ثقافة

حول المجتمع المدني لبنانياً وعربياً ومآلاته

كمال اللقيس

“المجتمع المدني هو إحدى اهم ثمار الحداثة”(هيجل)

تفترض المقاربة الموضوعية للتطور البشري والتنمية الشاملة في مجتمع ما، توفر مثلث متساوي الأضلاع:

– المجتمع المدني

– الديمقراطية

 – حقوق الإنسان

قد تختلف أساليب تطبيق هذه العناصر الثلاثة من مجتمع لآخر، وفق شرطيه: الذاتي والموضوعي ودرجة تطوره السوسيو/ثقافي، لكنَّ تلازم تلك العناصر ضروري، إذ كيف يكون هناك مجتمع مدني من دون ممارسة ديمقراطية؟ وما قيمة وجود مؤسسات شعبية، لا تعمل في مُناخ ديمقراطي؟  وكيف للمجتمع أن ينتج قيماً، بمعزل عن توفر الحد الأدنى من حقوق الانسان الأساسية ؟

هذه المقدمة المنهجية، تقودنا حتماً إلى تعريف مصطلح “المجتمع المدني”، فهو – في اعتقادي-  يتشكل من مؤسسات سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، واهلية تنشط جميعها مستقلة عن سلطة الدولة، لتحقيق أغراض متعددة: سياسية، كالمشاركة في صنع القرار السياسي(احزاب)، على المستوى الوطني العام، ونقابية، للإرتقاء بمستوى المهنة والدفاع عن حقوق أعضاء النقابات، وثقافية لنشر الوعي، واجتماعية، لتحقيق التنمية.

وللتصويب، فالمجتمع المدني في الأصل هو نقيض المجتمع الديني الثيوقراطي، الذي تدَّعي فيه السلطة  السياسية، بأنها تستمد شرعيتها من السماء، وبالتالي لايحق للبشر مساءلتها ومحاسبتها، والمجتمع المدني لا ينشد ضالته، الا في دولة ديمقراطية ذات نظام ليبرالي، نقيض للإستبداد والشمولية، للقبلية والطائفية.

تلك المؤسسات التطوعية الآنفة الذكر، تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح افرادها، ملتزمةً معايير الاحترام، التسامح، وحق التنوع، والاختلاف ضمن بيئة حاضنة، تتوفر فيها أركان اساسية:

– الفعل الإرادي الحر والطوعي، الذي ينأى بطبيعته عن الأسرة والقبيلة والطائفة، التي لا قرار للفرد في اختيار عضويتها، فهي مفروضة عليه بحكم الميلاد والوراثة.

–  كون المجتمع المدني منظماً، وهو بذلك يختلف عن المجتمع بشكل عام، لأنه نسق من مؤسسات تعمل وفق منهجية ومعايير منطقية.

– التزام سلوك اخلاقي، ينطوي على قبول الإختلاف بين الأنا والآخر، واحترام حق التنافس، وفض النزاعات في ما بين مؤسسات المجتمع المدني – إن وُجدت – بالإحتكام إلى القانون.

وإستنادًا على ما سلف ذكره، يستحيل قيام مجتمع مدني، من دون توفر صيغة سلمية لإدارة الإختلاف والتنافس، طبقًا لقواعدَ متفق عليها بين الأطراف، ومن دون الإعتراف بالحقوق الأساسية للأفراد، كحرية الرإي والمعتقد والتعبير والتجمع والتنظيم.

بيد أن تناول موضوع المجتمع المدني كمفهوم مجرد، لا يقودنا إلى تجاهل البُعد التاريخي لهذه الظاهرة الاجتماعية، بل يدفعنا إلى تتبع سيرورتها وتطورها، منذ نشأتها- بصيغتها الاوروبية – مع التشكيلة الرأسمالية  وايديولوجيتها القائمة على حرية اقتصاد السوق، وعلى السلطة المستمدة من ارادة الامة، وعلى مفهوم المواطنة قانوناً، وستتضح أهمية هذه التحديدات، عند مناقشة الصيغ الايديولوجية  لمفهوم المجتمع المدني عربياً، فعندما يتعلق الأمر بالعودة إلى التاريخ، للبحث عن اشكال واطر ومؤسسات، يمكن تأويلها على أنها تمظهرات لتواجد المجتمع المدني في التاريخ العربي، يؤدي ذلك، إلى العديد من الاختلاطات، التى تكشف عن اشكاليات جديدة، على صعيد النظرية. كما على صعيد التطبيق العملي، على أرض الواقع العياني المشخص.اما هذا اللبس وذاك الاعتراض العربيان القائلان بأن مفهوم المجتمع المدني غربي، فيشكلان رفضاً شكلياً للهيمنة الغربية، فإذا كان المجتمع المدني قد ارتبط اساساً، بخبرات التطور السوسيو/ثقافي في الغرب الرأسمالي الصناعي، فإن هذا لا يعني بالضرورة، اجترار التجربة الغربية، والا فإننا نسلم مع النظرة  المركزية الاوروبية، بوجود طريق واحد للتطور الانساني، غير عابئين بالخصوصيات التاريخية للمجتمعات الأخرى. الا انَّ مقولة “المجتمع الاهلي” لاقت رواجاً كبيراً في الخطاب العربي المعاصر، لقربها من الاسرة والقبيلة والطائفة، ولإيحاءاتها الدينية الإسلامية.

إنًّ محاولات الفكر العربي المعاصر الدؤوبة والمتكررة، لإيجاد مفاهيم ايديولوجية بديلة للمفاهيم الغربية، هي دوران حول شمس وهمية، لأنها تفتقر إلى مبررات معرفية، وتتجاهل السياق التاريخي الذي انتج تلك المفاهيم الغربية، فنراها – اي محاولات الفكر العربي المعاصر- تستبدل المصطلحات في محاولات يائسة، فيحل المجتمع الاهلي مكان المجتمع المدني، الجماعة مكان المجتمع، المؤمن مكان المواطن، وحقوق الانسان في الإسلام مكان الإعلان العالمي لحقوق الانسان، فهذه المصطلحات أقرب الى المخزون الثقافي والخيال الاجتماعي العربيين.

هذه المعارضة الوهمية، تعني التخلي الطوعي  عن منجزات العلم والثقافة الحديثين، ومواجهة التحدي بمزيد من التقهقر والانحسار على المستوى الحضاري، هذا ما يستحضر تلقائياً في المشهد العام، النظرة الثنائية للغرب، فهو من جهة غازٍ ومحتل ومعادٍ للثقافات الأخرى، من جهة ثانية نموذج التقدم العلمي والتقني، الذي قدم للبشرية، قيماً حضارية، كحقوق الانسان  والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والعلمنة.

من هنا، هل يمكن مواجهة الغرب بشكل جاد، من دون الإفادة من معطيات العلم والتقنية الحديثة، ومن دون امتلاك الأدوات المعرفية والمنهجيات الحديثة، التي تمكننا من فهم الأنا والآخر؟

في سياق متصل، أخذ المجتمع المدني في لبنان – بعد اتفاق الطائف-  يتكون بشكل خجول وخافت، ولكن سرعان ما عمَّت  ظاهرة الجمعيات الخيرية والاجتماعية والأندية والروابط، عموم المناطق اللبنانية، ناهيك عن نشاط الجمعيات السياسية (الاحزاب)، ولقد ادَّى الانشطار السياسي بين تحالفيْ 8 و 14 آذار إلى تنشيط وتفعيل هيئات المجتمع المدني، لتشكل رافداً داعماً لكلا التحالفين.

ومنذ عقد ونيِّف تقريباً، اخذ  الخط البياني للمجتمع المدني، يرسم مساراً تصاعدياً، وبدأت فعاليته تتعاظم  مع الانهيار التدريجي للاقتصاد اللبناني، الذي ادَّى إلى الغياب الكامل لمؤسسات الدولة على المستويات كافة.

وإذا ما ذهبنا عميقاً في تشريح المجتمع المدني، منذ عقدين على الاقل في لبنان، يمكننا أن نرصد اربعة عناصر، أضفت على المشهد المدني حيوية وتمايزاً:

  • انتشار ظاهرة المنظمات غير الحكومية (أن جي اوز)، وتغطيتها لمشاريع ونشاطات كثيرة، ما عوض نسبياً عن غياب الدولة.
  • مشاركة الحراك المدني في انتخابات 2018، ما اضفى على المشهد مُناخاً صحياً إلى حدٍّ ما.
  • انخراط الحراك المدني في انتفاضة 17 تشرين الأول من العام 2019، منذ بواكيرها الاولى، وتعرضه إلى شتى انواع القمع والتعذيب.
  • تأسيس “الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات، (لاديLADE)”، في 3 آذار من العام 1996، بمبادرة من بعض ناشطي المجتمع المدني.

هذه الجمعية تسعى إلى بناء مجتمع ديمقراطي، نشر العلمنة وتعزيز المواطنة، على اساس الشفافية، المساءلة والمحاسبة، كما وتعمل على مراقبة سير العمليات الانتخابية على مختلف انواعها، وإصدار تقارير مفصلة حولها، وقد قوبل نشاطها بإستحسان وارتياح كبيرين لدى اللبنانيين.

في الختام، نعود إلى مقولة “هيجل” لنطرح سؤلاً ملحاحاً وراهناً بعد طرح اشكالية ما بعد الحداثة، “تسليع الثقافة” وانصهار الهويات في ثقافة كونية، بفعل الثورة الهائلة في مجال وسائل التواصل والاتصال، بعد الثورة الرقمية سابقاً.

ثم يعود السؤال ليلح:”ما هو مصير المجتمع المدني في العالم العربي بعد سقوط الدولة الوطنية، وتحولها إلى جهاز قمعي في كثير من البلدان، وتفكك البنى المجتمعية، واستشراء ظاهرة العنف التي أسقطت الدولة والمجتمع معاً؟”.

Leave a Comment