سياسة مجتمع

منظومة الفساد السياسي ومخاطر تجديد شرعية نظامها

زكـي طـه

يعكس مستوى الضجيج الاعلامي والحركة الميدانية، في إطار التحضير للانتخابات النيابية، المقررة  منتصف شهر أيار المقبل، حدود الجدية في التعامل معها من قبل قوى السلطة. كل المعطيات والمؤشرات الدالة حول إمكانية حصولها توازي إمكانيات الاطاحة بها تأجيلاً لها، وتمديداً للمجلس الحالي المطعون بشرعيته. والتأجيل ليس بحاجة لذريعة الحرب الروسية على اوكرانيا، أو انتظار مصير مفاوضات فيينا في ضوئها. لأن الذرائع الخارجية أو المحلية التي يمكن اللجوء إليها أكثر من أن تحصى. ولنا في قرار تأجيل الانتخابات البلدية والاختيارية خير دليل في اختيار السبب، الذي يمكن اعتماده لتأجيل الانتخابات النيابية. وهو المتمثل بعدم القدرة وانعدام جهوزية وزارة الداخلية ونقص الاموال. وفي هذا السياق استحضر العهد قضية المركز الانتخابي الموحد “الميغاسنتر”، التي يجرجر القرار بشأنها من جلسة حكومية إلى أخرى، وصولاً إلى تشكيل اللجان الوزارية للبت بها.

مع ذلك، لا يقتصر التحضير للانتخابات من قبل أحزاب السلطة على توالي أعلاناتها عن ماكيناتها الانتخابية، واسماء مرشحيها. بل يتزامن مع ما يدور بينها جميعاً من ابحاث ومفاوضات معلنة، أو في الكواليس بشأن تنظيم تحالفاتها وسبل تشكيل لوائحها لخوض معاركها، وضمان حصصها في ضوء تجديد شرعيتها المكفولة عبر صناديق الاقتراع.

وفي هذا الاطار لم يكن مفاجئاً أن يتكرر على نحو سافر اعلاء رايات التحريض، التي يتقنها سائر الاطراف لشد العصب الطائفي والفئوي. أو الإفاضة في إطلاق تهم التآمر والتخوين للخصوم، الذين تتولى الجهات الخارجية تنظيم معاركهم وتمويلها، باعتبار التمويل الخارجي وجهة نظر كما الوطنية، حيث ما يجوز لك ليس مسموحاً لغيرك. كذلك لم يكن مستغرباً أيضاً استحضار مقولة التضامن وتجاوز الخلافات بين قواها، سواء لحماية مواقعها أو الحد من خسائرها. وفي هذا السياق يُقرأ تشكيل اللوائح والتحالفات بين القوى المتنافسة لخوض الانتخابات، باعتبارها منظومة واحدة تتشكل من ردائف متنازعة للفوز بأفضل النتائج التي يسعى لها كل طرف.

ولا تتورع تلك القوى في إطار مسؤولياتها عن إدارة شؤون البلد وقضاياه وملفاتها المتفجرة، عن محاولة توظيفها في التحضير لمعاركها الانتخابية النيابية والرئاسية في آن. وعليه كانت مناقشات جلسات الحكومة لمشروع الموازنة قبل إحالتها إلى مجلس النواب، الذي أحالها بدوره إلى اللجان، المرشحة جلساتها لأن تتحول إلى منصة مزايدات انتخابية فولكلورية، حول ما ورد فيها من ضرائب ورسوم، التي باشرت بعض القطاعات والمؤسسات العامة العمل بموجبها. علماً أن إقرار المجلس النيابي للموازنة قبل الانتخابات أو بعدها، يبقى رهن مصالح مكوناته في ضوء احتمالات تأجيلها من عدمه.

أما الاصلاحات المطلوبة على أكثر من صعيد، ولأنها تتعارض مع مصالح قوى السلطة ومرجعياتها، فإنها لم تجد لها مكاناً في مشروع الموازنة، كما في جداول أعمال المعنيين من اهل الحكم. ولذلك فإن حضورها يقتصر على خطاب استقبالهم لوفود صندوق النقد الدولي، التي ما فتئت تكرر طلباتها وشروطها منذ سنوات، دون أن تعثر على أية نتائج، تفتح الباب أمام مفاوضات فعلية تفسح في المجال أمام امكانية وقف الانهيار، الذي بات يصعب الاحاطة بمستوياته ومدى كارثيته.

ولذلك تمت الاستعاضة عن الاصلاحات، بتجديد المناقشات لملف الكهرباء وسط تجديد الخلافات حوله، بعد عزله عن مشروع الموازنة، باعتباره ملفاً خاصاً بالعهد وتياره. حيث لم ولن تتغير وجهة الاستئثار به، ومشاريع الاستثمار المالي والسياسي فيه. وسط الاصرار على إدارته وفق مصالحهما الفئوية بصرف النظر عن النتائج الكارثية أو خلافات المحاصصة معهما مع الاطراف الأخرى.

ولا يختلف أداء العهد والتيار وبقية قوى السلطة في ملف الكهرباء، عنه بشأن التعامل مع حاكم المصرف المركزي، بما فيه استخدام القضاء في النزاع معه على نحو مشبوه ومسيء للأخير. وهو الملف الذي تحيط به الشبهات من سائر الجهات، سواء تعلق الامر بسياسات الحاكم المالية والمصرفية، في امتداد طموحاته الرئاسية المنتهية، أو بإدائه المتعلق بالخضوع لطلبات منظومة السلطة والتغطية على سياساتها، وتمويل عجز الخزينة المنهوبة من قبلها. أو لناحية استسهال تحويل الاموال للخارج، والتصرف بإحتياطات المصرف المركزي وأموال المودعين. إنتهاء بتهم الفساد ومراكمة الثروات التي تحاصره على أكثر من صعيد، ما جعله موضع تجاذبات بين أطراف السلطة واداة في خدمة مصالحها.

كذلك لا يختلف الأمر بالنسبة لملف ترسيم الحدود البحرية، وما ينطوي عليه من أداء يجعله بمثابة فضيحة وطنية. في امتداد تصعيد الشروط إلى الاحد الأقصى، والتراجع عنها، على نحو مثير للريبة والتنكر لما هو مثبّت ومعلن من قبل العهد بشأن الحدود الدولية للبنان ومساحة مياهه الاقليمية. والسبب الاصرار على  توظيف المفاوضات والموقف منها في استحقاق الانتخابات النيابية والرئاسية في آن، عبر التفريط بالحقوق الوطنية. أو عبر ربطها بتعقيدات مفاوضات فيينا بين ايران واميركا واوروبا، خلافاً للمصلحة الوطنية، بما فيه تعريض البلد للاخطار التدميرية.

ولدى التدقيق في أداء الاطراف، من الواضح أن تيار العهد هو الاكثر رغبة في عدم تجرع كأس الانتخابات، لتفادي مضاعفة خسائره، وانكشاف موقعه في ضوء ما حل به من تراجع، وما يعانيه من تفكك ومنازعات تؤكدها الترشيحات باسمه، والاستقالات الاحتجاجية منه. في المقابل ورغم حماسة القوات اللبنانية الانتخابية، فإن المعطيات والوقائع على صعيد الترشيحات والتحالفات لا تؤهلها لتحقيق طموحاتها المنفوخة. ولا يختلف عنها واقع سائر أطراف الساحة المسيحية المتنافسة التي تسعى جاهدة للاحتفاظ بما لديها من مقاعد.

وفي موازة ذلك، تبدو الساحة السنية في اسوأ احوالها من الشرذمة والتفكك. ما يجعلها موضع تنازع لتقاسم تمثيلها النيابي، من قبل بعض أطراف السلطة خاصة حزب الله. سواء على نحو مباشر عبر  تنظيمات أو شخصيات حليفة له. أو عبر السعي لتزوير تمثيلها بقوة الامر الواقع، في ظل عدم وجود مرشحين ذوي صفة تمثيلية فعلية، سياسياً أو شعبياً لغاية الآن، باستثناء ما يمثله التنظيم الشعبي الناصري في صيدا من موقع  المعارضة المستقلة.

وفي الوقت عينه تتكاثر الشكوك حول قدرة الحزب التقدمي الاشتراكي، في الحفاظ على حجمه التمثيلي في الندوة النيابية، في ضوء مآلات وضع الساحة السنية، وفي ظل طبيعة التحالفات بين من هم في موقع الحليف له، أو في موقع الخصومة معه.

في المقابل، وبينما تتصرف حركة أمل من موقع الاطمئنان على حصتها النيابية. فإن حزب الله يتعامل مع استحقاق الانتخابات النيابية، استناداً لقدرته على تعزيز الخلل في توازنات القوى لمصلحته في أكثر من ساحة طائفية وعلى أكثر من صعيد. سواء تعلق الأمر بتجديد شرعيته التمثيلية عبر صناديق الاقتراع، أو لناحية توسيع اطار تحالفاته على نحو يمكنه من التحكم بالانتخابات الرئاسية القادمة. الأمر الذي سيضع الحزب امام تحديات المسؤولية عن إدارة مختلف شؤون البلد على صعيد الحكم، كما في ميادين السياسة والاقتصاد والأمن، وفي مواجهة كوارث الانهيار ومآسيه، وسط العواصف الدولية والاقليمية الزاحفة على المنطقة، بكل ما تنطوي عليه من مجازفات وأخطار.

وفي امتداد ما ورد، ونظراً لطبيعة بنى منظومة السلطة وقواها الطائفية، وعلى قاعدة  تاريخ وعلاقات ورهانات وأداء كل منها، بالاضافة لما لديها راهناً من ثقة بشأن قدرتها على تجديد شرعيتها، لم يكن مستغرباً أن تُخرج ما في جوفها من فجور سياسي وأخلاقي، استخفافاً بقضايا الوطن ومصيره، او استهانةً بعقول اللبنانيين ومستقبلهم. ليس عبر استخدام ما تمتلكه من اسلحة، أقلها إدعاء البراءة مما آلت إليه أوضاع البلد، أنما عبر ترشيح نواب ومسؤولين متهمين بالفساد وهدر المال العام والاهمال واساءة المسؤولية. وهم مطلوبين للعدالة، وهاربين منها بقوة حصاناتهم النيابية والطائفية. إضافة إلى عدم التورع عن ترشيح محكومين قضائياً بالخيانة الوطنية والتعامل مع العدو الاسرائيلي.

أما استسهال تنمّر قوى السلطة، فمرده واقع حال قوى الاعتراض، وحدود وزنها وأهليتها لخوض المعركة الانتخابية، من موقع البديل لمنظومة تعرف جيداً كيف تحافظ على مواقعها ومصالحها وتجديد تسلطها على البلد وأهله.

Leave a Comment