ها هو النظام الأممي يدور حول نفسه في نيويورك فيما كلّ شيء يتغيّر من حوله.
فتوقيت العملية العسكرية الروسية مهمّ جدّاً. إذ بينما كان العالم يستعدّ لنظام دولي جديد فيه الكثير من المتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية والمناخية والصحية بسبب وباء كورونا، فإذا بأوكرانيا تدخل على الخطّ.
كان بين أهداف نظام الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية إنقاذ العالم من رواسب وسلبيّات تكتّل عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى. لكنّه فتح الطريق أمام حرب الرأسين الأميركي والروسي التي استمرّت حتى أواخر الثمانينيّات حين حسم الأوّل المواجهة لمصلحته مع إعلان تفرّده في إدارة شؤون العالم.
تغيّرت المعادلات والتوازنات والاصطفافات كثيراً منذ العام 1990 حتى اليوم. ظهرت إلى العلن دوائر وتكتّلات إقليمية ودولية ذات طابع سياسي واقتصادي وعسكري، لكنّ تأثيرها بقي محدوداً إزاء التموضعات الجديدة الأميركية والروسية والصينية التي نشأت على حساب أوروبا. أمّا بقيّة الدول والعواصم فتتحرّك داخل هذه المنظومة الجديدة لحماية مصالحها. لكنّ الذي يتحكّم بقرار الجميع هو نظام العولمة والأرقام والمفاهيم والثروات والتكنولوجيا وقوّة الدول العسكرية التي ظهرت إلى العلن في العقد الأخير.
فتحت العملية العسكرية الروسية الواسعة ضدّ أوكرانيا الأبواب أمام نقاش تداعيات ما يجري واحتمالات بروز نظام عالمي جديد يقلب رأساً على عقب المعادلات والتوازنات الإقليمية والدولية القائمة منذ العام 1990 برعاية أميركية.
يهدّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنّه سيلجأ إلى “كبس” الزرّ النووي ضدّ مَن يعارض أو يعرقل الهجوم العسكري الذي أعطى الأوامر بتنفيذه ضدّ أوكرانيا، بينما القادة في الغرب يردّدون أنّ استخدام روسيا سلاحاً كيمياويّاً في أوكرانيا سيغيّر قواعد اللعبة، وسيتعيّن على حلف شمال الأطلسي التفكير بجدّيّة في كيفيّة الردّ. فأيّهما أخطر وأكثر تهديداً للأمن العالمي: النووي أم الكيمياوي؟
نحن في دول العالم الثالث نتحمّل مسؤولية العشرات من الحروب والأزمات والبلبلة، لكنّ نقلة أوروبية واحدة على رقعة الشطرنج تفوق كلّ ما تسبّبنا به من مشاكل وإزعاج للعالم المتحضّر حتى اليوم. عندهم الأسلحة الاستراتيجية الفتّاكة التي يهدّدوننا بها كلّما “دقّ الكوز بالجرّة”، وعندنا الفضائيّات التي تنقل كلّ ما يقولون ويفعلون على مدار الساعة.
نتائج الحرب
ستتوقّف الحرب في أوكرانيا لا محالة. المعضلة هي: أين وكيف ستتوقّف؟ وما الذي سيعقبها؟
ميدانيّاً فإنّ انتصاراً روسياً كاسحاً يفتح الطريق باتّجاه جمهوريات البلطيق واسترداد النفوذ على حوض البحر الأسود. وهو السيناريو الأقرب ما دامت أميركا لا تريد الدخول في المواجهة العسكرية المباشرة. سياسياً واقتصادياً مستنقعات بمختلف المقاييس والأحجام تنتظر الكبار الثلاثة الجدد في حروب ومواجهات طاحنة يدفع الجميع ثمنها قبل أن يأخذ النظام العالمي القديم شكله الجديد.
ذكرت التقارير أنّ أوكرانيا بدأت تستقبل مجموعات من المقاتلين تجمعهم وتدرّبهم وتجهّزهم شركات أمنيّة متخصّصة، وسيتقاضون أجوراً مغرية. في الجانب الآخر أبدى عشرات الآلاف من المقاتلين السوريين، كما يُقال، استعدادهم للتوجّه إلى أوكرانيا لدعم القوات الروسية في حربها هناك. ردّ جميل لا بدّ لأنصار النظام في دمشق من القيام به حتى لو كانت موسكو لا تقبل مرتزقة بل متطوّعين. سترسم الشركات الأمنيّة العابرة للحدود معالم حروبنا بعد اليوم نيابة عن الدول والحكومات التي سترسل مقاتليها المأجورين إلى الصفوف الأمامية ليحدّدوا مسار المعارك.
الهدف الروسي الأوّل من غزو أوكرانيا هو الردّ على التمدّد الغربي في حدائق موسكو الخلفيّة وتحطيم الحزام الاستراتيجي الذي فرضه الأطلسي على روسيا في شرق أوروبا وحوض البحر الأسود.
موقف إيران الحقيقي
لا تحتاج روسيا من أجل تحقيق هذا الهدف إلى مرتزقة من سوريا والعراق ولبنان يدافعون عن مواقفها بقرار إيراني. لكنّ قبول المتطوّعين هدفه كسب إيران إقليمياً وتقليص فرص مناوراتها، والدليل هو هرولة القيادة في طهران نحو الكرملين للمساومة على الاتفاق النووي الذي يقف بوتين عقبة أمام إبرامه.
قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الخطاب، الذي أعلن فيه تدخّله عسكرياً في أوكرانيا، إنّه يريد الدفاع عن السكان الناطقين بالروسية من الإبادة الجماعية التي يرتكبها نظام كييف. ووصفت أوكرانيا هذه الاتّهامات بأنّها كاذبة، ونفت بشكل قاطع أن تكون وقعت مثل هذه الأعمال، معتبرةً أنّ الغزو الروسي لا أساس قانونيّاً له. لقد توحّد الكونغرس الأميركي بديمقراطيّيه وجمهوريّيه، ودخل سريعاً على الخط للبحث عن جرائم حرب روسية اُرتُكبت ضدّ الأوكرانيين لمعاقبة القيادة السياسية والعسكرية هناك. يكرّر التاريخ نفسه، لكنّه ينتقل من مكان إلى آخر.
تفكك الأمم المتحدة
يقول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي قد يكون آخر موظف أممي رفيع على رأس المنظمة قبل تفكّكها، إنّ نشوب صراع نووي صار محتملاً بسبب حرب أوكرانيا.
تعيش أوروبا، التي كانت تفاوض تركيا على المئات من لاجئي دول العالم الثالث، أكبر اختراق جماعي منذ الحرب العالمية الثانية إثر نزوح الملايين من اللاجئين الأوكران إلى أراضيها. بدلاً من مفاوضة موسكو على التسوية، اختارت واشنطن إجراء محادثات مع الصين في روما في إطار “نقاش جوهري” يتعلّق بما يجري.
تحاول أميركا تحذير الصين من الالتحاق بالمشروع الروسي في أوروبا، وتردّد الصين بين الحين والآخر أنّها ضدّ استهداف سيادة وأمن أيّة دولة في العالم تحت شعار سياسة الحياد الإيجابي في التعامل مع موضوع الحرب على أوكرانيا.
توهِّمنا الصين أنّها تنتظر وضوح المشهد لتحسم موقفها على أساسه، لكنّ المؤكّد هو أنّها كانت على علم بكلّ تفاصيل العملية العسكرية ومن قبل الرئيس بوتين نفسه بعد القمّة الثنائية التي عقدها مع نظيره شي جين بينغ في الرابع من شهر شباط المنصرم، والبيان الاستراتيجي المشترك الذي أعلن دخول العلاقات الدولية حقبة جديدة ومحاولة رسم معالم النظام العالمي الجديد.
كان مركز ستراتفور الأميركي للدراسات الاستراتيجية والأمنيّة قد عدّل توقّعاته حول مسار ومستقبل الحرب في أوكرانيا من محاولة لعب الغرب الورقة الأوكرانية بهدف لفت نظر روسيا إلى احتمال نشوب مواجهة واسعة النطاق بين روسيا وحلف شمال الأطلسي إذا ما وقعت تقديرات خاطئة في ميدان المعركة أو تصعيد متعمَّد في التحرّكات الانتقامية من الغرب.
الغرب والتخلّي
واشنطن تتحمّل المسؤولية الكبيرة في إيصال الأمور إلى هذه الدرجة من التصعيد في أوكرانيا. كلّ التحليلات وتقديرات الموقف الغربية كانت تلتقي عند تناقض سياسات آخر 3 رؤساء أميركيين وطريقة تعاملهم مع روسيا وملفّ الأزمة الأوكرانية. ربّما يكون الصادم أكثر هو مواقف الرئيس جو بايدن الأخيرة التي ركّزت على أنّ القوات الروسية ستهاجم أوكرانيا، لكنّه قال إنّ واشنطن ستكتفي بتقديم الدعم العسكري والمادي لكييف من دون التدخّل المباشر في القتال.
سبق للغرب أن تخلّى عن جورجيا عام 2008 في مواجهة الروس. ثمّ ترك أوكرانيا وحيدة في مواجهة موسكو عام 2014 خلال أزمة القرم. وبعدها ترك تركيا بمفردها خلال حادثة إسقاط المقاتلات التركية لطائرة روسية اخترقت الأجواء في تشرين الثاني 2015، وكادت أن تؤدّي إلى نشوب حرب بينهما. يومها حالت واشنطن دون تفعيل المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي أضعف تركيا أمام روسيا، وغيّر في سياسة تركيا الروسية كلّيّاً.
ألا يكفي بوتين كلُّ ذلك لاقتحام أراضي الدولة الجارة؟
أدخل الرئيس الروسي العالم في نفق مجهول عندما حرّك قوّاته لتهاجم أوكرانيا في 24 شباط المنصرم. كان يراهن على اقتحام سريع ينهي العملية خلال أيام ويدفع الرئيس الأوكراني للهروب إلى الخارج وتتراجع العقوبات الغربية بشكل تدريجي وتعود الأمور إلى طبيعتها، كما حدث عام 2008 في جورجيا، وبعدها عام 2014 في شرق القرم.
يرى بوتين أنّ انتصاره في أوكرانيا سيدشّن مرحلة جديدة في خطة دمج أوكرانيا وبيلاروسيا بالوطن الأم روسيا، ثمّ ينتقل إلى مرحلة متقدّمة تشمل دول البلطيق وأوروبا الشرقية.
لكنّ ما وصل إليه الرئيس الروسي هو أنّ المواجهة الروسية الغربية ستكون بعد الآن في كلّ مناطق اللون الرمادي حيث يتداخل النفوذ وتتشابك المصالح. ستشكّل روسيا بعد اليوم خطراً على حلفائها وأصدقائها قبل خصومها وأعدائها. ستلعب مع الصين وإيران في النظام العالمي الجديد. لكنّها أفزعت بمواقفها وأساليبها العديد من الدول التي كانت تنسّق معها، مثل تركيا وإسرائيل والهند، وبعض العواصم الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، الذين سيعودون إلى المظلّة الأميركية من أجل حماية حصصهم في البنية الدولية الجديدة.
في النظام الحالي المعمول به اليوم يتدخّل القويّ في ساحة اللعب خلال المباريات، فيعدّل قواعد اللعبة باستمرار ليمكِّن الفريق الذي يدعمه من الفوز. يستخدم الشدّة عند الضرورة إذا ما واجه اعتراضات أو تمرّداً. في النظام الجديد المرتقب ستكون ورقة السلاح النووي هي المسلّطة فوق رأس مَن يخالف التعليمات والأوامر في الملعب.
إهل يتشكّل نظام عالمي روسي جديد أم “للختيرة أحكامها” حين وقع رمز الدبلوماسية الروسيّة المخضرم وزير الخارجية سيرغي لافروف، في نسيان سحب يده اليسرى من جيبه وهو يستقبل نظيره القطري على مدخل مبنى الخارجية الروسية في موسكو؟
نشرت على موقع اساس ميديا – 17 آذار 2022
Leave a Comment