد تميَّز أداء فروع المنظمة اجمالاً في اعقاب تجاوز لحظة الارتباك، بالتفاعل الايجابي وثبات الحضور ومشاركة الأصدقاء والرفاق السابقين. إلى جانب الجرأة في اطلاق المواقف والمبادرات المحدودة، وتنظيم الندوات في ساحات الانتفاضة أو المشاركة فيها، سواء في بيروت أو في سائر مناطق التواجد الحزبي دون استثناء.
ومع ثبات مشاركة المنظمة أصبح حضورها ووجودها السياسي في الميدان أمراً مسلماً به من غالبية القوى والمجموعات الناشطة. ما أتاح الفرصة امام الرفاق لإقامة أوسع علاقات التعارف والتواصل مع الآخرين، ومن ثم المشاركة في اللقاءات والاجتماعات التي تبحث في شؤون الانتفاضة وقضاياها وفي الأطر التي تقرر التحركات. وقد افسح ذلك في المجال لتقديم رؤى ومواقف المنظمة من مختلف القضايا والمسائل المطروحة، والانخراط في الحوارات والمناقشات بشأنها، ما سمح بتوسيع دائرة العلاقات والانفتاح على مختلف الاوساط والمجموعات، وسط تقدير ايجابي اجمالاً لطروحاتها ومواقفها واستقلاليتها، حيث كانت موضع ترحيب في غالبية اللقاءات والأطر قيد التشكل. الأمر الذي ساهم في تجاوز بعض مفاعيل فترة الإنكفاء المديد.
لقد تحولت خيم المنظمة ومشاركة أعضائها، مصدر تفاعل وحوار وسجال حول قضايا البلد وأزماته، إضافة إلى شؤون الانتفاضة ومشكلاتها وسط التحديات والصعوبات. خاصة مع بدء تراجع المشاركة العامة في الساحات والتحركات، والتي اقتصرت بعد اسابيع على مجموعات وأعداد رمزية من النشطاء. في موازاة تصاعد وتيرة القمع الميليشياوي وتزايد ممارسة العنف والشغب واستغلالهما من قوى السلطة وأجهزتها، قبل أن تُزال الخيم بالقوة في اعقاب نيل الحكومة الثقة تحت ذريعة انتشار وباء كورونا.
ـ حول رحيل الأمين العام
مع تطور انتشار الوباء مطلع 2020 وما رافقه من ارتباك في انتظام الاجتماعات والمتابعة الحزبية، بالتوازي مع تسارع الانهيار العام الذي أصاب البلاد على جميع المستويات، كانت وفاة الأمين العام للمنظمة المناضل محسن ابراهيم أوائل شهر حزيران 2020. والتي شكلت خسارة كبرى بالنسبة للمنظمة، بالنظر للموقع والدور الذي شغله طوال عقود، على صعيد الوطن العربي وفي تاريخ الحركة القومية العربية الحديثة في مختلف محطاتها منذ مطلع الخمسينات، خصوصاً على صعيد القضية الفلسطينية. وتبعاً لدوره الرائد في نهضة اليسار الحديثة وتأسيس المنظمة وقيادة تجربتها تنظيماً يسارياً مناضلاً ومستقلاً. معطوفاً على الموقع الذي شغله بجدارة في قيادة الحركة الوطنية اللبنانية في مختلف مراحل تجربتها في إطار أزمة البلد الكيانية على مختلف الصعد السياسية والوطنية، وخلال الحرب الأهلية، كما في مواجهة الاجتياح الاسرائيلي للبنان صيف العام 1982، وطوال أشهر الحصار للعاصمة قبل احتلالها، ومن ثم في اطلاق خيار المقاومة الوطنية اللبنانية مشروعاً للتحرير والتوحيد والديمقراطية بديلاً عن الحرب الأهلية، إنتهاءً بالمراجعة الفكرية السياسية البرنامجية النضالية والتنظيمية لليسار والمنظمة على وجه التحديد، والخلاصات التي انتهت إليها بما فيها إعادة قراءة بُنى البلد على جميع الصعد، ومعها عوامل الاتصال والتداخل مع محيطه العربي. وهي المراجعة التي مثلت خطوة هامة واستثنائية في تاريخ البلد وعالم اليسار في سياق محاولة التجديد التي تنكب أعباءها منفرداً، وصولاً إلى إرساء ملامح وتوجهات المشروع اليساري الجديد للمنظمة، وقيادة ورعاية التحضيرات له، ومراحل إعداده الممهدة لانطلاقته عبر المؤتمرين الثاني والثالث.
ورغم الخسارة الكبرى، فقد تحولت الوفاة حدثاً سياسياً عربياً وفلسطينياً ولبنانياً عبر استحضار دور الرفيق في مختلف المحطات والمراحل خاصة على الصعيد الفلسطيني واللبناني الوطني والديمقراطي واليساري، ودور المنظمة وتجربتها وصولاً إلى وضعها الراهن، سواء لناحية مواكبة التشييع والتعزية، أو لجهة ما كتب ونشر في المناسبة. وقد شكلت استجابة المنظمة قيادة وأعضاءً في التعامل مع الحدث على مستوى عال من المسؤولية حول مختلف الموجبات المترتبة، محطة مهمة ساهمت في إبراز حضورها ووجودها، وعكست مدى التقدير والاحترام الذي تحظى به، والذي انعكس من خلال التعامل معها بالمستوى اللائق الذي يشرِّف المنظمة وقيادتها وتاريخها النضالي في مختلف المحطات ويؤكد حضورها الراسخ ودورها المتجدد.
ـ عوامل ومرتكزات صمود المنظمة
ولدى التدقيق في النتائج الايجابية المتحققة بعد المؤتمر الرابع، وعبر المشاركة في الانتفاضة والتي يمكن وضعها في خانة الإنجاز الإستثنائي، بالنظر إلى حدود الإمكانات واوضاع البُنية الحزبية، في ظل الصعوبات القائمة، تتبدى العوامل والملاحظات التالية:
اولاً: تحول المكتب التنفيذي مرجعية قيادية حزبية، أكدها الدأب الذي ميَّز نشاط الرفاق بحكم أدائهم في المتابعة السياسية والتنظيمية كما على الصعيد النضالي، خاصة لناحية إبقاء جميع الملفات على طاولة الوضع الحزبي باعتبارها قضايا اساسية، تتطلب المتابعة وبذل الجهد بشأنها، إلى جانب الاستحضار الدائم لمقررات المؤتمر، لتقييم ما أُنجز منها، وما يجب استكماله رغم كل التحديات والصعوبات والأسئلة.
ثانياً: انتظام صدور المجلة شهرياً وسط المغالبة في مواجهة تحديات الإصدار تحريراً وتوزيعاً وتأمين موارد. وما يوازي ذلك من تطور ملموس في مستوى مقاربة القضايا والموضوعات. مما كان له نتائج ايجابية بالنسبة للمنظمة وفي الأوساط الصديقة الحاضنة والمواكبة لها والمتفاعلة مع ما يصدر عنها سلباً وايجاباً.
ثالثاً: منذ انعقاد المؤتمر العام الرابع 2018، تميزت المنظمة بمواكبة الأحداث والتطورات الأساسية عربياً ولبنانياً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ونضالياً وفي مواجهة القمع والتضييق على الحريات العامة والديمقراطية، من خلال البيانات التي دأبت على إصدارها تعبيراً عن رأيها فيها ومواقفها منها، ما جعلها موضع اهتمام ومتابعة ونقاش وحوار.
رابعاً: إن المواقف التي اعتمدتها المنظمة سواء عبر البيانات أو الندوات أو المقابلات الاعلامية، تميزت بالدقة والجرأة والموضوعية في تناول القضايا. كما شكل استعدادها للانفتاح على قوى وأوساط جديدة مدخلاً للعلاقة بها وللحوار والتفاعل معها، بالقدر الذي شكلت فرصاً للتعريف بالمنظمة وتوجهاتها ومواقفها طرحاً وسجالاً ونقداً موضوعياً متقدماً، ما بات سمة معترف بها من جانب الكثيرين.
خامساً: إن قضية المؤتمر تحضيراً وانعقاداً، قد استمرت بنداً دائماً على جدول اهتمامات المكتب التنفيذي وأعماله. ولذلك لم يتوانَ عن بذل الجهد بشأن التحضير وتوفير الامكانات والظروف الذاتية الملائمة لإنجاز الانعقاد باعتباره مهمة تأسيسية ديمقراطية في عالم اليسار والحياة السياسية.
ولذلك وإلى جانب محاولات فتح قنوات حوار مع بعض المجموعات التي تدعي الانتساب إلى عالم اليسار والديمقراطية والعلمانية، أو إلى موقع المعارضة المستقلة، ورغم أن المحصلة لم تكن وفق الآمال المعقودة عليها، فإن المكتب التنفيذي سعى جاهداً للالتزام بالموعد المقرر لعقد المؤتمر، لكنه اصطدم مراراً بالتطورات والمستجدات أو الاوضاع الاستثنائية الطارئة سواء على الصعيد العام السياسي أو الاجتماعي والصحي (تفشي الوباء وانتشاره) أو في ميدان الوضع الحزبي.
ـ تحدي التجديد وانعقاد المؤتمر اتصالاً بأزمات البلد
لقد أنجز المكتب التنفيذي هياكل قضايا المؤتمر قبل انتفاضة 17 تشرين تحضيراً لصياغة مشاريع الوثائق. لكنه أعاد تعديلها مع تراجع الانتفاضة وخروجها من الساحات، وفي ضوء المستجدات في أوضاع البلد جرّاء تصاعد الانهيار الاقتصادي والمالي وانتشار الوباء. وآخذاً بنظر الاعتبار لشتى النواحي والمعوقات والحاجات والضرورات المتوجبة والتي لا يمكن القفز فوقها أو تجاهلها. بما فيها التدقيق في العوامل والأسباب التي تستدعي تحقيق الإنجاز، أو التريث لتأمين أفضل الضمانات الممكنة لنجاح الخطوة.
غير أنه وفي أعقاب وفاة الامين العام منتصف العام 2020، أعاد المكتب التشديد على أهمية تهيئة كل الظروف وتوفير الشروط اللازمة لانعقاد المؤتمر العام الخامس قبل منتصف العام 2021. وعليه جرى الطلب من اللجنة التحضيرية المباشرة في صياغة مشاريع الوثائق المطلوبة على أن يتولى المكتب تحديد آليات النقاش وانتظام الإعداد للانعقاد.
وفي هذا السياق وفي ضوء المستجدات والتطورات، وضمن إطار التحضير للمؤتمر، بدت الحاجة ملحة لتجديد النقاش حول مختلف القضايا المتعلقة بشؤون المنظمة وشجون البلد، في ضوء مضاعفات الانهيار المتمادي، وفي ظل تصاعد المخاطر وانفجار الأزمات التي تعصف به على أكثر من صعيد، ما يضعه أمام مفترق صعب؛ بفعل الانهيار العام وشلل مواقع السلطة ومؤسسات الحكم، وتسارع تفكك البنية اللبنانية وانهيارها سياسياً واقتصادياً ومالياً. وسط تجذر الانقسامات الاهلية والطائفية المشرعة على خطر انفجار الحرب الأهلية، على رافعة مأزق مشاريع الهيمنة الطائفية وتحكم قواها بالبلد والحكم ومؤسسات الدولة، وسط الاصرار على ربط لبنان بأزمات المحيط المتفجرة. وقد عزَّز تلك الحاجة، وضع البلد الصعب في ظل الحصار السياسي والاقتصادي ـ المالي، بالتزامن مع استمرار التهديدات الاسرائيلية المتلاحقة، في سياق الانفراد الاميركي في إدارة الحروب المندلعة في الجوار، وتوسيع مساحات نفوذها وسيطرتها وانجازاتها في التطبيع مع الكيان الاسرائيلي، ومحاصرتها للقضية الفلسطينية. وفي ظل رفض قوى السلطة، خاصة الأساسية منها تقديم التنازلات في سبيل تسوية تُوقف الانهيار، وتُفسح في المجال أمام انقاذ البلد وإخراجه من الهاوية.
لقد تناولت المناقشات الانتفاضة وأوجه أزمتها المتعثرة، وحضور المنظمة في ساحاتها منذ لحظة انطلاقتها والمشاركة في انشطتها، والتفاعل مع مجموعاتها حول قضاياها، بما فيها الأطر التي تمت إعادة تشكيلها مراراً وتكراراً. أخذاً بنظر الاعتبار الطروحات الاختزالية والتبسيطية حول أوضاع البلد وعوامل أزماته الموروث منها والمستجد، واحتدام انقسام المجتمع، وسط استسهال قضية التغيير من قبل البعض، والاستخفاف بالبُعد الطائفي ومخاطره المتجذرة والمفتوحة دوماً على الاستقواء بالخارج والارتهان لقواه. بالاضافة إلى ما رافق ذلك من الأوهام التي ساهمت في تبديد احلام المنتفضين، وإشاعة اليأس بين صفوفهم ودفعتهم إلى الارتداد للبحث عن مخارج لمتاعبهم ومشكلاتهم اليومية. فيما كانت قوى السلطة تتابع ما هو دأبها من سياسات وصراعات.
كذلك حضرت في المناقشات قضايا اليسار المأزوم بمختلف تشكيلاته الحزبية الموروثة ومعها المجموعات التي تدعي وصلاً به، وانعكاسات ذلك على الانتفاضة، والفشل في التوصل إلى برنامج وخطط عمل واقعية حيال الأزمة تستهدف التفاعل مع الفئات الاجتماعية المتضررة من أجل تشكيل كتلة شعبية فعلية ووازنة تحت راية الانتفاضة، والعمل على تمكينها من ممارسة أشكال من الضغط المتنامي في مواجهة قوى السلطة وسياساتها والتأثير فيها تعديلاً او تغييراً.
ـ أزمة المنظمة الراهنة وتحديات بناء موقعها الإجتماعي
إن الدأب في تجديد وعي المنظمة لأوجه أزمتها، شكل حافزاً دائماً لتطوير طروحاتها وجعلها أكثر راهنية من خلال تعميق قراءتها للوضع القائم والمستجد، كي يبقى ضمانة للصواب الإجمالي لناحية وضوح الخط ودقة الموقف. وهذا ما عكسته مجلة المنظمة والبيانات الصادرة عنها وموقعها الألكتروني. مما ابقاها موضع تقدير وتفهم لطبيعة أدائها ودورها، رغم محدودية قدرتها على التأثير في مسارات الانتفاضة، لأن المنظمة ليست خارج الأزمة العامة لليسار، وإن اختلفت صيغ تمظهرها وتعبيراتها لديها عن سواها من الاطراف.
و مما لا شك فيه أن الانتفاضة قد أكدت أن الأمور ليست مقفلة رغم مضاعفات الانهيار، وما تسبب به من تحديات وصعوبات. وإذ بيّنت بالإجمال أهمية وصواب توجهات المنظمة الفكرية والبرنامجية والسياسية العامة، فإنها برّزت أيضاً هامشية بنيتها الحزبية وحدود قدرتها وطبيعة مشكلاتها، سواء لناحية ترجمة ما لديها طرحاً وسجالاً ونقاشاً، أو لجهة ما يتطلبه ذلك من تطوير للكفاآت والإمكانات والقدرة في الانفتاح على أوساط جديدة، والعمل على ترسيخ وتوسيع ميادين ممارستها النضالية. وذلك في ظل التحديات والصعوبات التي لا يمكن تجاهلها أو الهروب من موجباتها وأحكامها، وتحديداً بالنسبة لأولوية الاتصال والتواصل والتفاعل مع بُنى المجتمع وقطاعاته وبذل ما تستحقه من جهد. والتي تكمن أهميتها في كون اليسار اولاً وأساساً، هو تعبير عن مصالح الموقع الاجتماعي ـ الطبقي الذي ينتسب له ويشكل مبرر وجوده.
ورغم أن أزمة المنظمة هي انعكاس لمأزق أوضاع البلد في سياق أزماته المتوالية فصولاً. فقد نجحت في تجديد حضورها وتخطي الكثير من صعوبات الخروج من الإنكفاء، أخذاً بنظر الاعتبار اختلاف السياق الراهن لوضعها عما كانت عليه قبل المؤتمر الرابع، خصوصاً مع تبدل أولوياتها، وفق قواعد الصمود والثبات في الموقع المستقل، والمحافظة على نزاهة المسلك والأداء، واطلاق مسيرة التعريف بها موقعاً وهوية ومواقف وتوجهات سياسية، على طريق دق ابواب الممارسة وفق امكاناتها المتواضعة، مما أعطى مشاركتها في الانتفاضة دفعاً ووزناً مهمين، وأتاح لها فرصاً كان يصعب توافرها في الظروف العادية، وقد احسنت، وإن بنسب متفاوتة، الإفادة منها تبعاً لأوضاع الفروع والمناطق والرفاق.
ولأن الاولوية الدائمة كانت ولا تزال للتخفف من أعباء المرحلة السابقة، هوية وخطاً واسماً، وتصفية الحساب مع ما هو موروث ومتحدر من أشكال الوعي السابق، والتي لا تزال تشكل عوائق في مسار تقدم المشروع الحزبي. فقد بقيت قضية عقد المؤتمر بكل مندرجاتها تحظى بالأولوية باعتبارها المهمة الرئيسية التي يتطلب إنجازها تأمين شروط تحققها دون إبطاء أو تسرّع، ووفق قواعد الديمقراطية في صفوف المنظمة ومع المحيط في آن. وهو التحدي الذي قررت المنظمة إلتزام موجباته، وفق ما نصت على وجهته المبادرة الفكرية البرنامجية التي أقرها المؤتمر والتي جرى التحصُّن بها.
ولذلك فإن مسار التحضير مع نهاية العام 2020 ومطلع 2021، ورغم الخسارة الجسيمة بوفاة الرفيق محمد مروة (أبو حسن) نظراً لاهمية دوره التاريخي ومساهمته في عمل المكتب وفرع الجنوب، فإن إعداد النصوص وتحديث هياكل الوثائق، كان الحافز الاساسي لتنظيم المناقشات التي اخذت الحيز الأكبر من جهد المكتب، حول كل ما يتعلق بشؤون المنظمة قيادة وفروعاً، واستحضار محطات المرحلة التي أمكن اجتيازها بإرادوية وتحدٍ للذات وحماس، في مواجهة الصعاب والمعوقات في شتى المجالات. أخذاً بنظر الاعتبار واقع ومآل الحركة النقابية والديمقراطية وما أصابها من انهيارات مضاعفة، وحلَّ ببقاياها من أعطاب، ووسط حاجة المنظمة لتجديد قراءتها لوضع بُنى المجتمع وقطاعاته كافة، في ضوء النتائج المدمرة لسياسات قوى السلطة وممارساتها في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية. وذلك بهدف تجديد راهنية توجهاتنا البرنامجية والخططية في سياق مهمات إعادة بناء الموقع الاجتماعي قطاعياً ومناطقياً.
ـ الصعيد التنظيمي كوجه رئيسي لأزمة المنظمة راهناً
لقد حضر الصعيد التنظيمي بنداً دائماً ضمن جداول أعمال المنظمة وهيئاتها، بدءاً من المكتب التنفيذي، وسعيه لتثبيت دوره مرجعية قيادية على الصعيدين السياسي العام والتنظيمي، من خلال العمل لتطوير أشكال المتابعة وتعميق الوعي لدور المنظمة وخطها بالعلاقة مع أزمات البلد، وتنمية القدرة على المشاركة في مواجهتها والتعامل معها بجدارة، وبذل الجهد لترقية التحصيل والوعي السياسي لدى الجسم الحزبي. مما كان له نتائج ايجابية رغم ضآلة المردود التنظيمي في مجال التوسع والكسب الحزبي، والذي غلب عليه استعادة أعداد لا بأس بها من الرفاق السابقين لعضويتهم الحزبية في شتى المناطق، وعودتهم للانتظام ضمن الاطر التنظيمية. في مقابل كسب الغالبية الساحقة منهم أصدقاء، والذين يمكن اعتبارهم ضمن البيئة الحاضنة التي يجب الحرص عليها واستمرار التواصل معها. وقد برز إلى جانب أعضاء المكتب عدد لا بأس به من الكادرات المؤهلة على الصعيدين السياسي والتنظيمي.
ولأن البنية الحزبية الحالية يطغى عليها الكهولة وقلة العناصر الشابة، ورغم الصلابة النضالية فقد كانت الهامشية الاجتماعية، عائقاً أساسياً أمام الكسب الحزبي، بالنظر للعدد الضئيل من الرفاق ذوي الخبرة والتجربة في النضال الاجتماعي القطاعي والمناطقي، وغلبة الجانب النضالي المتصل بمهام الحرب الأهلية والمقاومة الوطنية، اضافة للانعكاسات السلبية التي تسببت بها مرحلة الإنكفاء الطويل على أوضاعهم. والتي تشكل بمجملها صعوبات ذاتية تضاف إلى الأوضاع العامة القاهرة على الصعيد المعيشي، والتي تحولت عوائق فعلية حالت دون تحقيق إنجازات تذكر في مجال النمو والتوسع الذي استمر يعاني من عسر شديد. وعليه لا بد من إعادة تقييم وسائل وأطر التواصل وأساليب العمل والتخاطب، بما يجعلها أكثر ملاءمة وتأثيراً وقدرة على الاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة نظراً لتبدل المعطيات. خاصة وأن ذلك يشكل عاملاً مقرراً للنمو الحزبي، وفي إعادة استنبات وتأسيس الموقع الاجتماعي للمنظمة، بصفته الركيزة الرئيسية لتجديد مسيرتها وتطوير دورها وفاعليتها.
ـ واقع حال الفروع الحزبية
في سياق التقييم الأولي لواقع حال الفروع الحزبية هيئات ووحدات، وبالاستناد إلى المتابعة الحزبية لعملها ومساهماتها السياسية والنضالية بما فيها مشاركتها في الانتفاضة ومتابعة تنفيذ خطط عملها الحزبي، بالاضافة إلى نتائج محاولات التواصل مع الرفاق السابقين خاصة في الجبل، حيث أمكن استعادة وضع حزبي منتظم، وآخر مرشح للانتظام. وإلى جانب ذلك تمَّ استعراض وضع أطر العمل الديمقراطي والنقابي، المتمثلة في التجمع النسائي الديمقراطي وما هو متحقق من تطور وتقدم على صعيد النشاط والدور وسط الصعوبات القائمة وحدود النمو الحزبي. فيما عانى تجمع الشبيبة الديمقراطي من مراوحة وعدم انتظام عمل هيئته القيادية والفروع، دون أن يلغي ذلك مشاركتهم الواسعة في انشطة الانتفاضة. وإذ ساهم الانهيار ومضاعفاته وانتشار الوباء في عدم معالجة الوضع السلبي في الإطارين المذكورين أعلاه، فإن غياب التجربة لدى أعضاء تجمع الشبيبة هيئة قيادية وفروعاً حال دون انتظام العضوية. في موازاة ذلك حضرت القطاعات النقابية لمناسبات انتخابية بشكل موسمي على نحو محدود سواء التعليمي أو الطبي والمهندسين والجامعي فيما غابت في بقية القطاعات.
ـ ترصيد حساباتنا وتوجهاتنا وميزان القوى
وفي ميدان ترصيد الحسابات سواء على الصعيد السياسي وحضور المنظمة العام، أو في ميدان القول والتعبير سواء عبر التحليل النقدي، أو البيانات الصادرة حول مختلف قضايا الوضع اللبناني بكل مندرجاته، وشؤون الوضع العربي من بوابتيه الفلسطينية والسورية وعلى نحو عام، والتي شكلت لنا مصدر حصانة سياسية بعيداً عن العدمية أو التضخيم والاستسهال.
لقد استهدف النقاش في ضوء الانجازات، تحديد الأولويات الراهنة، مدخلاً لاشتقاق توجهات الخطة الحزبية التي تنطلق من ميزان قوى غير ملائم، رغم محاولات تجاوزه بشكل متدرج وتراكمي. وقد استدعى ذلك تجديد قراءة واقع البنية الحزبية ومعضلاتها الموروثة في ضوء الاختبار، والعمل على ايجاد نقطة التوازن بين حدود الوعي المتحقق وسبل تعميقه، وحدود الإمكانات بالمقارنة مع الحاجات. بالإضافة للتمييز بين حاجات التنظيم والقدرة على النشاط والعمل الحزبي الذي يختلف عن العلاقات العامة. والذي يتطلب عدم الإكتفاء بالمتابعة والتحليل السياسي العام، والتوجه نحو استهداف ردم المسافة القائمة بين الوعي والممارسة السياسية الممكنة والمجدية في آن. أخذاً بنظر الاعتبار حجم الفعالية الحزبية القابلة للتوظيف بشكل متوازن في أولويات مشروعنا الحزبي بالنسبة إلى:
أ ـ أولوية السجال الفكري السياسي
وذلك انطلاقاً من حسم مبررات وجودنا كمشروع حزبي يساري مستقل، يسعى لتطوير وتعميق توجهات الهوية الفكرية والخط السياسي. وتحديث التوجهات البرنامجية بكل مستوياتها. بما فيه تعزيز التوجه التنظيمي الديمقراطي وترقيته عبر الممارسة الحزبية، في ظل وعي الصعوبات وتحدي السيطرة عليها لتجاوزها. إلى جانب تحدي الانتقال من التحليل النقدي إلى السجال المفتوح الذي يغطي ميادين الحوار الممكن والمجدي وقضاياه وأولوياته، سواء على صعيد القضية الوطنية في الاطار المحيط الموضوعي، أو لناحية قضية الديمقراطية في مواجهة التضليل والانقسام الاهلي.
ب ـ أولوية تجديد الإنتساب إلى الموقع الإجتماعي
في هذا المجال كان التشديد دوماً ينصب على وعي أننا امام أولوية شاقة جداً وسط ظروف صعبة وإمكانات شحيحة، لكنها تحتل أهمية استثنائية لإعادة بناء وتأسيس الموقع والوزن الشعبي للتنظيم. الأمر الذي يفرض متابعة النقاش حول واقع التفكك والتشرذم في ساحة الوسط اليساري والديمقراطي الشعبي الراهن، والعلاقات ضمنه وموقعنا فيه، انطلاقاً من الحاجة لإعادة تجديد حضوره ودوره بالعلاقة مع قضايا البلد وما يحتشد فيه من أزمات. انتهاءً بإعادة انتاج علاقاتنا بهذا الوسط ووفق أية آلية.
ومن ناحية ثانية وبالأهمية عينها، تقع قضية تجديد وعينا للمسألة الاجتماعية والكتلة الشعبية وإشكالية إعادة بنائها، بالعلاقة مع أوضاع الفئات المتضررة واصحاب المصالح المشروعة في ظل الانهيار الذي طال الصعيدين الاقتصادي والمالي ومضاعفاتها الكارثية. الأمر الذي يتطلب تحديث قراءة البُنية الاجتماعية وفهم أوضاعها ووعي مشكلاتها وقضاياها الراهنة لتحديد اولويات العمل ضمنها ومعها. وذلك بالتوازي مع تجديد علاقاتنا بها ومعها في أماكن تواجدنا، في إطار إعادة بناء الموقع الاجتماعي بعيداً عن الشعارات والبرامج الفوقية المستوحاة من الارشيف.
ج ـ أولويـة النمو الحزبي
في ضوء ما أنجز وفي امتداد أولويتي السجال الفكري، وتجديد الانتساب للموقع الاجتماعي، تقع أولوية النمو الحزبي التي تتطلب جهداً جماعياً لزيادة حجم ووزن المنظمة، والعمل على كسر استمرارنا بالدوران في الحلقة المفرغة. ما يستدعي التوجه إلى أصحاب المصالح الاجتماعية المستباحة أو المهدورة. وتطوير علاقاتنا بالوسط الشعبي الديمقراطي، بشكل متدرج وواقعي، وتوزيع الامكانات بالعلاقة مع الأولويات والحاجات بشكل متوازن.
وبما أن المناقشات كانت في إطار التحضير للمؤتمر، ووفق الأهداف المرجوة والمأموله منه، فقد كان من الطبيعي أن تحضر كل الجوانب التي تتعلق بمدى وعي وقدرة وأهلية الجسم الحزبي لموجبات التأسيس، والاضطلاع بها والتعامل معها بالجدية والمسؤولية اللازمتين. وذلك استناداً لواقعنا وقدراتنا الذاتية وللوضع الموضوعي القائم وما يتيحه لنا من فرص، وما يقدمه من معطيات ايجاباً وسلباً. ولأن المؤتمر هو تتويج لمسار تراكمي متعدد الأوجه ومتنوع، كان لا بد من تكثيف وتزخيم الجهد الحزبي نحو الانجاز، رغم الصعوبات وضمن الفترة المحددة والتي يجب الا تتجاوز نهاية العام 2021.
وعليه كان الطلب من اللجنة التحضيرية المباشرة بإعداد مشاريع النصوص المقررة واحالتها تباعاً للهيئات والفروع والوحدات الحزبية لمناقشتها. أما نتائج المناقشة وما تضمنته من توصيات واقتراحات على صعيد العمل الحزبي بالعلاقة مع الاولويات، وبعد التداول بشأنها في اجتماع موسع مع هيئات الفروع واطر العمل الديمقراطي فقد تمت إعادة صياغتها. ومن ثم جرى تعميمها على الفروع كافة لمناقشتها تمهيداً لعقد مؤتمرات فرعية في سبيل تقييم أوضاعها وعملها، انطلاقاً مما هو متحقق سياسياً وتنظيمياً واستخلاص النتائج وصياغة واقرار خطط عمل خاصة بها. وهو ما تحقق مطلع صيف 2021، ومتابعة تنفيذ ما ترتب على ذلك من خطط عمل ومهام وفق ما هو متاح في ظل تجدد انتشار الوباء وتسارع الانهيار العام والشامل على نحو كارثي.
ـ إعــــلام المنظمة
وفي امتداد ترصيد الحسابات، فإن اعلام المنظمة أخذ حقه من الاهتمام، ورغم التقييم الايجابي لانتظام صدور مجلة “بيروت المساء”، وتجاوز تحديات الإصدار تحريراً وتوزيعاً وتأمين موارد على نحو ملموس. غير أنه وفي أعقاب وفاة الأمين العام وتوقف الاصدار الورقي للمجلة لأسباب تتعلق بملكية الامتياز والمسجلة بإسمه، ورغم الإكتفاء بالإصدار الألكتروني مؤقتاً، بصرف النظر عن ارتفاع تكاليف الطباعة الورقية، وصعوبات التوزيع في ظل انتشار الوباء، ومتابعة ما كان منه عبر الفروع الحزبية. فإن المكتب التنفيذي قرر العمل على اصدار موقع الكتروني، وسيلة اعلامية خاصة بالمنظمة، بعد الحصول على علم وخبر رسمي، تحت اسم “بيروت الحرية” الذي بدأ العمل به مطلع شهر كانون الاول الفائت.
سريعاً استطاع الموقع التعويض عن توقف اصدار مجلة “بيروت المساء” وتأمين الحضور الاعلامي للمنظمة سواء عبر ثبات التعبير السياسي حول قضايا الوضع اللبناني من مختلف جوانبه بما فيها الاقتصاد والاجتماع وأوضاع القطاعات المهنية وشؤون الثقافة، إلى جانب انتظام مساهمات جادة من قبل بعض الرفاق والاصدقاء في أكثر من ميدان. وقد تأكد نجاح الموقع رغم شح الامكانات سواء على صعيد التحرير أو المتابعة لمنشوراته. كما من خلال الملف الخاص الذي تمَّ إعداده في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الامين العام، والذي شارك فيه عشرات الشخصيات السياسية والحزبية والديمقراطية والثقافية لبنانياً وفلسطينياً. ومع تحول الموقع موضع اهتمام ومتابعة ساهم في تنميته جهد الرفاق، تستمر الحاجة لتطويره وتوسيع مساحات انتشاره، بما يوازي مستوى وتعدد المواضيع المنشورة على صفحاته. الأمر الذي لا بد وأن يبقى موضع متابعة جدية لناحية توسيع أسرة التحرير وضم رفاق واصدقاء للمساهمة في تنويع مجالات الكتابة وتغطية شؤون الوضعين اللبناني والعربي وشمولها قضايا الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة وقطاعات المجتمع والمناطق على شتى المستويات. إلى جانب تطوير علاقة التنظيم بالموقع الألكتروني لناحية مواكبته وتعميم منشوراته، وتقييم أدائه باعتباره الناطق بلسان المنظمة والمعبر عن خطها وممارستها وانشطتها، وبصفته الوسيلة الاعلامية الحزبية المعنية بشؤون المنظمة وشجونها ورؤيتها وتقييمها للأوضاع الوطنية والقومية. الامر الذي يتطلب رفد الموقع بالقضايا المناطقية والقطاعية التي تعتبر بمثابة مفتاح لتوسعنا الحزبي وزيادة تأثيرنا في محيطنا القريب والأبعد. هذا عدا الحاجة إلى تطوير وتوسيع علاقة المنظمة بالوسط الاعلامي لما للأمر من أهمية خاصة واستثنائية.
بالإضافة إلى كل ما ورد، لم يغب الشأن المالي الذي يحتل أهمية استثنائية بالنسبة لعمل المنظمة وانشطتها كافة، لا سيما وأننا مواجهون بنفقات شهرية ثابتة يقدر لها أن تتصاعد وسط أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة. وقد تم التشديد على بذل الجهد على نحو دائم وبشكل منتظم اولاً في ميداني الاشتركات والتبرعات، وثانياً في ما خص السعي لتنمية الموارد المالية في سبيل تلبية حاجات المنظمة في ظل تطور وتوسع ميادين انشطتها.
ورغم التعثر المستمر في استعادة الصلة برفاق الخارج ، فقد تميز الوضع في بعض البلدان عبر استجابة عدد واسع منها وانتظام التواصل معهم على نحو لافت ومتميز من حيث المتابعة والنشاط المتعدد الاوجه وخاصة في التحضير للمشاركة في الانتخابات النيابية. الامر الذي يشكل حافزاً لمتابعة العمل لاستعادة وانتظام الصلة مع جميع رفاق الخارج.
ـ مؤتمرات الفروع
شكل انعقاد مؤتمرات الفروع خطوة مهمة على الصعيدين السياسي والتنظيمي، سواء لناحية انتسابها العام للتوجهات الفكرية والسياسية، أو بالنسبة لنجاحها في تقييم أوضاعها. وقد شهدت مستوى من التفاعل ليس فقط مع قضايا الوضع العام للبلد وأزماته الكبرى، إنما أيضاً مع شؤون الوضع الحزبي من شتى نواحيه الفكرية والسياسية والتنظيمية والنضالية، باعتبارها اولويات تتعلق بالوضع الراهن للمنظمة ودورها ومستقبلها. وعلى الرغم من أن المحصلة الاجمالية بشكل عام عكست مستوى وحدود وعي الرفاق لتلك القضايا ولأوضاع الفروع، كما بينت تفاوت وتباين كفاءتهم وقدراتهم على مقاربتها بشكل موضوعي.
وقد حظيت الانتفاضة بقسط وافر من المناقشات، خاصة لناحية مشاركتنا وما انتجته وراكمته من علاقات مع القوى والمجموعات والاوساط المنضوية تحت رايتها، والمساهمة في تشكيل اطر المتابعة، رغم الوجود الحزبي المحدود ضمن تشكيلاتها. كما عكست تقارير المؤتمرات الحاجة لتجديد وعينا ومعرفتنا بأوضاع المناطق والقطاعات الاجتماعية والمهنية التي يجب أن تقع في صلب ومدار اهتماماتنا، وتأكيد أهمية البدء بإعداد تقارير بشأنها. كذلك حضر في المناقشات والتوصيات المقرة الكثير من التساؤلات والهواجس حول أوضاع البلد واليسار والمنظمة، وهي التي تعكس مستوى الالتزام السياسي والنضالي وحدود الوعي للمعضلات الذاتية الموروثة وضرورة العمل على تجاوزها.
إن تقارير الفروع أتت لتؤكد أهمية تكريس اشراك الرفاق في مختلف مواقعهم في مناقشة واقع المنظمة السياسي والنضالي وقضايا الوضع الحزبي، باعتباره حق لهم في سياق تكريس النهج الديمقراطي، الذي يستهدف توحيد وتطوير الوعي المشترك لها، عبر الافساح في المجال أمام الرفاق لطرح آرائهم واقتراحاتهم وهواجسهم حول أولويات عملنا من موقعهم الحزبي والعام، مما يساهم في تعميق الوعي وتوسيع مساحات الرؤية لمختلف القضايا، وتسهيل البناء على ما تحقق من انجازات وتحصينها والاستثمار فيها. وهذا ما أكدته التوصيات والاقتراحات وخطط العمل التي نوقشت وأقرت سواء من الفروع أو الوحدات المعنية بقطاعات العمل الديمقراطي النسائي والشبابي والتي باتت بمجملها قيد المتابعة.
التوجهات البرنامجية والخططية التي أقرها المؤتمر العام الخامس
إن المؤتمر الأول لمنظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني، وفي ضوء القراءة المتجددة لأزمة الرأسمالية العالمية والوضعين العربي واللبناني، وفي ضوء الأخذ بهوية فكرية جديدة تتطلع إلى بناء تنظيم يساري ديمقراطي علماني، يحدَّد التوجهات البرنامجية والخططية للمنظمة خلال المرحلة القادمة على النحو التالي:
أولاًـ حول أزمة الرأسمالية
يرى المؤتمر أن ما جاء في تقريره حول أزمة النظام الرأسمالي، وعجزه عن التكيف مع المستجدات الكونية العاصفة، رغم ما تتمتع به دوله من أنماط تكنولوجية متقدمة، يعبّر عن مأزق حاد، أخذ يتمظهر في مراكزه المتقدمة عبر الصراعات الاجتماعية جرّاء فشل االردود الليبرالية على أزماته. لكنه يبقى أشد إنكشافاً في دول العالم الثالث حيث تتخذ الصراعات طابعاً قومياً وطبقياً وإثنياً وطائفياً مدمراً.
لقد أثبتت الوقائع أن لا بديل عن إعادة الاعتبار لدور الدولة ومهامها ومسؤولياتها، كدولة رعاية وتسوية اجتماعية بين مكوناتها وطبقاتها وشرائحها. لا سيما وأن الاقتصادات القومية وقوى الانتاج العابرة للقارات وسط التحولات الوبائية والمضاعفات البينية، لم تفلح في السيطرة على الأزمات المرشحة للإندلاع على نحو مضاعف هذه المرة، كأزمات تفشي وتحوُّر الاوبئة والتدهور المناخي والبيئي واستباحة موارد الطبيعية وحمّى التسلح والهوة المرشحة للإتساع بإستمرار بين الدول وداخل المجتمعات.
وعليه فإن المؤتمر يؤكد على أهمية تعميق هذه القراءة وتطويرها على نحو دائم عبر مواكبة المستجدات والانفتاح على كل النقاش الذي يجب أن يبقى مفتوحاً سواء حول أزمة الراسمالية، أو في ما يتعلق بإشكاليات الديمقراطية المتحققة.
ثانياً ـ حول الهوية الفكرية
أ ـ خيار الإشتراكيــة
يعيد المؤتمر تأكيده على خيار المنظمة اليساري والديمقراطي المتفاعل مع التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم، انطلاقاً من مراجعتها وقراءتها النقدية للماركسية وما انطوت عليه من حتميات ومسلمات اعتبرتها لا تقبل الجدل. وبعدما وضعت هذه الفلسفة في ميزان التجربة والتطور البشري والفكري الحقيقي فيما حملت من إيجابيات وسلبيات، وسقوط ما كان فيها من حتميات وشطحات ايديولوجية، مقابل تأكيد صواب ما كان فيها من فتوحات فكرية مثل كشف آليات النهب والاستغلال الطبقي الاجتماعي.
ولذلك فإن المؤتمر يجدد التزام المنظمة خيار الاشتراكية بإعتباره يمثل أعلى درجات الديمقراطية. فهذا الخيار هو السبيل الوحيد لتحرير الأفراد والجماعات، وإزالة كل أشكال التمييز القانوني والاجتماعي، من أجل الوصول إلى إعادة توحيد الكيانات المبعثرة وتحقيق الحداثة والنهضة. وترى المنظمة أن خيارها الاشتراكي يعيد الاعتبار للأساس الاجتماعي للحريات بالمعنى السياسي والاقتصادي. ومن نافل القول إن هذا الخيار لا يشكل لوناً من ألوان الاصولية، ولا يقطع بينه وبين الأصول. ما يعني أن خيارنا الاشتراكي يستوعب أهمية الماركسية ووظيفتها في سياق العلوم الاجتماعية، فلا ينكرها أو يتنكر لها، لكنه لا يعتبرها بوابة العلم الوحيد، بل رافداً من روافد الفكر الاشتراكي الواسع.
ب ـ الديمقراطيــة
يعتبر المؤتمر أن الديمقراطية بما هي تعبير عن تنوع المجتمعات البشرية، تعكس أرقى العلاقات بين مختلف المكونات المجتمعية، وتحافظ على الخصائص الذاتية لها، وتحول دون تفجر النزاعات والإطاحة بالإنجازات في مجرى التطور العام. وفي هذا السياق يرى المؤتمر أن تخلي المنظمة عن المركزية الديمقراطية بالمفهوم اللينيني، يقود إلى بناء تنظيم يساري يحتكم إلى العلاقات الديمقراطية من خلال أليات انتخاب هيئاته وإدارة بنيته التنظيمية الداخلية على نحو يسمح بتكوين الاتجاهات والتيارات المتنوعة داخله.
ج ـ العلمانيــة
ترى المنظمة أن الوجه الرئيسي لمعركة الديمقراطية في لبنان، كما في محيطه العربي، كفاعل مقرر لمجمل صراعاته ومسار تطوره هو قضية العلمانية، معطوفة على الديمقراطية التي من شأنها أن تنقذ البلاد من أزماتها المقيمة وحروبها الاهلية المتلاحقة. على أن العلمانية التي تلتزمها المنظمة هي علمانية بإمكانها استيعاب كل موروثات المكونات اللبنانية والعربية على نحو يبقيها موصولة بارتياد آفاق المستقبل، وبما يحرر لبنان واللبنانيين من انقساماتهم الطائفية وتبعياتهم للخارج الطائفي ـ السياسي. إن مثل هذه المهمة المحورية إنما تقوم على أكتاف اللبنانيين أنفسهم. وعلى المنظمة أن تتشارك فيها مع مناضلين علمانيين، يستطيعون عبر كفاءاتهم الفكرية والسياسية وإراداتهم جذب أوسع جمهور إلى صفوف هذا الخيار، باعتباره حبل الخلاص مما هم فيه من خراب وفوضى وتبعثر، ومن أجل الانتقال من مجتمع رعايا الطوائف المتجاورة قسراً، إلى مجتمع المواطنين المتساوين، بصرف النظر عن الجنس والعرق والدين والطائفة والعائلة والمنطقة. ولذلك ترى المنظمة أن معركة العلمانية، وليس معركة إلغاء الطائفية السياسية، هي جوهر برنامجها لتغيير النظام السياسي القائم. وأن الإسم الجديد الذي ستحمله لا بد وأن يشكل تعبيراً عن الهوية الفكرية التي تؤكد على ضرورة اقتران اليسار بالديمقراطية والعلمانية، والتي تجد ترجمتها في التوجهات البرنامجية الجديدة التي قرر المؤتمر التزامها.
ثالثاً: حول الوضع العربي
ترى المنظمة أن المنطقة العربية تجتاز واحدة من أخطر منعطفات تاريخها الحديث، جرّاء المخاطر التي تحيط بكياناتها ودولها كافة، بفعل التفكك البنيوي والصراعات الدموية، وافتقادها للحصانات الوطنية في ظل إفناء الحياة السياسية وانعدام الديمقراطية، وسيادة النزاعات بينها وفي دواخلها. مما كان له انعكاساته السلبية على صعيد مؤسسات العمل العربي المشترك، وغياب الحد الأدنى من التضامن في ما بينها. وذلك نتيجة تضافر عاملين: يتمثل الأول منهما في سياسات الأنظمة الاستبدادية وممارساتها القمعية، وسعيها لإعادة إنتاج التخلف والانقسامات والنزاعات الأهلية لإدامة سلطتها. وثانيهما هو تشريع الأبواب أمام استباحة المنطقة من الخارج وتحويلها إلى ساحات صراع دولي واقليمي، في سبيل السيطرة والهيمنة عليها وتقاسم النفوذ والموارد فيها. وذلك عبر تسعير الحروب الاهلية التفكيكية لمجتمعاتها، والمدمرة لثقافاتها وعمرانها واقتصاداتها الوطنية. الأمر الذي وفَّر فرصاً ثمينة للقوى الاقليمية من أجل تنفيذ مخططاتها لتوسيع هيمنتها ونفوذها من خلال التعامل معها باعتبارها تتشكل من مجرد طوائف ومذاهب ومناطق وعرقيات متناحرة.
فالكيان الصهيوني وبرعاية الولايات المتحدة الاميركية وما تتمتع به من سيطرة ونفوذ في المنطقة العربية وعلى الصعيد العالمي، نجح في التعمية على مخاطر طبيعته العنصرية العدوانية، مستغلاً مسار مفاوضات “السلام” بشأن الصراع العربي والفلسطيني ـ الاسرائيلي، لتحقيق قفزة نوعية نحو الدواخل العربية عبر اتفاقات تطبيع مذلّة، بذريعة مواجهة الخطر الايراني. في المقابل فإن اندفاعة النظام الايراني الداعمة بالمال والسلاح لميليشيات مذهبية، قد شكلت عاملاً مساعداً في تفجير وتفكيك بُنى ومؤسسات بعض الاقطار العربية، واصبح طرفاً مضاعفاً لتفككها عندما أصبح متدخلاً ومقرراً في أزماتها الكيانية. في الوقت الذي يتابع النظام التركي محاكاة الدور الايراني، عبر دعم الاحزاب والمجموعات المذهبية الاصولية، والإمعان في استباحة العديد من الدواخل العربية على نحو سافر، من خلال تصعيد تدخله في أوضاعها لتعزيز مواقع نفوذه وتكريس دوره الاقليمي.
وبما أن الولايات المتحدة الاميركية تبقى القوة الأكثر نفوذاً والأقدر على الاستثمار في الخلل البنيوي القائم بين الجهات الدولية والاقليمية، المشاركة في الأزمات والصراعات المفتوحة وإدارتها في آن. فإن اختلال اوضاع الكيانات العربية يُبقي دولها وأنظمتها في موقع السعي لحجز دور لها تحت سقف التبعية والسيطرة الاميركية.
وعليه، فإن المنظمة ترى أن تجاوز المنطقة العربية لهذا العسر الكبير يتطلب إحداث تغييرات بنيوية عميقة على مختلف الصعد، الأمر الذي يتطلب وجود قوى حداثية فاعلة قادرة على لعب هذا الدور المفقود، والعمل على إعادة بناء حركة نهضوية عربية ديمقراطية علمانية، في مواجهة التحديات التي تواجهها المنطقة كيانات ودول ومجتمعات. خصوصاً أن الانتفاضات العربية التي شكلت أبرز التطورات التي شهدتها المنطقة العربية خلال العقد الماضي، قد فشلت في تحقيق التغيير الديمقراطي المطلوب. ومرد ذلك أن أنظمة الاستبداد التي سبق لها تدمير كل أشكال المعارضة لسلطاتها، نجحت في استدراج تلك الانتفاضات إلى ميادين العنف، وتحويل الاحتجاجات إلى نزاعات وحروب أهلية مفتوحة، كما هو جار في سوريا واليمن وليبيا وسط تصاعد المخاوف من انزلاق السودان وتونس نحو الكارثة نفسها.
1 ـ حول المسألة السورية
تؤكد المنظمة على ضرورة وأهمية إنهاء الحرب الاهلية العبثية في سوريا، بالنظر لما أسفرت عنه من ضحايا ودمار وتهجير، بعد مضي أكثر من عقد على اندلاعها. وهي تحمّل نظام الاستبداد الأقلوي المسؤولية عما آلت أوضاع مؤسسات الدولة والاقتصاد الوطني والاجتماع السوري من انهيارات. وهي المسؤولية التي يتشاركها مع التنظيمات الاسلاموية بمختلف تشكيلاتها الاصولية. باعتبارها تتحمل قسطاً وافراً عن مآل الانتفاضة السلمية في مواجهة نظام القمع الدموي. كما وأن المنظمة تدعو قوى المعارضة الديمقراطية إلى قراءة تجاربها والإفادة من أخطائها وإعادة جلاء استقلاليتها، لبناء مشروع برنامج معارضة ديمقراطية يستهدف استعادة وحدة الكيان والدولة والمجتمع، ومواجهة الدور الكارثي للنظام والجهات الدولية والاقليمية المتدخلة في الوضع السوري.
2 ـ حول القضية الفلسطينية
إن المنظمة ترى دوماً في دولة الكيان الصهيوني العنصري على أرض فلسطين، مشروعاً استيطانياً يهدد وجود الشعب الفلسطيني على أرضه وفي حقوقه الوطنية، ويطال بعدوانيته المنطقة بأسرها. إن المنظمة التي ساندت وأيدت على الدوام قضية الشعب الفلسطيني باعتبارها قضية تحرر وتحرير وحقوق سياسية ووطنية وقومية عادلة، ووقفت الى جانب ثورته ومؤسساته في أصعب الظروف. تشدد على أهمية مواصلة دعم هذه القضية، نظراً لما تمثله من صراع ومواجهة مشروعيْن مع أبشع أنواع الاستعمار الذي عرفته البشرية.
إن المنظمة كتنظيم يساري ديمقراطي، إذ تدرك أهمية الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني لإستعادة حقوقه الوطنية المشروعة، فإنها تدرك أيضاً أن صموده على أرضه لا يزال يشكل حاجز الدفاع الأول عن الدواخل العربية. ولذلك فإنها تشدد على أهمية الدعوة لدعمه لإستنهاض الحركة الوطنية الفلسطينية، ودعوة فصائلها كافة لإجراء مراجعة نقدية لتجربتها وموروثاتها، مدخلاً لتجديد وإقرار برنامج موحد لمواجهة الاحتلال، وتعزيز استقلاليتها وإبطال محاولات استخدامها ورقة في إطار الصراعات والمساومة على طاولة المفاوضات حول أوضاع المنطقة ومصيرها.
رابعاً: حول الوضع السياسي والإقتصادي ـ الإجتماعي اللبناني
1ـ نظام الطائف
ترى المنظمة أن عوامل التأزم المتداخلة التي يعانيها الكيان اللبناني ونظامه، مصدرها طبيعة النظام اللبناني الموروث والمستمر على ثوابته. باعتباره نظاماً طائفياً، رغم كونه لا يزال يؤطر مساحة من الحريات العامة والتعدد السياسي والانفتاح الثقافي والاجتماعي. غير أنه ليس نظاماً ديمقراطياً ناجز التكون بمعنى الانتساب إلى الحداثة الديمقراطية في أهم ميادينها العصرية، سواء على صعيد الدولة والفرد وحقوق الانسان وآليات الانتظام الاجتماعي وقيم الثقافة وآليات التطور والتقدم، أو في ما خص جدلية الاستغلال والسيطرة الطبقية.
إن اتفاق الطائف كان بمثابة تسوية طائفية ـ مذهبية لاصلاح النظام الطائفي، أعادت صياغة توازناته واصول تقاسم مواقع السلطة. ولذلك لا يمكن اعتباره تسوية تاريخية لمعضلات لبنان الكيان والنظام. لأن نظام المحاصصة الطائفية الراهن يشكل الاساس السياسي لتبرير نشوء وتجدد بُنى قوى السلطة، التي تتكون منها الطبقة السياسية الحاكمة. وهذا ما أبقاه متعارضاً مع المصلحة الوطنية لأكثرية اللبنانيين، وجعل منه قيداً مُعطِّلاً لمسارات التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي. باعتباره منتجاَ دائماً لعدم الاستقرار والفساد السياسي ولأزمات الحكم. ومولّداً خصباً لمشاريع الهيمنات الطائفية والنزاعات والحروب الأهلية بين قواه المغلقة على الاصلاح والحداثة.
إن المقاربات التي اُعتُمدت لتطبيق الطائف في الحكم وإدارة البلاد وفق قواعد المحاصصة الطائفية، استندت إلى اختلال التوازنات بين تيارات واحزاب السلطة. وهي التي كانت ولا تزال ردائف متوازية من حيث البنية، سواء في خطابها الفئوي وأدائها الميليشياوي أو في صراعاتها لتقاسم النفوذ والمغانم. أما تقاذف المسؤولية عن الانهيار وتكرار تبادل تُهم الخيانة والعمالة للخارج، واجترار شعارات الاصلاح ومكافحة الفساد. فقد ساهم على نحو دائم في تزخيم الانقسامات وتجديد الاختلاف حول الهوية وصيغة النظام، وموقع الكيان من أزمات المنطقة وعلاقاته الخارجية. وأمام أولوية الصراع بين تلك القوى حول مواقعها في السلطة ومكتسباتها باسم حقوق الطوائف، فقد سادت الإستهانة بالمصالح الوطنية والتفريط بها.
لذلك فإن عوامل انفجار الأزمة وتصاعدها، هي نتاج السياسات المعتمدة على مختلف الصعد. خصوصاً أن المحاولات الدؤوبة لتجاوز دستور الطائف وتعطيل الاستحقاقات وشلّ المؤسسات بذريعة الصلاحيات، والركون إلى الاوزان المستجدة المستقوية بالعوامل الخارجية، قد جعلت إمكانية معالجة الأزمات تقرب من حد الإستحالة.
إن الممارسات الفئوية لقوى السلطة، وسيادة المحاصصة الطائفية، قد شكلا نموذجاً مثالياً للفساد بوجهيه السياسي والاداري، من الاستهتار بحقوق المواطنين إلى تعطيل أجهزة الرقابة وتسيس القضاء ومسلسل النهب والتهريب. عدا أنها استُغلت لتغطية سياسات الطرف الاقوى، الذي تحكم بقرار البلاد السياسي والسيادي. ولذلك بات لبنان يُدار من خارج مؤسسات الدولة وأجهزتها، وفق تراتبية يتربع على قمتها راهناً حزب الله، المستند إلى فائض قوته واستغلال تحالفه مع العهد. وبناءً عليه استمر لبنان أسير الصراعات الداخلية حول هويته الوطنية وعلاقاته الخارجية خاصة مع محيطه العربي، وسط غلبة للنفوذ الايراني عليه، جرّاء مصادرة قراره، وتحكم الطرف الأقوى بإدارة أوضاعه وإلحاقه عملياً بما يسمّى محور الممانعة.
2ـ بناء الدولة حلاً لمعضلة السلاح
تنظر المنظمة إلى أهمية الدور الذي لعبه حزب الله في استكمال تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي في العام 2000. إلاّ أن إنجاز التحرير الذي بدأته جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، واستكمله حزب الله، انتهى أسير المكون الطائفي الشيعي حصراً. وإن بقاء خطر العدوان الاسرائيلي الدائم لا يبرر اطلاقاً استمرار سلاح حزب الله، والإستقواء به لتزخيم الانقسام الاهلي وفرض سياساته وهيمنتة في الداخل، وتبرير ادواره في الخارج، وصولاً إلى استرهان لبنان ضمن استراتيجية “محور الممانعة”. وعليه لقد أصبح هذا السلاح بمثابة معضلة وطنية، وباتت معه المناطق اللبنانية كافة ساحات نزاع مرتهنة للخارج. ما أدى إلى عزل لبنان عن محيطه العربي مع ما ترتب على ذلك من مضاعفات سلبية يصعب حصرها.
إن المنظمة ترى أن المدخل الطبيعي والوحيد لمعالجة معضلة سلاح الحزب باعتباره سلاحاً أهلياً يكمن في أولوية إعادة الاعتبار لمشروع بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، وما يتطلبه من تنقية لعلاقاتها العربية والإفادة من المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة. والدولة اللبنانية وحدها تملك احتكار حق حمل السلاح وحق اتخاذ قرارات السلم والحرب عبر مؤسساتها السياسية الناظمة. لأنه على عاتقها وحدها تقع مسؤولية حماية لبنان الوطن من الأخطار والاطماع الصهيونية، أو ما يشابهها من أي جهة أتت. وفي هذا السياق تكمن أهمية بحث وإقرار الاستراتيجية الدفاعية الوطنية، بديلاً عن إدعاء احتكار حق الدفاع عن لبنان وحماية حدوده وموارده. وعن تشريع الأبواب أمام استنساخ دويلات الأمر الواقع الميليشياوي المتشابهة على رافعة تجديد مشاريع الهيمنة الفئوية الطائفية والمذهبية كما هو راهن. وبعيداً عن شعار نزع هذا السلاح لما يضمره من استسهال العودة إلى الحرب الأهلية، وتعميم سياسة السلاح وتبرير التدخلات الخارجية. ما يكرس انعدام الحصانة الوطنية امام التدخلات الخارجية ومشاريع الهيمنة الاقليمية والدولية المتصارعة في المنطقة وعليها، بما فيها مشاريع “السلام” مع العدو الصهيوني برعاية اميركية سافرة.
3 ـ المأزق الصعب
إن انقسامات اللبنانيين ونزاعاتهم حول هوية الكيان الوطنية وتركيبة النظام السياسي في ظل مشاريع الهيمنة الطائفية والمحاولات الدائمة لتحقيقها عبر الإستقواء بالخارج، قد ساهمت ولا تزال ليس في إعاقة تطوره الديمقراطي وحسب، إنما في تعطيل الحياة السياسية وشل مؤسسات الدولة وأجهزتها، كما في الانهيار الاقتصادي ـ المالي الذي يدمر ما تبقى من قطاعاتها الحيوية. وكذلك في قهر اللبنانيين واضطهادهم، والدفع بهم إلى مصير مجهول، ووضعهم أمام تحديات غير مسبوقة في تاريخ الكيان منذ التأسيس قبل مائة عام.
ترى المنظمة أن وضع لبنان على هذا النحو، جعله ساحة مفتوحة للصراع الداخلي والخارجي، تضاف إلى سائر ساحات المنطقة المجاورة وأزماتها المتفجرة. الأمر الذي وضع اللبنانيين أمام تحدٍ عسير وصعب في آن. سواء لناحية العمل على فك ارتباطه بأزمات المنطقة وفق الحد الأدنى الذي يمنع إنفجاره، أو لجهة فتح مسارات التوحيد بين اللبنانيين، لإرساء وترقية هوية وطنية جامعة.
وكلاهما مرهون بمدى قدرة هذا المجتمع على الاستفادة من التجارب المريرة التي عبرها، وقطع الطريق أمام تكرارها، مما يقتضي معه بذل كل الجهود الممكنة للاضطلاع بهذا الدور الإنقاذي.
4 ـ إنتفاضة 17 تشرين بين الواقع والأهداف
ترى المنظمة أن الدافع الرئيسي لإنتفاضة السابع عشر من شهر تشرين المجيدة عام 2019، ومشاركة مئات الألوف من اللبنانيين الذي نزلوا إلى الساحات في مختلف المناطق اللبنانية، كان الدفاع عن حقوقهم المستباحة، والتعبير عن الطموح المشروع للغالبية منهم، في أن يكون لهم وطن ودولة تضمن حقوقهم في العيش الكريم وتصون مستقبلهم. وقد شكلت الانتفاضة أحد أهم أشكال المواجهة السلمية مع الطبقة السياسية المستبيحة للمصالح الوطنية والمستهترة بحقوق مواطنيها، والمهدِّدة لمصالح مختلف الشرائح الاجتماعية بالخراب. لكن هذا المد الشعبي العفوي الواسع، واجهه عسر تشكيل قيادة موحدة وصوغ برنامج مشترك يحدد الأولويات الواقعية والممكنة، والذي يستهدف تجميع وتحشيد كل الفئات المتضررة والمعنية بالتغيير. إن كثرة وتنوع المجموعات والقوى وتعدد البرامج والشعارات، كانت انعكاساً لتفكك البُنية اللبنانية، وهزال القوى النقابية والديمقراطية، بالإضافة إلى هامشية وضعف بُنى القوى الحزبية التي تدَّعي المعارضة.
ولذلك تعددت القراءات لأوضاع البلد وأزماته المتفجرة وأسبابها، وساد القصور في الإحاطة بطبيعة الوضع، عبر حصر المسؤولية بهذا الطرف أو ذاك بما فيه حاكم المصرف المركزي والمصارف. ولذلك تصدَّر مشهد المواجهة مع منظومة السلطة تشكيلات متنوعة ومتعددة الاتجاهات والولاءات والارتباطات تحت راية المجتمع المدني. الأمر الذي ساهم في انتعاش طروحات تمجيد العفوية وبث أوهام المقدرة على استلام السلطة، وصياغة البرامج وتشكيل البدائل الوهمية لإدارة الحياة السياسية في البلاد.
إن المجموعات التي اعتمدت ممارسة العنف الأعمى دون إدراك لقوة النظام اللبناني وتجذره، وعدا أنها ساهمت في تعميم الفوضى وتضارب نشاط المجموعات، فإنها سهّلت لقوى السلطة الاهلية والأجهزة الامنية، استغلال ممارساتها العنفية، لإستعادة الإمساك بزمام المبادرة. مما كان له تأثيره البالغ في تراجع زخم الانتفاضة تحت وطأة القمع، وإلصاق تهم التخريب والعمالة بها، والتلويح بإستخدام السلاح في مواجهتها، في موازاة تحوَّل بعضها مطية لبعض قوى السلطة. ما أدى إلى تبديد الكثير من الإيجابيات، وتسريع الإنكفاء عن الساحات رغم تصاعد الانهيار وتزخيم الانقسام الأهلي، وتجدد دعوات الحياد والفدرلة التي شكلت الوجه الآخر للإستقواء بالسلاح ودوره.
إن المنظمة ترى في أهداف الانتفاضة وطموحات المشاركين فيها، ما يستحق الالتزام بمضامينها. وهي التي ساهمت في بث الروح والعصب في فكر وثقافة المعارضة الديموقراطية العلمانية، وفي تحريك المياه الراكدة في شرايين الحياة السياسية. ما يؤكد على أولويات دور الشرائح الاجتماعية في الدفاع عن حقوقها ومدى استعدادها للانتظام تحت راية النضال في سبيل مطالبها المشروعة، والانخراط في معركة التغيير الديمقراطي السلمي. ولذلك فإن الانتفاضة قد شكلت محطة نوعية في مسارات توليد المشروع الديمقراطي العلماني المتعثر للخلاص الوطني، الأمر الذي يستدعي استخلاص دروسها والبناء على نتائجها مدخلاً للانقاذ من الهاوية وتجديد مسيرة التغيير والتقدم.
5 ـ الإصلاح السياسي وبناء الدولة
أمام هذه اللوحة المعقدة داخلياً وإقليمياً، يشدد مؤتمر المنظمة على أن مفتاح المواجهة والمدخل للإنقاذ، يكمن في النضال من أجل تحقيق اصلاح سياسي حقيقي أساسه بناء دولة المواطنة بعيداً عن حسابات الطوائف والمذاهب ومحاصصاتها، وإعادة الاعتبار لدور المؤسسات التشريعية والتنفيذية في البلاد وصيانة الحقوق المكتسبة والحريات العامة والفردية، ورفض كل أشكال الهيمنة الطائفية والكونفدرالية والإدارة الذاتية التقسيمية.
إن المنظمة ترى أن اللجوء الى التفاوض مع صندوق النقد الدولي لن يؤدي الى عمليات إنقاذ وإصلاح كما يريد المواطنون تحقيقهما، حيث لا إمكانية للرهان على سياسات الصندوق الضامنة للاستثمارات الخارجية والمستهينة بمضاعفاتها المدمرة على الصعيد الاجتماعي. كما لا يمكن الركون إلى منظومة السلطة المحصّنة في مواجهة الاصلاح ورفضها تحمّل المسؤولية عن كارثة التفكك والانهيار، والمساهمة في اجتراح العلاج للأزمات.
ولذلك فإن المنظمة تؤكد على أهمية موقع ودور القطاع العام في تقديم الخدمات للمواطنين وعلى دور القوى النظامية العسكرية والأمنية في حماية الوطن والدفاع عنه، وفي صيانة أمن المواطنين وضمان حرياتهم في اطار القوانين الناظمة . كذلك يشدد على ضرورة النضال في سبيل معالجة الأزمات الاجتماعية والمعيشية التي يعانيها المواطنون وتحرير قطاعات الخدمات العامة كي تستعيد دورها، والمساهمة في ضمان وحماية حقوق العمال والموظفين والمعلمين والمهنيين وكبح الاعتداء على المتحقق من الإنجازات الاجتماعية. إلى جانب الدفع باتجاه تنويع مصادر الاقتصاد ووضع التشريعات اللازمة لتشجيع عودة قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات والتعليم للقيام بدورها، وغيرها من اجراءات مطلوبة لجعل الانقاذ ممكناً.
وعليه، يؤكد مؤتمر المنظمة على ضرورة العمل لإعادة تشكيل كتلة مجتمعية مناضلة تتمتع بالاستقلالية عن السلطات الطوائفية، تعمل على ردم الهوة التي حفرتها قواها كي تضمن بقاءها في سُدة المسؤولية، ومتابعة إدارة البلاد على النحو الذي يكمن في أصل الوضع الكارثي القائم.
6 ـ مهام قوى الإستنهاض الحيَّة
إن مهام الإنقاذ والإستنهاض تقع مسؤوليتها على عاتق القوى الحية والمتضررة في المجتمع اللبناني. ما يضعنا كطرف يساري أمام تحدي الإضطلاع والمساهمة بدور أساسي ومبادر لتجديد دور اليسار وإعادة بناء موقعه الاجتماعي واستعادة الحركة النقابية والديمقراطية إلى ميادين النضال الاجتماعي والسياسي. ضمن وجهة تستهدف شق مسار خروج متمادٍ على مسارات التفكيك والانقسام الاهلي والإلتحاق، وهو ما يبرر طرح ضرورة العلمنة الشاملة. لأن إنقاذ البلد شرطه الاول تحقيق إصلاح سياسي للنظام وانتظام مؤسسات الدولة وأجهزتها واستقلالية القضاء وصون الحريات ورفض كل الوان الأمن الذاتي والإدارة الذاتية واللامركزية المالية المناطقية، والدفاع عن استمرارية القطاع العام وتصويب السياسات الاقتصادية ومعالجة المعضلات الاجتماعية ودعم وتشجيع الانتاج الصناعي والزراعي وتطوير القطاع السياحي وإصلاح النظام المصرفي وإلغاء السرية المصرفية والحد من عجز الموازنة. إلى جانب استعادة العلاقة مع المحيط العربي إنقاذاً للإقتصاد وتعزيزاً لقدراته وعودة الروح الى مؤسسات القطاع الخاص المصرفية والتعليمية والاستشفائية والخدماتية الأساسية.
إن هذا التوجه يحدد الدور والمهام التي يجب أن تضطلع بها القوى الديمقراطية بكافة اطيافها ومنابتها الاجتماعية، والعمل لتوظيف ما تملكه من قدرات وامكانات تؤهلها لقيادة عملية الانقاذ ومسيرة الإصلاح والنهوض. وهي المهام التي تستدعي تجديد العمل لبناء حركة معارضة ديمقراطية علمانية، لُحمتها حضور ومشاركة الكتل والفئات الاجتماعية المتضررة في معادلة الصراع انطلاقاً من مصالحها وحقوقها المشتركة وأهمية وزنها، مما يتوجب معه العمل على إعادة الروح للعمل النقابي وتحريره من إيدي القوى المهيمنة وحساباتها الطائفية والفئوية، والسعي لبناء نقابات مستقلة وحاشدة قادرة على الدفاع عن حقوقها وانتزاع مطالبها المشروعة في مختلف القطاعات.
7 ـ المنظمة وأزمة اليسار
إن المنظمة ترى أن مبرر وجودها يتعلق بموقعها في اليسار وفي دوره، باعتباره حاجة وطنية وديمقراطية للبلد، وضرورة تبرر وجوده بالنظر لطبيعة الدور الذي يقع على عاتقه في إعادة الاعتبار للحياة السياسية، والمساهمة في بنائها على أسس ديمقراطية تستند إلى أوسع المصالح الاجتماعية وتطلعاتها نحو التقدم والحداثة، من خلال العودة إلى ما كان يمثله من وجهة فكرية وموقع اجتماعي وخيار سياسي ومسلك نضالي.
إن المنظمة واستناداً إلى قناعتها الراسخة ياستحالة مستقبل لبنان الطائفي، ورغم إقرارها بصعوبة المستقبل العلماني للبلد، فإنها تدرك أن إنجاز العلمانية لا يقوم ولا يستقيم ولا يتحول إنجازاً عصياً إلا بنضال شاق من أجل بناء كتلتها الاجتماعية الراجحة الوزن في ميادين السياسة والثقافة ومؤسسات الانتظام المدني والاجتماعي الحديثة. كما أنه لا يمكن لها أن تتحول إلى نظام سياسي وطيد إلا باستفتاء اللبنانيين على مصيرهم في هذا المجال بكل الحرية والمسؤولية.
كما تؤكد المنظمة أن أحد أهم شروط استنهاض اليسار هو تجديد دوره، عبر انخراط قواه في تشخيص دقيق وشجاع لأزمته، واستعادة حيثيات نشأته والمساحة الفكرية والسياسية والاجتماعية التي شكلت مصدر نهضته وأسس دوره. وذلك في سبيل تحديد عوامل و شروط نهوضه المتجدد ضمن الافق التاريخي الراهن والمقبل. الأمر الذي يتطلب تطوير وتعميق الهوية الفكرية بالاستناد إلى مراجعة التجربة المتحققة والتحولات العالمية الكبرى راهناً، على قاعدة قراءة تطور الرأسمالية وأزمتها، وفي ضوء مأزق الديمقراطية المتحققة على صعيد التمثيل السياسي في ميادين النظرية والممارسة.
وهو الأمر الذي يفترض إعادة بناء القاعدة الاجتماعية لليسار، وتحديث البرنامج السياسي في آن. ورغم الأهمية الكبيرة لبرنامج الاصلاح السياسي للحركة الوطنية عام 1975، والذي لا تزال بعض مفاصله الأساسية راهنة حول قضايا الاستقلال الوطني والعروبة الثقافية والسياسية، والديمقراطية المسيجة بالعلمانية والمسلحة بالقاعدة الاجتماعية العابرة للطوائف وجغرافيتها، غير أنه من الصعب تجاهل نتائج السياسات المعتمدة على امتداد عقود متلاحقة في ظل تسوية الطائف، ومضاعفات الانهيار المتمادي على جميع الصعد، وما نجم عنها من التحولات التي اصابت البلد، مما يستدعي اشتقاق التعديلات والمطالب والشعارات التي تتوافق مع الوضع الراهن، أخذاً بنظر الاعتبار ما حلَّ بقوى اليسار والحركة الديمقراطية من تراجع دور وضمور وزن وقوى دفعت بها إلى هامش الحياة السياسية، في ظل غلبة طوائفية كاسحة.
كذلك فإن المنظمة تنظر إلى التوجهات والمهمات المشار إليها، باعتبارها مهمات تاريخية، لا بد وأن تتوافر لتحقيقها القوى الحاملة لها وصاحبة المصلحة فيها، وهي تطمح للمساهمة في هذا الإنجاز من الموقع النضالي الفاعل في سبيل تحقيقها. وهي في السياق تؤكد أن استنهاض اليسار أمر مطروح في صيغة تحدٍ على سائر الاطراف المعنية بنهضته وإعادة بناء قاعدته وقواه وتجديد دوره. ولذلك فإن العلاقات بين هذه الاطراف لا بد وأن تكون موصولة بأهدافها في بناء الموقع الوطني المستقل عن قوى النظام الطائفي، وبعيداً عن الالتحاق بالمحاور الاقليمية والدولية بكل اتجاهاتها، انطلاقاً من موقع الالتزام بمصالح الفئات الاجتماعية الأوسع والتي تتكثف عندها المصلحة الوطنية.
إن المنظمة تناضل ضد سياسات توظيف القضايا الاجتماعية في صراعات القوى الطائفية واستغلالها لتسعير الانقسام الطائفي والمذهبي، وتقديمها على أنها قضايا وحقوق تخص طائفة محددة أو حزباً بعينه. لأن التصدي لسياسات السلطة المنتجة للأزمات الاجتماعية سيظل مرهوناً بمدى مشاركة القوى التي تسحقها تلك الأزمات والفئات المتضررة منها، وبمستوى وعيها لحقوقها ومصالحها واستعدادها للنضال دفاعاً عنها، وتحقيقاً لها بعيداً عن انتمائها الطائفي أو المناطقي. ولذلك فإن المنظمة ترى نفسها معنية بتجديد التزامها حقوق ومصالح الفئات الشعبية والاجتماعية وإعادة بناء موقعها ودورها في النضال معها من أجل الحد من المفاعيل السلبية لهذه السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
8 ـ قضية المرأة
إن قضية المرأة تقع في صلب اهتمامات المنظمة، وهي اذ تؤكد على أهمية تحقيق مطالب المرأة اللبنانية في المساواة الكاملة مع الرجل في الحقوق المدنية والسياسية، وتدعو إلى قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية يساهم في تحقيق المساواة بين اللبنانين مهما كانت انتماءاتهم الدينية. وهي إذ تدعو أيضاً إلى إلغاء النصوص المعمول بها في ما يتعلق بحرمان المرأة من حقها في اعطاء الجنسية لأولادها وحضانتها لهم، فإنها ترى أن تحرر المرأة على نحو يضمن لها كامل حقوقها يبقى أمراً مرهوناً بمدى تحرر المجتمع ككل من نظام رعايا الطوائف، وإرساء نظام سياسي عماده المواطنة والعدالة الاجتماعية والمساواة وفق آليات الديمقراطية والعلمنة.
وفي هذا الاطار يسجل المؤتمر الدور الرائد الذي يلعبه التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني باعتباره طرفاً رئيسياً في الحركة النسائية اللبنانية، ومساهماً فاعلاً في اطلاق المبادرات التي تستهدف ترقية دور المرأة وتعزيز موقعها وتكريس حضورها ومساهمتها في التزام قضية تحررها في إطار تحرر المجتمع.
9 ـ قضايا الشباب
شكلت الانتفاضة محطة استثنائية في تاريخ الوطن عكست هموم الشباب اللبناني وحجم القلق والخوف من المستقبل الذي تقودهم إليه منظومة السلطة السياسية الحاكمة، وأكدت مشروعية طموحات الأجيال الشابة وأحلامها في أن يكون لها وطن تساهم في بنائه وتطوره، ويتيح لها الفرص للعيش فيه وضمان مستقبلها. ولذلك تشدد المنظمة على أهمية دور الشباب والتزام قضاياهم ومطالبهم وطموحاتهم باعتبارها تنتسب إلى التقدم والحداثة، والتي تقع بمجملها في إطار مبررات وجودها ودورها. كما وأنها تؤكد على اهمية تفعيل الاطر والاندية الشبابية الديمقراطية والعلمانية، وعلى ضرورة العمل لتفعيل تجمع الشبيبة الديمقراطي اللبناني وتحويله مؤسسة نضالية ديمقراطية ناشطة في ميادين النضال الديمقراطي والاجتماعي.
10 ـ الحريات الديمقراطية
إن الحريات الديمقراطية، بما هي حرية الرأي والتعبير والإعلام، والعمل الحزبي والنقابي. هي من المسائل الجوهرية التي تقع ضمن التزامات المنظمة. وهي ترى أن المس بهذه الحقوق يستهدف تكريس تسلط حكم القوى الأهلية والطائفية بعيداً عن أحكام القوانين التي تؤمن لها الحماية، ولذلك يكتسب الدفاع عن الحريات الديمقراطية والإعلامية أهمية كبرى واستثنائية في مواجهة القمع الأهلي القائم على التبعية وتخوين الرأي المخالف، والقمع الرسمي لتكريس نهج التفرد والانفراد في السلطة.
11 ـ حول الصعيد الإعلامي
يشكل التعبير الإعلامي موقعاً مركزياً في التعريف بهوية المنظمة الفكرية وبرنامجها السياسي، كما في عرض وتقديم خطها السياسي وتوجهاتها الخططية والتعريف بدورها وممارستها النضالية، إلى جانب تظهير سعيها الدائم لتعميقه وتطويره والعمل على ترقيته، والدفاع عنه عبر الحوار والسجال الفكري على نحو عام. الأمر الذي يؤكد أهمية السعي الدائم لتحويل موقع منبر “بيروت الحرية” الالكتروني ساحة حوار فكري وسياسي واجتماعي وثقافي مفتوح، والعمل على توسيع انتشاره ورفده بالإمكانات والمواد اللازمة، باعتباره الوسيلة الاعلامية الخاصة بالمنظمة. وهو الموقع الذي نطمح أن يساهم في استنهاض اليسار وتجديد خطه السياسي الاستقلالي وموقعه الاجتماعي ودوره النضالي، باعتباره حاجة وطنية وضرورة اجتماعية لخلاص البلد. إلى جانب تفاعل الموقع مع المحاولات والتجارب العربية والدولية المنتمية إلى هاجس تجديد نهضة اليسار وتعميق وعيه الفكري والثقافي وسط عالم متحرك. كما كان الأمر على الدوام مع مجلتي “الحريـة” و”بيروت المساء”، منبراً أساسياً في هذا المجال. لذا تشدد المنظمة على أهمية وضرورة التفاعل مع موقع “بيروت الحريـة” والمساهمة في إغنائه وتحويله إلى ساحة حوار فكري وسياسي ومساحة نضال اجتماعي مفتوح على أوسع الفئات والشرائح المتضررة من الوضع الراهن في ظل الانهيار ومضاعفاته الكارثية.
12ـ المنظمة وميادين النضال
ان تجديد دور المنظمة واحتمالات وشروط النهوض باعبائه، مشروط بتعميق ما أنجزته خلال الاعوام الاخيرة على الصعيدين الفكري والسياسي. ومن خلال السعي إلى تكريس ما تحقق في سياق عودة المنظمة إلى ميادين النضال السياسي والاجتماعي، والبناء عليه من أجل توسيع علاقاتها واستقطاباتها على نحو يؤدي إلى إعادة بناء قاعدتها الاجتماعية، وتحديث برنامجها السياسي والمساهمة في بناء كتلة ديمقراطية علمانية، بما يستجيب للتحديات المُلقاة على عاتق اللبنانيين في مواجهة المخاطر الداهمة التي تهدد مصيرهم كياناً وطنياً ومجتمعاً مدنياً، وتنقذهم من الجحيم الذي دُفعوا إليه مدخلاً للافراج عن حقهم في التقدم وعودتهم إلى ارتياد طريق الحداثة.
التوصيات والقرارات الصادرة عن المؤتمر الخامس للمنظمة
1ـ يتوجه المؤتمر بالتحية إلى جميع الرفاق الشهداء الذين سقطوا في مختلف مواقع النضال الوطني والاجتماعي. وهم الذي شكلوا ولا زالوا صفحات مشرقة في تاريخ منظمة العمل الشيوعي السياسي والنضالي على امتداد خمسين عاماً. كما يدعو المؤتمر المكتب التنفيذي وسائر الفروع الى استمرار التواصل مع عائلات الشهداء والجرحى، وإيلاء الاهتمام اللازم بهم واحاطتهم على نحو واضح بما آلت إليه اوضاع المنظمة، وسعيها لتجديد دورها السياسي والنضالي في سبيل التغيير وضمن إطار الوفاء لما قدموه من دماء وتضحيات، وأن الأمر يتجاوز تغيير الأسم.
2ـ يوجه المؤتمر التحية لجميع الرفاق الذين فقدتهم المنظمة وهم في مواقع النضال. ويخص بالتحية كل الرفاق القادة منهم الذين تولوا مسؤوليات مركزية في مختلف الهيئات الحزبية والذين لعبوا أدواراً رئيسية، منذ التأسيس على كل المستويات، وفي طليعتهم الرفيق محسن إبراهيم الأمين العام للمنظمة، والرفاق خالد غزال أمين سر المكتب التنفيذي السابق، وأبو حسن محمد مروة عضو المكتب التنفيذي والمسؤول السياسي في الجنوب، والرفيقة وداد شختورة رئيسة التجمع النسائي الديمقراطي وعضو اللجنة المركزية، الرفيق محمود الشوباصي عضو اللجنة المركزية ومسؤول هيئة منطقة البقاع، والرفيق الشهيد حسن بزون عضو اللجنة المركزية ورئيس تحرير مجلة “بيروت المساء”. كما يخص بالتحية الرفيق المخطوف عدنان حلواني عضو المكتب السياسي ومسؤول هيئة منطقة بيروت قبل وأثناء إجتياح لبنان وعاصمته صيف العام 1982.
3ـ يسجل المؤتمر تفهمه لكل الأسباب والحيثيات الخاصة والعامة التي حالت دون أدت إلى تخيرعقد تأخير عقد المؤتمر الخامس. والذي ظل هاجس انعقاده هماً دائماً في الحياة الحزبية للمنظمة. كما يقوّم المؤتمر ايجاباً الجهد التحضيري لإعداد مشاريع نصوص الوثائق التي تلبي حاجات المنظمة ومتطلبات عملها الحزبي، وتعكس أوضاعها وسبل السيطرة على ما هي فيه من صعوبات وتحديات على الصعد كافة. كما يثمّن الاستجابة المتفاعلة والمسؤولة عبر المشاركة في مناقشتها رغم كل العوائق والازمات على امتداد الاشهر السابقة. الأمر الذي يعكس أصالة الالتزام الحزبي والنضالي الذي يشكل رصيداً مهماً وضمانة للمستقبل. وبنتيجة النقاش قرر المؤتمر الاخذ بالملاحظات والاقتراحات والتوصيات الواردة، ويطلب من المكتب التنفيذي ادراج الأساسي منها ضمن النصوص التي ستصدر عن المؤتمر.
4ـ يدعو المؤتمر المكتب التنفيذي والمنظمة عموماً إلى إيلاء النص الخاص بالهوية الفكرية أهمية استثنائية بالنظر إلى طبيعته، ولكونه يشكل مبادرة تأسيسية في البحث حول أزمة الرأسمالية في أرقى تجلياتها الراهنة، وكذلك في أزمة التمثيل السياسي وحدود الديمقراطية المتحققة وإشكالياتها. الأمر الذي يحتل مكانة رئيسية في سياق محاولات إعادة تجديد اليسار على الصعيد العالمي، موصولاً بقضايا المنطقة، وما تواجهه من تحديات على صعيد كسر حلقة إعادة انتاج التبعية والتخلف، وفتح مسارات التنمية والتقدم. وبما يجعله منتسباً إلى قضايا البلد وأزماته.
5 ـ إذ يتنبى المؤتمر النصوص المتعلقة بالوضع السياسي على الصعيدين العربي واللبناني، فإنه يدعو إلى تعميق وتطوير ما ورد فيهما بشأن مختلف القضايا باعتبارها تتعلق مباشرة بالتوجهات البرنامجية التي تظلل الممارسة السياسية والنضاليه للمنظمة خلال المرحلة الراهنة، وفي ظل تعدد مسارات الصراع الدولي والاقليمي المحتدمة في المنطقة وعليها، مما يهدد مصيرها على نحو شامل مجتمعات وكيانات وطنية. ولذلك يشدَّد المؤتمر على موقع القضية الفلسطينية وأهميتها بإعتبارها قضية تحرر وتحرير وطني وقومي.
6ـ يتبنّى المؤتمر الخلاصات التي تضمنها التقرير التنظيمي المتعلق بتنفيذ مقررات المؤتمر الرابع وفق التوجهات البرنامجية والخططية. كما يثمِّن استجابة المنظمة هيئات وفروع لتنفيذ المهام الحزبية والمشاركة في تحمل المسؤولية والمبادرة النشطة. كما يؤكد على أهمية النتائج السياسية والتنظيمية المتحققة، المتمثلة بتكريس عودة المنظمة إلى ميادين النضال السياسي الديمقراطي بكل مستوياته. ويشدد على التزام أولويات العمل الحزبي الواردة فيه، وفق التوجهات البرنامجية الخططية التي أقرها المؤتمر، وهو يدعو الهيئات والفروع الحزبية إلى العمل على جدولة تنفيذها ووضع خطط عملها الخاص عبر مؤتمرات الفروع. كما يدعو المكتب التنفيذي إلى وضع مهمة إعادة تشكيل القطاعات قيد المتابعة.
7ـ يسجل المؤتمر أهمية اصدار الموقع الالكتروني للمنظمة باسم “بيروت الحرية”، بعد نجاحها قبلاً في اصدار مجلة “بيروت المساء” ورقياً ثم الكترونياً حتى تاريخ توقفها عن الصدور. ما ساهم في تحقيق التواصل الفكري والسياسي مع الرفاق والاصدقاء وتعزيز حضور المنظمة الاعلامي عبر تحليلاتها السياسية المستندة إلى خطها وتوجهاتها البرنامجية، ومن خلال نشر وتعميم البيانات والمواقف الصادرة عنها. ويؤكد المؤتمر على أهمية احتضان الموقع، والعمل على توسيع انتشاره من خلال استحضار المزيد من المساهمات وإعداد ونشر التحقيقات، وإثارة قضايا المناطق والقطاعات والسعي لجعل الموقع منبر سجال فكري سياسي.
8 ـ يدعو المؤتمر المكتب التنفيذي الى تحديد صيغة الإعلان عن أعمال المؤتمر في الوقت الذي يراه ملائماً.
9 ـ يدعو المؤتمر المكتب التنفيذي إلى العمل على تعميم وثائق المؤتمر بعد طباعتها. وأن يطال التعميم أوسع الأوساط الاعلامية والسياسية والديمقراطية والفكرية.
10ـ يدعو المؤتمر إلى إيلاء أهمية استثنائية لاستمرار التواصل مع البيئة الحاضنة للمنظمة، من رفاق سابقين واصدقاء وتمتين العلاقة معهم وتوسيع دائرة التواصل في المناطق والقطاعات في اطار إعادة بناء الموقع الاجتماعي للمنظمة.
11ـ كما يدعو المؤتمر إلى إيلاء الأولوية للعمل في الاوساط العمالية وقطاعات المعلمين والأساتذه والطلاب والمهن الحرة، وهو يدعو في هذا السياق إلى إحياء صيغة لجان العمل القاعدي، أو أي صيغة مناسبة لتزخيم العمل، والسعي لتفعيل حضور المنظمة وسط التجمعات الديمقراطية والثقافية.
12ـ يؤكد المؤتمر على أهمية الاحتضان والرعاية لعمل ونشاط التجمع النسائي الديمقراطي، بالنظر للدور المتميز الذي يحتله في إطار الحركة النسائية اللبنانية على أكثر من صعيد.
13ـ يشدد المؤتمر على دور الشباب وفق قاعدة الاعتراف بقدراتهم والسعي لكسب ثقتهم من خلال تشكيل أطر صديقة للحوار والتواصل والعمل معهم، إلى جانب إيلاء الاهتمام والرعاية اللازمين لإعادة تجديد إنطلاقة تجمع الشبيبة الديمقراطي والعمل على توفير مقومات استمراره وتطوره.
14ـ كما يدعو المؤتمر إلى الانفتاح على الاوساط والمجموعات اليسارية والعلمانية حيث توجد، والسعي لتنظيم الصلة بها والحوار معها بما فيه امكانية تشكيل أطر تنسيق للعمل المشترك.
15ـ يتوجه المؤتمر بالتحية إلى الرفاق المقيمين في الخارج، الذين بادروا واستجابوا لإعادة التواصل مع قيادة المنظمة، ويثمّن عالياً مشاركتهم انشتطها السياسية والاعلامية ومساهماتهم الداعمة لها. كما يولي المؤتمر أهمية خاصة لاستكمال إعادة الصلة بجميع رفاق الخارج على نحو منتظم باعتباره فرعاً حزبياً قائماً بذاته له دوره وخطته ومهامه في إطار عملنا الحزبي. ولذلك يطلب المؤتمر من سائر الهيئات متابعة تجميع واستكمال المعلومات حول من هم في الخارج من الرفاق والاصدقاء، واعتبار ذلك من المهام الحزبية ذات الأولوية.
16ـ يدعو المؤتمر إلى الاهتمام بالشأن المالي وتنظيم الجهد اللازم في سبيل زيادة موارد المنظمة من أجل حماية استقلاليتها، وتمكينها من القيام بما هو مترتب عليها من أدوار ومهام.
17ـ يجدد المؤتمر التوصية المتعلقة بإعداد نصوص المراجعة الفكرية السياسية التي ابتدأت منذ العام 1988 وصولاً إلى العام 2009، تمهيداً لاصدارها. وذلك بالنظر إلى أهميتها الإستثنائية في إعادة قراءة تجربة الحرب الاهلية الأخيرة ودور اليسار والمنظمة فيها. كما في استشراف آفاق وإمكانات وقدرة المنظمة على تجديد وتجدد هذه المراجعة وتعميقها في آن.
18ـ يوصي المؤتمر المكتب التنفيذي بالعمل على تنظيم وتبويب أرشيف المنظمة الفكري والسياسي والتنظيمي والنضالي، تحت راية “منظمة العمل الشيوعي في لبنان” باعتبارها مثّلت ولا تزال تجربة فكرية سياسية ونضالية مجيدة في تاريخ اليسار والبلد. تجربة موصولة بما انتهينا إليه راهناً، وما نطمح لبلوغه من محاولة تجديدية لحركة يسارية ديمقراطية علمانية تستظل رايات التغيير الديمقراطي في البلد. الأمر الذي يتطلب حفظ وثائقها وحمايتها من العبث أو التلف، وإبقائها مرجعاً متاحاً يمكن العودة له والاستناد إليه في كل الابحاث والدراسات العامة والخاصة.
19ـ يقرر المؤتمر وضع النظام الداخلي في صيغته النهائية والمقر من قبله موضع التطبيق. وهو لذلك يطلب إلى الهيئات الحزبية كافة الالتزام بموجباته، بدءاً من المؤتمر العام وانتخاب الهيئات المنبقة عنه، إلى سائر الهيئات الأخرى.
20ـ يقرر المؤتمر أن الاسم الجديد للمنظمة المتصل بالهوية الفكرية ومستنداتها القائمة على الخيار الاشتراكي ومبادىء الديمقراطية وقيم العلمانية، قد أصبح على النحو التالي: “منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني”. واستكمالاً لذلك يطلب المؤتمر من المكتب التنفيذي أن يُقرر شكل العلم الجديد للمنظمة وصيغة الرمز الاعلامي لها بما يتلاءم مع اسمها وهويتها الفكرية الجديدان.
النظام الداخــلـي
المبادىء والأهداف
1ـ منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني هي تنظيم سياسي لبناني يناضل من أجل بناء وطن ديمقراطي حداثي منفتح على العالم العربي والعالم وشعوبه.
2ـ تتبنى المنظمة الخيار الاشتراكي بكل أبعاده التحررية والديمقراطية والانسانية، وتستفيد من التجارب النضالية الغنية، وتناضل في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة كل اشكال الاستغلال والإنغلاق والتعصب والجمود الفكري.
3ـ تلتزم المنظمة المفهوم الانساني للديمقراطية القائمة على المساواة والمشاركة بين المواطنين في شتى ميادين الحياة، والمرتبطة بمبادىء العلمانية الرحبة والحضارية المستندة إلى قيم المواطنة والحداثة والتقدم العلمي والعقلانية التي تحترم حرية المعتقد الديني والفكري والعمل الحزبي.
4ـ تتمثل المنظمة الهوية الوطنية المستندة إلى الأسس المكونة للاجتماع اللبناني، على نحو يجعلها قابلة للتفاعل والتكامل بين مكوناتها الحضارية المتعددة المتنوعة والغنية، وبما يبقيها هوية واحدة منتسبة إلى العروبة الديموقراطية الرحبة المنفتحة على قيم العصر التقدمية، والقائمة على المصارحة والمسامحة والحرية، وفق أسس المساواة في الحقوق والواجبات، مواطنين ومسؤولين، أمام القانون وفي الخضوع أمام سلطة القضاء.
5ـ تلتزم المنظمة المواثيق والاتفاقات الدولية التي تحترم الانسان وحقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وتضمن المساواة بين الشعوب والأجناس وتحفظ حقوقها الطبيعية، وتناضل من أجل تحويل ما جاءت به إلى وقائع راسخة.
6ـ تناضل المنظمة سلمياً في سبيل التغيير الديمقراطي الحقيقي، ومن أجل بناء دولة القانون والمؤسسات، على اسس المساواة في الحقوق والواجبات. بما يقطع مع نظام المحاصصة السياسية والادارية القائم على الامتيازات الطائفية والمذهبية والطبقية والمصالح غير المشروعة، على نحو يحقق فصل وتوازن السلطات، ويربط التمثيل والقرار السياسي بصناديق الاقتراع، والتحول إلى جمهورية برلمانية وفق مسار ديمقراطي متنامٍ.
7ـ تدعو المنظمة إلى تشجيع العمل والانتاج لتحقيق تنمية متوازنة وبناء اقتصاد منتج متنوع وتنافسي. وتحترم المنظمة الملكية الخاصة في اطار القوانين التي تمنع الإستغلال والاحتكار وأشكال الافتئات على الحقوق القطاعية والعامة.
8 ـ تسعى المنظمة لقيام وطن متضامن الشرائح والفئات الاجتماعية، من دون فقر وأمية أو تهميش. وطن يحتل فيه النساء والشباب مواقع المسؤولية في مؤسسات الدولة والادارة وقطاعات العمل بما يتناسب مع وزنهم في المجتمع، وبما يبقيهم في بلادهم ثروة لوطنهم ومستقبله.
9ـ المنظمة تنظيم يساري مستقل في خياراته وإدارة شؤونه عن أجهزة الدولة السياسية والامنية، وعن المجتمع الأهلي ـ الطائفي ومراكز النفوذ الاقتصادي والمالي، في الداخل والخارج.
10ـ تعتمد المنظمة التوعية والنقاش الفكري، الثقافي، الاجتماعي والنضال الجماهيري السلمي للدفاع عن مشروعها المجتمعي الديمقراطي وبرنامجها السياسي، المنحاز لمصالح الوطن العليا ولحقوق أكثرية المواطنين والمواطنات والمتضررين من الإنهيار ومن الاستغلال والقهر والتهميش والحرمان.
11ـ تشدد المنظمة على سيادة المبادئ الديمقراطية وتطوير الالتزام بمضامينها في العلاقات الحزبية الداخلية، إن لجهة دورية انعقاد المؤتمرات والاجتماعات أم لجهة السماح وتشجيع تنوع الأراء، وكفالة حرية وحق التعبير الداخلي عنها، فضلاً عن حقوق الترشح لعضوية الهيئات الحزبية والتداول على المهام الحزبية وممارسة النقد العلني والمحاسبة، إلى جانب احترام القرارات الحزبية المتخذة ديمقراطياً وعدم عرقلة تنفيذها والتقيد بأصول التعامل الرفاقي في الدفاع عن الرأي.
اللائحة النظاميــــــة
المادة الأولى: التزامات العضوية المنتسبة
1ـ تشكل منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني اتحاداً طوعياً لمناضلين انتسبوا إليها، في تواريخ مختلفة من مسيرتها الممتدة خمسة عقود، حافلة في ميادين الطرح الفكري والممارسة السياسية والنضالية على جميع الصُعد الوطنية والاجتماعية والثقافية.
2ـ تستند التزامات العضوية المنتسبة إلى حدود أهليتها وطاقاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية، وتطمح إلى الاضطلاع بدور متميز ومبادر في النضال من أجل التغيير السلمي الديمقراطي الحقيقي، وتحقيق المساواة في الحقوق والواجبات بين اللبنانيين، وضمان الحقوق الاساسية للمواطنين.
3ـ يعمل عضو المنظمة على نشر مبادىء المنظمة وأهدافها ويشرح برامجها ويدافع عنها ويدعو للانتساب لها. كما يحرص على توثيق صلتها بالفئات الاجتماعية والشعبية والقطاعات المهنية وقضاياها، ويشارك في نضالاتها في سبيل نيل حقوقها وتحقيق مطالبها المشروعة.
4ـ يساهم عضو المنظمة في إغناء خطها وتحديد مواقفها ورسم خططها وتطوير اساليب عملها بواسطة النقاش داخل الوحدة أو الهيئة التي ينتسب لها وفي الأطر التي يشارك فيها.
5 ـ يلتزم عضو المنظمة بواجب احترام القرارات الحزبية المتخذة ديمقراطياً، وعدم عرقلة تنفيذها، والتقيد بأصول التعامل الرفاقي في الدفاع عن الرأي الآخر.
6ـ يلتزم عضو المنظمة بواجباته في حضور اجتماعات وحدته أو هيئته ويساهم في نقاشاتها ونشاطاتها وينفذ قراراتها، ويدفع اشتراكاته ويعمل على تنمية موارد المنظمة
7ـ يمارس حقه في مراقبة عمل الهيئات، ويطعن بالتدابير والعقوبات المتخذه بحقه، ويمارس النقد والنقد الذاتي.
8 ـ يلتزم عضو المنظمة في مهنته أو عمله بواجب احترام القانون ويعمل على تطويره واحترام المواطنين وحسن التعامل معهم.
المادة الثانية: حقوق العضوية المنتسبة
1ـ تستند حقوق العضوية، المنتسبة لمنظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني إلى خيار الديمقراطية غير المقيدة بأي قيد مبدئي على صعيد ممارسة العلاقات التنظيمية. وهو الخيار الذي ينظم الحق في الاختلاف ويضمن تشكيل التيارات وتمثيلها انتخابياً في الجهاز التقريري.
2ـ إن العلاقات التنظيمية الديمقراطية، المنفتحة وغير المقيدة، تتطلب وجود مركز مهمته السهر على تطبيق التزامات العضوية المنتسبة وحماية حقوقها في آن، ويؤمن الوحدة السياسية والنضالية الطوعية للمنظمة على قاعدة حرية الرأي الفكري وممارسة الاجتهاد السياسي، وحق التعبير عن المواقف المتنوعة داخل المنظمة وخارجها. على أن يقترن ذلك كله باحترام المواقف التي تصدر سالكة طريق النقاش المفتوح والتصويت الحر. ما يعني أن قرارات الأكثرية في جميع الهيئات تكون نافذة، ويكون رأي الأقلية محترماً وحاضراً وواضحاً.
3ـ يحتل حق الترشيح الحر والاقتراع الحر جميع الأطر والمواقع والمراكز التنظيمية مكانة رئيسية غير قابلة للانتقاص ضمن حقوق العضوية المنتسبة وفق آليات الحياة الحزبية الداخلية للمنظمة.
المادة الثالثة: الإنتساب إلى المنظمة
1ـ عضوية المنظمة مفتوحة أمام كل لبناني/ نية، حسن السلوك والسيرة وغير محكوم بجناية أو جنحة شائنة.
2ـ يتبنى أهدافها وبرنامجها ويوافق على نظامها الداخلي ويناضل في إحدى وحداتها أو هيئاتها، ويدفع اشتراكه المالي.
3ـ يقدم المرشح للعضوية طلب انتساب عبر أي من وحدات المنظمة، بعد الاطلاع على اهدافها ومبادئها وبرنامج عملها. وينظم إلى إحدى حلقاتها.
4ـ بعد مناقشة الطلب وتزكيته في الوحدة المنظمة، ترفعه إلى هيئة الفرع أو القطاع التي تبت به، وتبلِّغ الموافقة إلى الجهات المعنية.
المادة الرابعة: البناء الداخـلي للمنظمة
يتكون البناء الداخلي للمنظمة من الأطر والمواقع التنظيمية الآتية:
1ـ المؤتمر العام
2ـ المجلس الوطني
3ـ المكتب التنفيذي
4ـ مؤتمر المنطقة أو القطاع
5ـ هيئة المنطقة أو القطاع
6ـ الخلايا
7ـ الحلقات
المادة الخامسة: المؤتمـر العـام
1ـ يتألف المؤتمر العام من جميع الأعضاء العاملين في مواقع الانتساب الحزبي، وينعقد دورياً وفق آلية التمثيل النسبي، أو في صيغة جميعة عامة.
2ـ يتخذ المؤتمر العام في دورة انعقاده العادية، وفي أي دورة استثنائية يعقدها، القرارات اللازمة في خصوص الهوية الفكرية للمنظمة وخطها السياسي وتوجهاتها البرنامجية والخططية العامة وحول قضايا عملها التنظيمي.
3ـ ينعقد المؤتمر في دورته العادية كل ثلاث سنوات. كما يمكن عقد مؤتمر استثنائي أو كونفرانس عندما تدعو الحاجة، وفق جدول أعمال محدد. وذلك بناءً لدعوة المكتب التنفيذي، أو طلب ثلث أعضاء المجلس الوطني، أو 10% من أعضاء التنظيم.
4ـ ينتخب المؤتمر العام أعضاء الهيئات المنبثقة عنه، في دورتي إقتراع، وذلك بعد تحديد العدد: أولاً أعضاء المكتب التنفيذي، ثم أعضاء المجلس الوطني.
المادة السادسة: عضوية المجلس الوطني
يتألف المجلس الوطني من عضوية منتخبة وعضوية حكمية.
1ـ الأعضاء الحكميون: هم جميع الأعضاء المنتخبون لعضوية المكتب التنفيذي، وفق العدد الذي يقرره المؤتمر، بما يتلاءم مع وضع التنظيم وحاجات العمل الحزبي. يتوزع الأعضاء بين عضوية كاملة الحقوق وعضوية مرشحة بنسبة الثلث وفق عدد الاصوات من الأعلى إلى الأدنى.
2ـ الاعضاء المنتخبون من المؤتمر لعضوية المجلس الوطني بنسبة توازي ضعفي عدد أعضاء المكتب التنفيذي أو أكثر تبعاً لما يرتأيه المؤتمر. أخذاً بنظر الاعتبار أهمية مشاركة هؤلاء الرفاق في هذا الموقع استناداً لتجاربهم ومساهمتهم الفكرية والثقافية الديمقراطية والنضالية.
3ـ يتم انتخاب جميع أعضاء المكتب التنفيذي والمجلس الوطني من قبل المؤتمر العام استناداً للأسس التنظيمية الديمقراطية وفق قواعد الترشيح العلني المعلل والإقتراع السري. وفي حال تساوى عدد الاصوات بالنسبة للعضوية الأخيرة يعاد الاقتراع حول الرفيقين المعنيين لتحديد اسم الفائز منهما.
المادة السابعة: المجلس الوطني
1ـ ينعقد المجلس الوطني بشكل دوري كل ثلاثة أشهر، واستثنائياً بناءً لدعوة المكتب التنفيذي أو لطلب 10 من اعضائه.
2ـ يقوم المجلس الوطني بمهام المؤتمر العام بين دورتي انعقاده، ويناقش تقارير المكتب التنفيذي حول قضايا الوضع السياسي، وتقارير مؤتمرات الفروع والقطاعات المتعلقة بخطط عملها ومتابعته تنفيذها، ويقرر التوجهات اللازمة بشأنها، كما يتولى مراقبة أدائها في القيام بواجباتها. كما يشكل لجان عمل تتعلق بالمهام الموكلة له وذات الطبيعة القطاعية، بما فيها لجنة مالية لتنمية موارد المنظمة.
3ـ ينتخب المجلس الوطني رئيساً يتولى إدارة اجتماعاته الدورية، ومتابعة عمل اللجان، بالتنسيق مع المكتب التنفيذي.
المادة الثامنة: المكـتب التنفيـذي
1ـ يُشكل المكتب التنفيذي الهيئة القيادية الأولى التي تتولى مهمة تنظيم وتزخيم مسيرة المنظمة نحو تنفيذ مضمون القرارات والوثائق الصادرة عن المؤتمر العام. وهو يقوم مقام المجلس الوطني بين دورات انعقاده العادية والاستثنائية.
2ـ يضطلع المكتب التنفيذي، وعلى وجه الخصوص، بمهمة المتابعة اللازمة لوضع التوجهات الخططية للمنظمة موضع التطبيق لدى جميع فروع التنظيم في شتى مجالات العمل الحزبي.
3ـ اجتماعات المكتب التنفيذي دورية، ويشارك فيها جميع الأعضاء، وتصدر القرارات باكثرية الأعضاء غير المرشحين.
4ـ يعوّض المكتب النقص الناشيء في عضويته الكاملة لأي سبب كان، بالتصويت من داخل العضوية المرشحة، بما يتوافق مع الحاجات النضالية السياسية والتنظيمية على نحو يراعي تمثيل المناطق والقطاعات.
5 ـ تقتصر العضوية الكاملة في المكتب التنفيذي فقط على دورتين متتاليين..
ـ يشكل المكتب اللجان الحزبية الفرعية. ويحدد ويتابع تنفيذ المهام الموكلة لها.
6ـ يشكل المكتب اللجنة الاعلامية المركزية التي تتولى شؤون الاعلام والاشراف على الموقع الخاص بالمنظمة وتشكيل أسرة التحرير.
7ـ ينتخب المكتب التنفيذي من بين أعضائه رئيساً ونائباً للرئيس وأميناً للسر، ويكلّف من بين أعضائه مسؤولاً إدارياً ومالياً ومسؤولاً أمام السلطات.
المادة التاسعة: رئيس المكتب
1ـ يضطلع الرئيس بمهام قيادة أعمال المكتب التنفيذي، وإعداد وتحضير مشاريع التقارير السياسية والتنظيمية، ويترأس اجتماعات المكتب أثناء انعقاده، ويتولى الإشراف والمتابعة على مسيرة المنظمة نحو تنفيذ توجهاتها الخططية الحزبية.
2ـ يمارس الرئيس دور الناطق الرسمي باسم المنظمة.
3ـ يقود الرئيس عمل المكتب التنفيذي باعتباره مرجعية حزبية مسؤولة عن قيادة عمل المنظمة في مختلف المجالات.
المادة العاشرة: نائب الرئيس
1 ـ يتولى نائب الرئيس مهمة إدارة جلسات المكتب التنفيذي وتأمين سير أعماله في غياب الرئيس، بالإضافة إلى عضويته في المكتب، إلى جانب مهامه العادية.
2ـ يساهم في التنسيق والتشاور المنتظم مع رئيس المكتب وامين سره في متابعة شؤون المنظمة.
المادة الحادية عشر: أمين السر
يضطلع أمين السر بمهمة ضبط محاضر اجتماعات المكتب وتعميم قراراته ومتابعة شؤونه الإدارية. ويتعاون مع رئيس المكتب ونائبه في المتابعة مع أمناء سر هيئات المناطق والفروع حول كل ما يتصل بعمل هذه الهيئات.
المادة الثانية عشر: مؤتمر فرع المنطقة أو القطاع
1ـ يشكل مؤتمر الفرع أعلى هيئة في المنطقة او القطاع، وينعقد بشكل دوري كل عام، ويمكن دعوته استثنائياً، بناءً لطلب 10% من اعضائه أو المكتب التنفيذي.
2ـ يتألف مؤتمر الفرع من جميع الأعضاء العاملين في مواقع الانتساب الحزبي في نطاق المنطقة الجغرافية أو القطاع المهني.
3ـ يشكل مؤتمر الفرع إطاراً جماعياً لمناقشة الوثائق والقرارات الصادرة عن المؤتمر العام، وتنفيذ ما يخصه من التوجهات الخططية العامة للمنظمة. كما يرفع الاقتراحات والتوصيات إلى الهيئات الحزبية القيادية.
4ـ ينتخب مؤتمر الفرع في المنطقة أوالقطاع هيئة له، وفق آلية الترشح العلني والاقتراع السري، وهو من يحدد عدد أعضائها بما يتناسب مع ضرورات وحاجات العمل. وفي حال تساوي الاصوات بالنسبة للعضو الأخير يعاد الاقتراع بينهما.
المادة الثالثة عشر: هيئة الفرع
1ـ تتولى الهيئة قيادة عمل الفرع ووحداته في المنطقة أو القطاع، وتنفيذ قرارات وتوجهات المؤتمر العام والمكتب التنفيذي ومؤتمر الفرع.
2ـ تنتخب الهيئة أمين سر يتولى تنظيم الاجتماعات ويساهم في تنفيذ القرارات ويكون مسؤولاً عن أعماله تجاهها.
3ـ ترفع الهيئة بواسطة أمين السر تقارير عن أعمالها إلى المكتب التنفيذي.
المادة الرابعة عشر: الخلية
1ـ الخلية هي الوحدة الحزبية القاعدية. تتشكل المنطقة أو الفرع من الخلايا، في النطاق الجغرافي أو القطاعي.
2ـ تشارك الخلية في نقاش ووضع الخطة العامة والخطط الفرعية أو القطاعية، وفي صياغة برامج العمل وتتولى تنفيذ ما يقع ضمن مهامها ومجال عملها.
3ـ تساهم في توسيع الإنتماء إلى صفوف المنظمة وتُعنى بتنمية الوعي الوطني والسياسي لاعضائها وتمتين علاقتهم بالمنظمة وتعميق التزامهم بمبادئها واهدافها.
4ـ تنتخب الخلية أميناً للسر. يتولى تنظيم اجتماعاتها ويساهم في تنفيذ مهامها وتنمية العمل الجماعي بين اعضائها، ويكون مسؤولاً عن اعماله أمامها، وتستطيع استبداله بأكثرية أعضائها.
5ـ تتولى الخلية تنفيذ خطة المنطقة وتوجهاتها وقراراتها، وترفع تقارير دورية عن اعمالها وتضمنها إقتراحاتها وتوصياتها إلى هيئة الفرع أو القطاع.
المادة الخامسة عشر: العضوية المرشحة
الحلقة هي وحدة حزبية تأهيلية لمنضوين جدداً في هيكل المنظمة يدير أعمالها رفيق منتدب من هيئة الفرع أو الخلية.
المادة السادسة عشر: المالية
1ـ يدفع جميع الأعضاء إشتراكاً مالياً شهرياً لتكريس استقلالية المنظمة وتأمين نفقاتها.
2ـ تتولى اللجنة المالية المركزية واللجان المناطقية في الفروع تنظيم النشاطات التي تستهدف تنمية مالية المنظمة.
المادة السابعة عشر: التدابير والعقوبات التنظيمية
أـ الأسباب الموجبة
تتخذ التدابير والعقوبات الحزبية بحق الأعضاء في الحالات التالية:
1ـ التسيب والاهمال في تنفيذ المهام التنظيمية. وإساءة التصرف بأموال المنظمة.
2ـ النشاط الانقسامي المتجاوز للأطر التنظيمية.
3ـ التمرد على القرارات والتوجيهات القيادية ورفض تنفيذ قرارات الاكثرية.
4ـ التخلف عن حضور الاجتماعات وعن دفع الاشتراكات دون عذر لمدة ستة أشهر.
5ـ تعريض سمعة وامن المنظمة للتشويه والخطر.
ب ـ التدابير والعقوبات
تحدد التدابير والعقوبات الحزبية على النحو التالي: اللوم ـ اللوم الشديد ـ الإنذار ـ التجميد ـ الفصل.
ج ـ آلية تقرير التدابير والعقوبات:
تؤخذ التدابير والعقوبات بحق العضو في وحدته أو هيئته بالأكثرية. أما عقوبات التجميد والفصل فلا تصبح نافذه إلا بعد موافقة المكتب التنفيذي. وبالنسبة لأعضاء المكتب والمجلس الوطني فالأمر يحتاج لموافقة أكثرية ثلثي أعضائهما.
المادة الثامنة عشر: تعديل النظام الداخلي
ـ المؤتمر العام هو وحده صاحب الحق في تعديل اللائحة النظامية.
Leave a Comment