اقتصاد

اعلان “إفلاس” الدولة والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي 2\ 2 جمعية المصارف ترفض الاتفاق والغائب الأكبر هو صوت المعارضة

 زهير هواري

عندما عاد وفد صندوق النقد الدولي المفاوض إلى لبنان جال على رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة قبل أن يبدأ ورشة اجتماعاته في القصر الحكومي التي انتهت إلى الاتفاق على نص مسودة الاتفاق المبدئي، وتوقيعه بالأحرف الأولى، أو “اتفاق الموظفين”  بناءً لأدبيات الصندوق، باعتباره غير ملزم لمن هم أعلى من وفدي المفاوضات من مسؤولين دوليين ولبنانيين. ماذا تعني الجولة والتوقيع على هذا المستوى المتدني؟

الواضح عدم ثقة الصندوق بالمنظومة السياسية الحاكمة التي تفتقد إلى مرجعية القرار، والمصداقية أمام الهيئات والدول في ضوء تكرار الحديث عن اصلاحات دون تنفيذ أي منها، هذا من جهة أولى.  ما يعني من جهة ثانية  أن رحلة إقرار الحصول على القروض إلى لبنان طويلة، وليست متاحة بالسهولة التي توهمها المسؤولون اللبنانيون، الذين راهنوا أن تُغدق الأموال على البلاد  وتنقذها من عثرة الافلاس، وهو ما ليس وارداً. والاتفاق المبدئي لا يملك أي أثر فعلي على مستوى إنجاز التفاهم النهائي، ما لم ينجز لبنان الخطوات المطلوبة منه. فكما بات معلوماً، ربط وفد الصندوق توقيع الاتفاق النهائي مع لبنان بشروط واضحة وحاسمة، لا يمكنه معها المضي قدماً في الاتفاق من دون إلتزامها وتنفيذها. وهذه الشروط سترتبط بإجراءات عمليّة على مستوى القوانين التي يفترض أن يتم إقرارها في المجلس النيابي، وكذلك الاجراءات التي يجب أن تقرّها الحكومة أو المصرف المركزي، من قبيل إقرار قانون تعديل السريّة المصرفيّة وإنجاز التدقيق في ميزانيّات مصرف لبنان وتوحيد أسعار الصرف وغيرها. وفي حال تحقيق هذه الخطوات – الشروط، سيكون بإمكان لبنان الانتقال إلى توقيع الاتفاق النهائي، الذي يقضي بحصوله على قرض توازي قيمته ثلاثة مليارات دولار، تتوزع دفعات على امتداد 46 شهراً. وخلال هذه الفترة، سيخضع لبنان إلى مراقبة كاملة، عبر تقارير تُرفع إلى إدارة الصندوق كل ثلاثة أشهر، لتلمّس مدى التقدّم في تطبيق الإصلاحات المنصوص عنها في الخطّة الماليّة الشاملة المتفق عليها. أما في حال أي تلكّؤ أو تأخير في التنفيذ كما جرت العادة، فستتوقف عملية صرف الدفعات، بانتظار العودة إلى مسار التصحيح المطلوب.

شروط الصندوق الخمسة

بمعنى آخر، لن يعني الاتفاق المبدئي تعبيد الطريق أمام توقيع التفاهم النهائي لاحقًا، والذي سيبقى مقيداً بالشروط التي نص عليها بيان بعثة صندوق النقد، والتي تحول دونها عقبات لا تنتهي، من جانب السلطة السياسيّة التي تتعارض مصالحها مع متطلّبات الحل ومجمل التصحيح المالي. ولهذا السبب بالتحديد، فطريق لبنان باتجاه الاستفادة من برنامج القرض ستبقى محفوفة بالمخاطر، رغم توقيع التفاهم المبدئي الذي يفتح البحث ولا يقفله على الأداء اللبناني وتقويمه سياسياً ومالياً اقتصادياً.

أكثر من ذلك لقد وضع الصندوق شروطاً خمسة مع متفرعاتها للحصول على الأموال. تضمنت ما يلي:

1- تدقيق مالي في مصرف لبنان.
2 –  إقرار قانون الكابيتال كونترول.
3 –  موافقة مجلس النواب على قانون موازنة 2022.
4 –  إقرار تعديلات بنيوية على قانون السريّة المصرفية.
5 – إقرار  قانون إعادة هيكلة المصارف.

وبحسب النقاش، فإن لبنان مطالَب بالتزام تطبيق الشروط الخمسة مسبقاً قبل الاتفاق النهائي. فهل يستطيع النظام بشقيه السياسي والمالي الالتزام بها مع ما يتفرع عنها، كمدخل لاقناع الصندوق بتقديم الأموال اللازمة؟ إذ تحاول الحكومة عبثاً أن تحصر الموافقة المطلوبة بمراسيم تصدر عن مجلس الوزراء، وليس بموجب قوانين يقرها المجلس النيابي. لكن الصندوق يصر على ما هو أكثر من ذلك، إذ يشترط  توقيع الرؤساء الثلاثة على الاتفاق النهائي معه، وعلى اقرار قانون الكابيتال كونترول في المجلس، وتحديد الخسائروطريقة توزيعها، وكذلك إعادة هيكلة المصارف وتعديل قانون السرية  المصرفية، الذي يعتبر بمثابة “الحصن الحصين” للتستر على كل أنواع الارتكابات وأبطالها. وتنفيذ الاصلاحات المؤسسية المطلوبة من الدولة. وربما لهذا السبب جال الوفد على الرؤساء الثلاثة كمدخل لـ “توقيع أوّلي على مذكرة تفاهم قبل التوقيع على العقد النهائي الذي يحتاج إلى طويل وقت”، طالباً في المقابل “التزام  رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي ومجلس الوزراء، بالسير نحو انجاز الإصلاحات المطلوبة للخطة كاملة”. اذن يتطلب الحصول على الأموال قيام المجلس النيابي باصدار العديد من القوانين، وحصولها على القوة القانونية اللازمة عبر توقيع الرؤساء الثلاثة عليها، وهو ما تحاول السلطات الالتفاف عليه، أقله في اللحظة الراهنة، بانتظار إنجاز الانتخابات النيابية وقيام مجلس نيابي جديد تقع على عاتقه مثل هذه المسائل، مع ما يرتبط بها من اجراءات مجحفة بحق المواطنين الذين يعانون من اوضاع قاتلة على صعيد تأمين حاجاتهم اليومية، فكيف اذا ما أضيف إليها تقليص دور ومهام وعديد القطاع العام وأضعافاَ مضاعفة على بدلات الخدمات وما شابه.

على أن التعقيدات لا تقتصر على مواقف السلطات السياسية، بل تتعداها إلى كل من المصرف المركزي الذي يملك مفاتيح أسرار “المنهبة ” التي تواصلت على سنوات عدة عبر “الهندسات المالية” وغيرها، وأدت إلى ما نحن فيه وعليه، ومن هم أبطالها في السياسة والمال، وكيف قادت إلى “زحل” الثروة من أصحابها المودعين وكيفية تحويلها إلى الخارج.

موقف جمعية المصارف

أما جمعية المصارف التي تتخوف مما ورد في الاتفاق المبدئي، فترى في مسار التفاهم مع الصندوق خطراً على مصالحها ورساميلها ونفوذها، وهي جاهزة لاعتماد القاعدة المعروفة بأن خير وسائل الدفاع الهجوم كما فعلت مراراً وتكراراً.  ويتمحور الخلاف بين جمعية المصارف وما توصل إليه الوفدان الدولي واللبناني حول تفاصيل “خطّة توزيع الخسائر” المقدرة بحوالي 70 مليار دولار تبعاً لحسابات الفريق اللبناني المفاوض. لاسيما وأن وفد الصندوق رفض قبلاً جميع المقاربات المطروحة لخطّة توزيع الخسائر، كونها لم تتضمّن شطباً كاملاً للرساميل المصرفيّة القائمة، قبل الشروع بتوزيع الخسائر على المودعين والدولة ومصرف لبنان. وهو ما رضخ له الوفد الحكومي اللبناني الذي امتثل تحت وطأة اقفال الأبواب أمام أي قروض، من أجل التوصل إلى توقيع التفاهم بالصيغة المعروفة، رغم حدود قوتها القانونية الملزمة للطرفين الموقعيْن عليها. وقد رفضت جمعيّة المصارف الصيغ السابقة التي تضمّنت اقتصاصات وازنة من الرساميل المصرفيّة، دون أن تصل إلى شطبها كاملة، فكيف بها الآن وقد وجدت أمامها الخطة الجديدة التي تنص على  شطب كامل وكلّي للرساميل كما طلب الصندوق. باختصار، كانت المصارف تدفع سابقاً باتجاه تقليص الخسائر التي ستتحمّلها من رساميلها، فإذا بالوفد الحكومي يخضع على نحو كامل وكلي للشروط المفروضة عليه، وتحميلها كرساميل مصرفية أقصى ما يمكن أن تتحمّله من خسائر، وصولًا إلى شطب الرساميل بالكامل.

يضاف إلى ذلك ما وضعه الصندوق من شرط حاسم يقضي بإعادة تقييم شاملة لأوضاع 14 من مؤسسات القطاع المصرفي، على أن تتولى مثل هذه المهمة شركات ومؤسسات أجنبية موثوقة، قبل توقيع الاتفاق النهائي مع لبنان. مثل هذه الخطوة ستكشف حجم الخسائر الموجودة في كل مصرف على حدة. بالطبع تفتح هذه العملية الباب على الخوض في عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي برمته، وهو ما ترفضه الجمعيّة، بينما الهيكلة الجديدة ستلغي مصارف من الوجود وتدمج مؤسسات مع بعضها بعضاً. كما أنها تفتح الباب على تدخلات سياسية وتقود إلى إخضاعها لسلطة مصرف لبنان وتعاميم حاكمه. ويصر فريق صندوق النقد  المفاوض، على إخضاع مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي لقانون خاص يصدر عن المجلس النيابي، مع تبنّي الحكومة لاستراتيجيّة خاصّة لإعادة هيكلته، بما يشمل الاعتراف الصريح بالخسائر دفعة واحدة. وهذا المسار، يتعارض بشكل جذري مع رؤية الجمعيّة التي تصر على إخضاع مسار إعادة الهيكلة لمبدأ “الدمج والاستحواذ الطوعي”، أي من خلال وضع معايير الملاءة والسيولة من قبل مصرف لبنان، وترك المصارف تحدد مصيرها بنفسها دمجاً أو استحواذاً. أما المس بمبدأ السريّة المصرفيّة، كما يريد صندوق النقد، فيعني فتح الباب أمام نبش الملفّات، وكشف ارتكابات سابقة جرت خلال الأعوام الماضية، بما فيها تلك التي ترتبط بالنافذين داخل “الطغمة السياسية” والقطاع والمستفيدين مما سمي بالهندسات المالية.  وقد حرص صندوق النقد على ابلاغ من يعنيهم الأمر أن هدف تعديل قانون السريّة المصرفيّة كشف الجرائم الماليّة المرتكبة التي حدثت في غضون السنوات السابقة، واستعادة الأصول المتأتية من هذه الجرائم .

ويتمسك الصندوق بتوحيد أسعار الصرف بشكل شامل بدل الأسعار الأربعة السائدة في البلاد، قبل الاتفاق النهائي معه، وهو ما يقود إلى أمرين يتعلقان بدفع الودائع المالية بالعملات الاجنبية بقيمتها الحقيقيّة، بدل تقييمها بسعر الصرف الرسمي أو بسعر أعلى قليلاً لا علاقة له بسعر السوق ( 3900 ثم 8000 ليرة للدولار)، وهو ما تفيد منه المصارف كفارق بين ما تعطيه لزبائنها والسعر الفعلي. أما الأمر الثاني فيقود إلى معرفة دقيقة لكتلة الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي (في المصارف ومصرف لبنان معاً) بشكل مباشر، وقبل الدخول في مسار المعالجات.

دون مزيد من الشرح التفصيلي، يمكن القول إنه مع، أو من دون مشروع أو قانون الـ «كابيتال كونترول» وقعت الكارثة، ولن تكون حقوق المودعين «محفوظة» بل مجمّدة لسنتين كما هو معلن، ولأمد غير معروف، بانتظار نجاح خطة التعافي. وبذلك ستبقى أموال هؤلاء موضع إنفاق، كمال احتياط  لدى المصرف المركزي، تغرف منه الدولة حاجاتها المطلوبة باستمرار، والمشكوك بنجاعتها في ضبط الوضع الاجتماعي والمعيشي المتفاقم على أي حال، وهكذا حتى نفاذها. ثم في مثل المناخات السياسية القائمة ستأتي خطة توزيع الخسائر لتنهب ما تبقّى من أموال المودعين، من خلال شطب فوائد واقتطاعات منها وتحويلها الى الليرة، او إلى اسهم في المصارف، او حصص في صندوق سيادي خارج اطار الحوكمة الرشيدة، بفعل نشاط منظومة محاصصة النهب السياسية – المالية الممسكة بالقرارات من مداخلها المتعددة.

ما يجب ذكره أن ما تقوم به السلطتان السياسية والمالية هو محاولة “حربائية” لشروط صندوق النقد الدولي، بما يخدم مصالحهما ثم التراجع عنها. فالسلطة السياسية ومعها المصرف المركزي وجمعية المصارف  تهدف إلى الحصول على بعض المليارات من الصندوق لإنقاذ “البصرة” بعد خرابها، وفي الوقت نفسها تبعد نفسها عن تجرع كأس المحاسبة، باعتبارها كمنظومة متكاملة، قادت البلاد واقتصادها إلى الجريمة الموصوفة الكاملة من خلال افلاس الدولة والمصرف المركزي والمصارف، وأفقرت الشعب اللبناني الذي باتت طموحاته لا تتعدى القدرة على تأمين حاجاته اليومية البسيطة. وللوصول إلى ذلك لا مانع من ممارسة شتى أنواع الارتكابات تحت عنوان الظروف الاستثنائية. ألم يدعو رئيس الحكومة المواطنين إلى تحمل  هذه السياسات المدمِّرة، بينما يغيب صوت المعارضة الفعلية لهذه المنظومة المتكافلة، عن حركة الشارع و النقاش الجدي والمسؤول في احتمالات الوضع ومخاطره الفادحة وكيفية الخروج منه.

Leave a Comment