جهاد الزين*
كنا نكتب عن المستقبل في منطقتنا باعتباره غامضاً، أو حتى لغزاً أو مدىً معقّداً، وإذا به يداهمنا، ويَحْضُر في حاضرنا بأقوى مما اعتقدنا وأحيانا بأقوى مما تخيّلنا. جاءنا المستقبل من الخليج على ضفّتيه. الإمارات والسعودية والبحرين وإيران التي تفاوض على مستقبلها في جنيف، وربما في مدن أخرى غير معلنة، إذا كان باستطاعة نظام ماضوي كالنظام الديني الإيراني أن يُثْبِت أنه لا زال قادرا على تمثيل الروح الديناميكية للأمة – الدولة الفارسية الكبيرة ونخبها الشابة القلقة من، والباحثة عن، المستقبل بعيداً عن الأيديولوجيا الصارمة.
لا نستخف مطلقا بقدرة التاريخ على مفاجأتنا وهو الذي لا يمكن حساب مخفيّاته ومفاجآته سلباً وإيجاباً . أَلَم يأتنا المستقبل فجأةً ودون كثير إنذارسابق من السعودية التي غيّرت نظامها السياسي، وإلى حد ما الاجتماعي، على طريقتها بدءاً من فندق ريتز الذي سيدخل التاريخ مالياً ، كما دخلت قلعة القاهرة دموياً في بداية عهد محمد علي في مصر، مع تصفية محمد علي باشا الشهيرة في تلك القلعة لأمراء المماليك عام 1811، أو مع تصفية السلطان العثماني محمود الثاني لفيالق الإنكشارية في مقراتهم في اسطنبول عام 1826.
لم يصبح “الحرس الثوري” الإيراني إنكشاريي العصر الإيراني الحالي، على العكس تَظهر هذه المؤسسةُ باعتبارها العصبَ التنظيمي الحيوي، ليس فقط العسكري بل الاقتصادي والأيديولوجي للنظام الديني، إلى درجة يجوز معها التساؤل من الأكثر عبئا على انطلاق النظام الايراني نحو تطوير نفسه للتكيف، بل الدخول في المستقبل، إذا انفتح هذا المستقبل في الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن… من سيكون الاكثر عبئا على هذا الانطلاق: الحرس الثوري أم بيئة رجال الدين التي جاء منها النظام أصلاً؟ انطلاقاً أصلاً من الموضوع الجوهري في الوضع الإيراني في نهاية المطاف، وهو مستقبل الشعب الإيراني الذي يُقاس النظام السياسي، أي نظام في أي بلد، بمدى طاقته أو عدم طاقته على فتح آفاق التطور لشعبه.
الإنكشارية في الأساس وتعني ” الجنود الجدد” في التركية العثمانية، كانت تنظيما قتالياً متقدماً ومهماً وحيوياً في الهيكل العسكري للجيوش العثمانية ساهمت في الفتوحات الأولى بشكل فعّال ، لكنها أصبحت مع الوقت أحد معالم جمود النظام العثماني، وعبئا على التقدم السياسي والعسكري والاجتماعي العثماني.
كان العالم الصناعي التكنولوجي قبل الأزمة الأوكرانية والاجتياح الروسي، يتجه أكثر فأكثر نحو المزيد من المواجهة الاقتصادية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، ونحو المزيد من التنافس الجيوسياسي بين واشنطن وموسكو في أوروبا والمنطقة القريبة منها، والمزيد من التنافس الجيوسياسي بين واشنطن وبكين في بحر الصين الجنوبي والشرقي، والآن السؤال في منطقتنا ما هو موقع الشرق الأوسط على خارطة العلاقات الدولية هذه، وهل تكون الأولويتان الصينية الاقتصادية والروسية السياسية والعسكرية في الاستراتيجية الأميركية مبرراً لإهمال الشرق الأوسط، إذا أسفر التفاوض في فيينا عن اتفاق نووي مع خصم إقليمي كإيران؟ أم سينجح العامل الجديد في فرض نفسه على المفاوضات النووية الأميركية الإيرانية، وهو عامل الضغط الروسي لربط المحادثات بمصير سلّة من العقوبات الأميركية على روسيا بعد اجتياحها أوكرانيا؟
السؤال الكبير المتكرر أياً تكن الأجوبة النهائية على تلك الأسئلة هل تستطيع الولايات المتحدة “الانسحاب” من الشرق الأوسط بوجود حليفتها الكبيرة إسرائيل، الدولة الآخذة بالتحول إلى دولة إقليمية عظمى؟ وهو الموضوع الذي يشغل المراقبين، ولاسيما أهل الشرق الأوسط، منذ سنوات الرئيس باراك أوباما؟
تعيش إسرائيل مفارقة كبرى: من جهة تزايد نفوذها حتى داخل العالم العربي، ومن جهة ثانية تعاظم انكشاف نظام التمييز العنصري الذي تمارسه على الفلسطينيين، أمام الرأي العام الغربي بنخبه وهيئاته غير الحكومية وجامعاته.
سنكون في السنوات المقبلة أمام قوة إسرائيلية اقتصادية عسكرية ديبلوماسية متصاعدة ومؤكدة ، ولم تعد تحتاج إلى تأكيدها في عدد من الصناعات بينها الصناعة العسكرية، ولكن ليس العسكرية وحدها، لأن الاقتصاد الإسرائيلي متقدم في العديد من الصناعات، وفي قطاعات التكنولوجيا وخدماتها. يقابل ذلك ضعف إسرائيلي متزايد بل انكشاف إسرائيلي متزايد أمام المنظومة القِيَميّة الغربية، بفعل تكريس نظام التمييز العنصري الإسرائيلي على الفلسطينيين ، وهو نظام تمييز قانوني لفئات الشعب الفلسطيني الثلاث: في الداخل( 1) والضفة والقطاع(2)ومخيمات اللجوء في الدياسبورا (3) والذي انكشف على نطاق واسع منذ تقرير منظمة “الإسكوا” الشهير عام 2017 الذي أوضح البنيان القانوني لهذا التمييز، ثم مؤخراً في تبني منظمة العفو الدولية للنظرة نفسها، مع الملايين العشرة التي تضمّهم هذه المنظّمة المحترمة في عضويتها، كما يذكر الرقم المناضل الفلسطيني الدكتور مصطفى البرغوتي في مقال له. مع العلم أن أبرز من أطلق تعبير “الأبارتايد” على النظام القائم في إسرائيل حيال الشعب الفلسطيني كان الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر في كتابه الشهير عام 2006 “سلام لا أبارتايد”. (سبق لي في حينه أن كتبتُ مراجعة لهذا الكتاب)، ومرةً تبنّى جون كيري وزير الخارجية الأسبق في عهد الرئيس باراك أوباما هذاالمصطلح في نقد إسرائيل بعدما أصبح وزيراً للخارجية.
أعلنت الإسكوا يومها (2017) أن تقرير “الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الفصل العنصري (الأبارتايد)” قد أعدّ بطلب من الإسكوا نفسها، ووضعه خبيران معروفان في مجاليهما هما: ريتشارد فولك، الخبير في القانون الدولي وحقوق الإنسان، والمقرر الخاص الأسبق للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967. وهو أستاذ فخري في القانون في جامعة برنستون؛ وفيرجنيا تيلي، صاحبة الخبرة الطويلة في دراسة السياسات الإسرائيلية، وهي أستاذة علوم سياسية في جامعةجنوب إلينوي-كاربونديل. ومع تبني منظمة العفو الدولية لهذا الموقف في دراسة طويلة استقصائية أعدتها وأثارت مؤخرا (2022) ضجة كبيرة في منابر الإعلام الغربية، تكون تهمة “الأبارتايد” قد تكرّست أكثر فأكثر في الوعي الغربي.
من تابع أحداث الأيام الأخيرة في إسرائيل ستتجدد لديه على الأرجح ملاحظة عودة تلازم العنف “الفردي” المسلّح الشديد مع الانغلاق السياسي للملف الفلسطيني. وهي ظاهرة طالما تكررت، بل ميزت الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وهو انغلاق أثاره بطريقة ما، ولو بشكل حذر، وزير الخارجية الأميركي توني بلينكن، وهو يتوجه إلى إسرائيل لحضور لقاء النقب العربي الإسرائيلي، كأنه كان يستشعر هذا الفراغ ويطرحه في آن معاً. مما أثار عليه بعض ردود الفعل الإسرائيلية غير المرحِّبة به، ومنها موقف نائب عمدة القدس المحتلة.
على كل حال السؤال الذكي سياسياً طرحته جريدة “هآرتس” الخميس المنصرم حين سألت هل حصول بضع عمليات مسلحة ضد إسرائيليين خلال 11 يوماً (ثلاث) يكفي لاعتبار هذا العنف المسلّح موجة متنامية جديدة في الصراع مع الفلسطينيين. وهذا سؤال بمحله دائماً لرصد كيف يتغيّر المجتمع الفلسطيني، وهل يتغيّر في مواجهة شروط الاضطهاد المتصاعدة؟ وهل سيؤدي ذلك إلى تكريس “المقعد الفارغ” الفلسطيني في التحولات الكبرى التي تحدث في المنطقة؟
هذه هي بعض نقاط قوة إسرائيل وضعفها. قوة اقتصادية وعسكرية وديبلوماسية، وضعف قِيَمي داخل النظام الدولي الغربي.
فما هي نقاط قوة وضعف إيران؟
نقطة القوة الرئيسية الإيرانية هي ما باتت تستحوذ عليه من قدرة على توظيف الجماعات الشيعية العربية، لاسيما في الدول التي يتيح تفككها مساحات تحرك إيراني ضاغط كاليمن والعراق ولبنان وسوريا (وغزة وبعض الضفة عبر منظمة “الجهاد الإسلامي” وحركة “حماس”، وهو ما يشكِّل استثناءً مهماً عبر بيئة سنّية فلسطينية لآحادية الاستخدام الإيراني للبيئة الشيعية العربية). لاسيما أن هذا الخرق، بل الخروقات المدعمة بمقدرة أيديولوجية يتزود بجيل جديد من الأسلحة الصاروخية الدقيقة والطائرات المسيَّرة التي بات ممكناً تجميعها في أماكن التوترنفسها، حسب تأكيدات تقارير خبراء أسلحة غربيين، وليس فقط بعض القوى المؤيدة لإيران. والآن يأتي التطور الضخم في أوكرانيا ربما ليعطي إيران متنفّساً غير مباشر في العلاقات الدولية، سنرى قريباً كيف سينعكس على مفاوضات الملف النووي مع واشنطن.
لكن نقاط الضعف الإيرانية عديدة أهمها الاقتصاد، وهو عملياً في حالة حصار متصاعد حتى الآن، كذلك وجود اعتراضات عميقة في مجتمعات مناطق نفوذ إيران على الأدوار التي تقوم بها.
في كتابها الصادر بالفرنسية عام 2015 عن منشورات “فرانسوا بوران”، وتحت عنوان “إيران – إسرائيل: حرب تكنولوجية – كواليس نزاع غير مرئي” تقدّم الباحثة ساره بيريز عرضاً مفصّلاً لتاريخ المشاريع العسكرية والتجسّسيّة والاقتصادية الإيرانية والإسرائيلية في محاولة مقارنة من الكاتبة لنقاط القوة والضعف بين الدولتين. العنوان بذاته معبِّرٌ: “حرب تكنولوجية”، لكن قراءة الكتاب تُظهر أنه بحثٌ حول إمكانات اسرائيل كدولة متقدِّمة عسكريا وصناعياً وعلمياً، أكثر مما هو مقارنة مع إمكانات إيران. جدية البحث ستكشف عن تفوّق إسرائيلي ليس صعباً الموافقة مع الباحثة عليه، لولا بعض النزوع الدعائي في الكتاب. والواقع أنه كان بإمكانها الاستغناء عن هذه الدعائية دون أن تتأثّرالنتيجة التي تريدها لصالح إسرائيل، والتي هي فعلا لصالح إسرائيل، كما يظهر الكتاب بشكل دقيق وجدي ومطّلع. بل بالعكس ما ذكرته دعائيا أضعفَ بعضَ أقسام الكتاب إضافة إلى الضعف الآخر المتعلّق بفيضان المعلومات عن إسرائيل، وعدم إسهابها بالنسبة نفسها عن ايران . (تضمّن كتابي الأخير:”حرائق في ثقافتنا السياسية” مراجعة مسهبة لكتاب سارة بيريز، كما مراجعة لكتاب إيلان بابيه المؤرخ الإسرائيلي النقدي حول عناصر التركيبة والديناميات الإسرائيلية).
هل سيشكِّل الاحتماءُ الإيراني بالتحالف الروسي الصيني غطاءً كافياً، ولو كان ينبغي أن نسجّل أن ازدياد التنافس وأحياناً التوتر بين الغرب وهذا التحالف فرصة كبيرة، وقد تكون ذهبية لإيران كي تضع توترها نفسه مع واشنطن داخله، وبحيث يصبح معطى ثابتاً، أو أكثر ثباتاً في الصراع الدولي، حتى لو أن ذلك لا يعني تبني الحليفين الروسي والصيني لكل المخططات الإيرانية، بسبب العلاقات الوطيدة التي لكل من الصين وروسيا مع عدد من أكبر أعداء إيران ، كالعلاقات التجارية الصينية المزدهرة مع المملكة العربية السعودية والعلاقات الصينية التجارية والاستثمارية مع إسرائيل، كذلك العلاقات الروسية مع إسرائيل والتي تتبدّى في تفاهم أمني واضح داخل سوريا. وتُظهِر تصريحات رئيس المخابرات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل الأخيرة تنبّهاً سعوديا لدور الصين الصاعد، ولو كان هذا الرصد السعودي لا زال حذراً جداً في إعلان نوايا تحالفية سعودية مع الصين، لا يبدو أن مقوماتها ممكنة قريباً بسبب توقع استمرار تفوق الولايات المتحدة على المستوى العالمي كما يرى الأمير تركي. حتى تركيا التي تعاني مشاكل تضخّم في اقتصادها تذهب نحو تحسين علاقاتها بدولة اتحاد الإمارات العربية فتوظف التوتر الإيراني الإماراتي لصالح تعزيز قدراتها الاقتصادية.
سيكون من المؤسف أن إيران، المجتمع والدولة الأصيلين في الشرق الأوسط، تبدو وكأنها على هامش المنطقة، بل “خارجها” حتى وهي تلعب في وُحُولِها، بسبب سياسات نظامها الديني الذي ينتمي إلى عصر سالف، وليس لديه ما يعطيه لشعوب المنطقة التي تتطلّع نحو الغرب بعيداً كثيراً عنه.
لا أستطيع أخيراً إلا أن أقف عند الحالة الشيعية في لبنان المرتبطة بل المربوطة بإيران، والتي تربط كل لبنان بها مهما بدت المصائرالطائفية مختلفة ومهما بدت جزئية، بل كل لبنان جزئي من منظور اتساع المنطقة وتعقيداتها، لألاحظ كمراقب، أن حجم النكبات “الموعودة” بها هذه الحالة ستكون جزءاً من الخيارات ذات الأفق المغلق، ليس بمعايير التوازنات المرحلية، بل بالمعنى الوحيد الذي يستحق أن نسمّيه “استراتيجي” وهو المعنى الحضاري للربح والخسارة.
*نشرت في النهار في 5 – 4 – 2022
Leave a Comment