سياسة

حوار مع زكي طه.. بعد تحول منظمة العمل الشيوعي إلى “اليساري الديمقراطي العلماني” (1-2)

حاورته: فاطمة حوحو*

 عاودت منظمة العمل الشيوعي حضورها السياسي والنضالي على الساحة اللبنانية بعد غياب طال، لكنها مؤخراً صدرت متخليّة عن صفحة الشيوعية في اسمها، بعدما تبنّت خياراً يسارياً ديمقراطياً علمانياً منفتحاً على التطورات، وإن كان بحاجة إلى الكثير من الحفر على صياغة مقولاته وطروحاته. تعترف المنظمة التي بات اسمها “منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني”، بموجب ما قرره مؤتمرها الخامس، والأول للمنظمة اليسارية أن صياغة البرنامج الاشتراكي مثلاً نسخة العام 2022 مهمة كل اليساريين في العالم، انطلاقاً من خصوصية أوضاع كل منهم.  

في هذه المقابلة نطل على جديد المنظمة، ليس فقط في مجال المساهمة الفكرية التي طالما عُرفت بها على عهد أمين عامها الراحل المناضل الوطني والقومي العربي محسن ابراهيم، بل في رحلة ما بعد غيابه على صعيد رؤيتها للواقعين العربي واللبناني وبالطبع العالمي. لذا جاءت هذه المقابلة مع رئيس المكتب التنفيذي لمنظمة العمل اليساري زكـي طـه ليضيء على الكثير من الدروب في مسيرة هذا التنظيم، ورؤيته للأوضاع العربية واللبنانية على وجه التحديد، ولاسيما التحديات التي يواجهها لبنان وكيانات وشعوب المنطقة، والدور الذي يلعبه حزب الله وسلاحه الأهلي:  

  * غابت منظمة العمل الشيوعي عن السياسة منذ نهاية الثمانينات وضمر نشاطها كثيراً وتفرق عناصرها، وتوزعت قياداتها على منظمات أخرى، أو اعتكفت في منازلها. ما هي عوامل وأسباب الانكفاء ومضاعفاته؟ 

– لاشك أن السؤال مشروع في الشكل والمضمون. لأن المنظمة غابت عن المسرح السياسي على نحو إجمالي منذ العام 1998 تاريخ صدور آخر بيانات لجنتها المركزية تقييماً  لنتائج وأداء سائر اطراف السلطة والمعارضة في لإنتخابات البلدية، في ظل الادارة السورية للبنان. البيان الذي انتهى  بدعوة صريحة لقوى اليسار اللبناني أن تعيد النظر بتجربتها مدخلاً لتجديد دورها عبر الانتساب إلى أزمات البلد  المتجددة مع تنفيذ  دستورالطائف الذي  قبل به اللبنانيون بديلاً عن استمرار الحرب الأهلية العبثية. علماً أن خروج  المنظمة من تلك  الحرب عام  1986 واقتصار دورها على النضال في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية قبل تعثرها، قد شكل بداية ومدخل مراجعتها النقدية لتجربتها، في ضوء ما انتهت إليه مغامرة الاصلاح عبر ركوب موجة الحرب الأهلية ونتائجها التدميرية، وفي امتداد مضاعفات تحميل لبنان منفرداً الأعباء  المسلحة للقضية الفلسطينية باعتبارها رافعة تحررية للمنطقة العربية. وما ضاعف أزمة اليسار وحاجته لإعادة النظر بمنطلقاته الفكرية وبرامجه السياسية وآلياته التنظيمية، التحديات التي فرضتها المستجدات والمتغيرات الكبرى على الصعيدين العالمي والعربي، التي تمثلت بانهيار منظومة المعسكر الاشتراكي وتداعياتها سواء على الصعيد العالمي أو على المستوى الفكري والسياسي، وإلى جانبها مآل الصراع العربي الاسرائيلي، بعد انتهاء مرحلة النضال الفلسطيني المسلح من الخارج، والانتفاضة الشعبية على أرضه في مواجهة الاحتلال الصهيوني، بالتزامن مع التحضيرات الاميركية لمؤتمر السلام العربي الاسرائيلي. بما فيه القرار  الدولي العربي بوقف الحرب الاهلية اللبنانية وإقرار تسوية الطائف التي كُلف النظام السوري الاشراف على تطبيقها، مقابل موافقته على حضور مؤتمر السلام، ومشاركته في التحالف الدولي لتحرير الكويت واحتلال العراق وتدمير دولته بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وأمام أولوية المراجعة النقدية، وتعثر محاولة الجمع بين موجباتها والاستمرار في ميدان الممارسة السياسية، كان خيار الانكفاء المؤقت والانصراف لانجاز المراجعة نظراً لأهميتها.

 غير أن المؤقت طال كثيراُ نظراً لاتساع ميادين البحث من الفكري إلى السياسي على الصعيدين الدولي والعربي، وصولاً إلى تعدد ملفات الوضع اللبناني وقضايا  أزمة المنظمة واليسار دوراً واوضاعاً في شتى مجالات الفكر والسياسة والتنظيم واشكال النضال وميادينه، وما يترتب  عليها من نتائج وتحديات نحو التجديد.  يضاف إلى ذلك شح الامكانات وصعوبات الوضع العام في ظل الوصاية السورية على البلد وانعكاساتها على اوضاع المنظمة. أما المضاعفات فكانت ضموراً في القوى،  إما تعباً أو ياساً واعتكافاً أمام تحديات التجديد، وإما استهسالاً لدى بعض القيادات والكوادر الحزبية التي اعتمدت خيارات أخرى بحثاً عن مواقع  أو أدوار عبرالالتحاق ببعض قوى نظام الطائف إما التي ترفع شعارات الإعمار أو المقاومة من مواقع طائفية.   

غير أن الكتلة الحزبية المتبقية بقيادة الامين العام الراحل محسن ابراهيم، ورغم الصعوبات لم تتوانَ عن بذل أي جهد لاستكمال المراجعة النقدية، واستخلاص دروس التجربة السابقة في شتى ميادينها وصولاً إلى فتح البحث على مصراعية لاستكشاف آفاق وامكانات تجديد اليسار من بواباته الفكرية والسياسية الأوسع. صحيح أن الغياب عن مسرح الممارسة السياسية النضالية  كان مديداً وبعضه غير مبرر، ولأن خسائر المنظمة على صعيد القوى والانتشار كانت  كبيرة جداً،  فقد أصبح  خروجها من الانكفاء بعد عقدين من الزمن أمراً صعباً، ويكاد أن يكون مستحيلاً. لكن الصحيح أيضاَ أن ما أنجزته المنظمة بقيادة أمينها العام الراحل وبمبادرة  فردية منه وبتفاعل من اللجنة المركزية، كان استثنائياً  واسس لامكانية تجدد وتجديد تجربة يسارية  مختلفة عما كان. ولأنه يشكل رصيداً ثميناً لمستقبل العمل اليساري على الصعيدين العربي واللبناني، نحن بصدد التحضير لنشره قريباً.

* اليوم تعودون بصيغة أخرى وباسم آخر. كيف تفسرون هذا الغياب والعودة إلى الساحة السياسية اللبنانية والعربية؟

– لم يكن قرار الخروج من الانكفاء سهلاً، ولم نكن نرغب في عودة  شكلية صاخبة  إعلامياً لا وظيفة لها. لذلك اخترنا العودة المتدرجة ضمن وجهة اختبارية في ميدان الطرح والخطاب السياسي، من أجل استكشاف مواقع أقدام المنظمة، واختبار مدى أهلية الجسم الحزبي في العودة إلى ميادين الممارسة السياسية والنضالية بعد طول انقطاع، في ظل انعدام الحياة السياسية ومصادرتها من قبل قوى الطبقة الحاكمة الطائفية، وصراعات المحاصصة بينها على السلطة والمغانم، على نحو يفاقم أزمات البلد ويدفع بها للانفجار.  لقد حكم عودة المنظمة عدم التنكر أو الهروب من المسؤولية عن تجربتها وأخطائها ونتائجها، وقد بدأ الافصاح عن بعضها في البيان الفكري السياسي الذي ادلى به محسن ابراهيم عام 2005 في ذكرى أربعين الشهيد جورج حاوي،  سواء حول خطأ تحميل لبنان منفرداً الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل. أو بشأن استسهال ركوب سفينة الحرب الاهلية، تحت وهم اختصار الطريق للتغيير الديمقراطي، مما كان له نتائج تدميرية  وتداعيات خطيرة طاولت بنية البلد، ووجهت ضربة كبرى لقوى اليسار فيه. يبقى أن القرار المتأخر لمغادرة الانكفاء الذي اتخذه المؤتمر الثالث  عام 2013، لم ياخذ طريقه للنفاذ الا منتصف عام 2015، عبراستئناف صدور مجلة  المنظمة “بيروت المساء”، ومشاركتها  في التحركات الاحتجاجية، والانتخابات البلدية عام 2016، ومن ثم الانتخابات النيابية عام 2018. ما شكل مقدمات انعقاد المؤتمر الرابع خريف ذاك العام. ورغم الاحتفاظ  باسم المنظمة، فقد عكست وثائقه التوجهات السياسية  الجديدة حول أبرز قضايا الوضع العربي من بوابتي القضية الفلسطينية والمسألة السورية، وحول أبرز قضايا ومشكلات الوضع اللبناني وما يواجهه من تحديات لناحية أزمة نظام الطائف، واحتدام صراعات  قواه الطائفية التي أخذت وجهة تعطيلية لمؤسسات الدولة، ورهن البلد لمحاور الصراع الاقليمي. مما كان له  مضاعفات سلبية على اوضاعه السياسية والاقتصادية نظراً لاختلال موازين القوى الداخلية، وتفاقم معضلة السلاح الأهلي تحت راية المقاومة وانقسام الطبقة السياسية حول أزمات المنطقة ومشاركة حزب الله  العسكرية في الحرب الاهلية السورية بكل ابعادها الاقليمية والدولية.  لكن الأهم كان المبادرة الفكرية السياسية التي أقرها المؤتمر الرابع للمنظمة  تحت عنوان: “نحو حزب يساري ديمقراطي علماني- ونحو حركة ديمقراطية علمانية عربية”.  أما المؤتمر الخامس فقد انعقد مطلع العام الحالي متأخراً عن موعده المقرر، الذي تزامن مع انتفاضة 17 تشرين 2019. وهي التيأتت  في امتداد  ازمات البلد والنظام،  وبرّزت أزمة المعارضة واليسار تحديداً.  قررت المنظمة خوض غمار الانتساب لها دون أوهام،  بعتباره فرصة استثنائية لها لاختبار طروحاتها وجدارتها في دق ابواب تجربة يسارية جديدة ومتجددة في آن. أما تغيير اسم المنظمة من قبل المؤتمر الخامس فإنه يقع في امتداد التزامها  وجهة فكرية  ترى في خيار الاشتراكية أرقى درجات الديمقرطية، وفي سياق ربط كلاهما بالعلمانية الرحبة مدخلاً للمواطنية والمساواة  بين اللبنانيين وسبيلاً لتحقيق العدالة الاجتماعية. 

* ما هي العناصر والعوامل اللبنانية والعربية لعودتكم اليوم؟

– لا شك  أن تضافر العوامل الداخلية وتداخلها مع العوامل الخارجية التي تضج بها المنطقة العربية كيانات ودول ومجتمعات، لم تأت من فراغ بقدر ماهي انعكاس لحجم الازمات والمشكلات التي  يواجهها الوضع العربي على نحو لا سابق له على امتداد مائة عام هي العمر الزمني لتشكل  غالبية كياناته بصيغتها الراهنة، وهي نتاج فشل محاولات وتجارب نهوض متنوعة اتخذت اشكالا متعددة سواء في مراحل  النضال من أجل الاستقلال، أو عبر التجارب الوحدوية وتشكل المنظمات الاقليمية وما سبقها من إعلاء شعارات الاشتراكية والتقدم والوحدة من قبل نظم استبدادية استظلت رايات فلسطين، والصراع العربي الاسرائيلي لمصادرة الحياة السياسية في بلدانها. الأمر الذي ساهم في تعميق الأزمات البنيوية لتلك البلدان وأدى إلى اختناق مجتمعاتها وانفجارها  في صيغة انتفاضات عفوية، افتقدت للبرامج ولحضور وحيوية القوى  الديمقراطية واليسارية القادرة على تأطيرها وقيادتها في مسارات التغيير والتقدم. الأمر الذي مكّن النظم الحاكمة الساعية لتابيد سلطاتها من استدراج الانتفاضات إلى فخ  العنف وسط استسهال تفكيك مجتمعاتها وزجها في حروب أهلية مفتوحة، وتشريع بلدانها ساحات لتدخل القوى الاقليمية  والدولية المتصارعة حول مصالحها  في المنطقة، وهي الساعية لتقاسم الهيمنة والسيطرة عليها ونهب مواردها في آن.  

لا يختلف الوضع اللبناني بأزماته البنيوية المتعددة كيانا ونظاماً ومجتمعاً عن سائر دول محيطه العربي. وقد بات مصيرها دولاً ومجتمعات ونخب أمام تحديات مصيرية لا يشكل الهروب من موجباتها والاستقالة من المسؤولية عن تقرير المصير وحسب، سوى عملية  استسلام وتسليم وخضوع. الامر الذي كان في اساس مبادرة المنظمة إلى مراجعة تجربتها ونقدها واستخلاص دروسها باعتباره مدخلاً وحيداً للتجديد، مع ما يرافقه من قراءة متجددة للوضع العربي الراهن، وما يتيحه من امكانات في سبيل مواجهة معضلاته واشكالياته عبر اشتقاق برامج تغييرية وتجديد حركة ديمقراطية علمانية.   (يتبع)  

*نقلاً عن موقع “السؤال الان” الالكتروني/ https://www.assoual.com/تاريخ 25 نيسان 2022

Leave a Comment