قانون رقم 203 يرمي إلى إنشاء منطقة عقارية لبلدية الغبيري، أقره مجلس النواب وصدر في الجريدة الرسمية بتاريخ 7 كانون الثاني 2021.
في مطلع عام 2021، صدر قانونٌ يرمي إلى إنشاء منطقةٍ عقاريةٍ تابعةٍ لبلدية الغبيري، بهدف تنظيم العقارات الواقعة ضمن نطاقها البلدي وفصلها عن نطاق منطقة الشياح العقاريّة التّي كانت تشكّل معها – منذ نشأتها ولغاية عام 1956 – بلديةً واحدة. يساهم القانون المذكور بتكريس حقوق بلدية الغبيري وتحصيل مستحقاتها المالية على نحوٍ أوضح، لكنه يطرح تساؤلاتٍ عن ترسيخٍ إضافي مقنّعٍ للطائفية والمذهبية والمناطقية عبر تثبيت «هوية» العقارات. يفتح هذا القانون نقاشًا أعمق يتعلّق بتاريخ الغبيري وحدودها الجغرافية التي تبدّلت بمرور الزمن. فقد مثّلَت المنطقة رمزًا للأزمة السياسية العميقة التي أحدثها التغيير الديموغرافي في منطقة الساحل، نتيجة التحوّلات التي طرأت عليها وموجات التهجير المتكرّرة منها وإليها. كما أصبحَت بعد ذلك انعكاسًا للنزاعات السياسية الطائفية التي تهدف إلى السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجيّة، في حين كان السكان الجدد يطالبون البلدية بالتسجيل والحصول على حقّ التصويت.
في زمن المتصرّفية، كانت الغبيري تتبع إدارياً لبلدية الشيّاح التي تمّ تشكيلها في العام 1889، وكانت تضمّ عين الرمّانة، الشيّاح، الغبيري، وحارة حريك، لتنضمّ إليها برج البراجنة عام 1906. في مطلع العام 1922، نجحت كلٌّ من برج البراجنة وحارة حريك في الانفصال عن بلدية الشيّاح مع تحديد نطاقها الجغرافيّ، كما ومنطقتها العقارية، وبقيت الغبيري والشيّاح ضمن بلدية واحدة، إلى أن تمّ تقسيم البلدة والبلدية إدارياً إلى شطرين، وذلك بموجب مرسوم من رئيس الجمهورية كميل شمعون عام 1956. غير أنّ المرسوم لم يلحظ إنشاء منطقة عقارية باسم “الغبيري العقارية” وبقيت كلّ العقارات الواقعة ضمن نطاق هذه البلدية، تقع ضمن منطقة “الشيّاح العقارية”.
منذ ذلك الحين لم تنظّم المنطقة عقارياً. فقد توالى رؤساء البلدية ولم يُطالبوا بإنشاء منطقة عقارية لبلدية الغبيري. مع استلام المجلس البلدي الأخير مهامه عام 2016، بدأ العمل على هذا الملف وتمت متابعته مع العديد من النواب وصولاً إلى إقراره.
فصدر قانون رقم 203 الذي يرمي إلى إنشاء منطقة عقارية لبلدية الغبيري في الجريدة الرسمية بتاريخ 7/1/2021. وقد استند، بحسب الأسباب الموجبة، على المادة 3 و6 من القرار رقم 1188/26 : “أن كل قرية أو مدينة تؤلف بحدودها منطقة عقارية ومن الجائز أن تشمل المدينة الواحدة عدة مناطق عقارية”، وعلى ضرورة تنظيم “الوضع العقاري لبلدية الغبيري انسجاماً مع القوانين والانظمة المرعية الاجراء”، وبموافقة بلدية الشياح. وبهذا بات للغبيري منطقة عقارية مثل باقي المناطق.
في طَور نتائج القانون، تُصبح العقارات منظّمة، ما يُساعد على الحفاظ على حقوق البلدية وحقوق أصحاب الملكية ويساعد في تحصيل الحقوق الماليّة بطريقة واضحة. فهو ينظمّ عمل البلدية الإداريّ والعقاريّ تجاه سائر السلطات الرسميّة. فمن الناحية المعنوية، وبحسب رئيس البلدية الحالي، أصبح للبلدية “هويّة” عقاريّة. أمّا من الناحية الإدارية والمالية، تكمن أهمّيته لجهة العائدات البلديّة من الدولة اللبنانية من خلال الصندوق البلديّ المستقلّ.
فبحسب قانون الرسوم والعلاوات البلدية رقم 60/ 1988 الصادر في 12 آب سنة 1988 وتعديلاته، والذي يحدد الرسوم والعلاوات البلدية التي تستوفيها البلدية مباشرة وتلك التي تُستوفى لحسابها، تُستوفى الرسوم المباشرة بحسب النطاق البلديّ، أمّا الرسوم غير المباشرة فتُوزع على أساس عدد السكان المقيدين في سجلات الأحوال الشخصية وعلى أساس الحاصل الفعلي للرسوم المباشرة لكل بلدية. غير أنّه بسبب التداخل الجغرافيّ بين الغبيري والشياح وبسبب عدم وجود منطقة عقارية مستقلة للغبيري، فُتح المجال أمام حصول أخطاء تحرم البلدية من بعض العائدات التي تستوفيها بشكلٍ غير مباشرة. فعلى سبيل المثال يرد العديد من معاملات الوزارات أو المراجع الأمنية للسؤال عن عقار ما، إلى بلدية الغبيري ويكون هذا العقار ضمن النطاق البلدي لبلدة الشياح، والعكس صحيح، حيث يتمّ إعادة المعاملة إلى الجهة المرسلة ما يشكلّ عامل إرباك على الصعيد الإداري. فكما حصلت أخطاء على الصعيد الإداريّ، فكذلك من الممكن أن تحصل أخطاء على الصعيد الماليّ. فبذلك يضع هذا القانون الحدّ أمام أيّ هامش خطأ نتج عن عدم تنظيم المنطقة عقارياً.
على أهميته من الناحية التنظيمية والإدارية، يفتح هذا القانون نقاشاً أعمق يتعلّق بشكلٍ مباشر بمنطقة الغبيري، وتاريخها، وحدودها الجعرافيّة التي تبدّلت عبر الزمن. فقد كانت الغبيري رمزاً للأزمة السياسية العميقة التي أحدثها التغيير الديموغرافي للمجتمع في منطقة الساحل، وأصبحت بعدها صورةً للنزاعات السياسية التي تهدف إلى السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجيّة.
كانت بلدية الشياح، كما ذكرنا سابقاً، تشمل منطقة الشياح والغبيري. وكانت بذلك، تضمّ بالاضافة الى “حي الكنيسة” أي حي كنيسة مار مخايل، الأحياء التالية: كرم الزيتون، عين الرمانة، حارة المجادلة، بئر العبد، الغبيري، بير حسن، منطقة الجناح الرملية المحاذية للبحر والواقعة بين الرملة البيضاء والأوزاعي. شهدت الشياح حركة سكانية واسعة جراء التحوّلات التي طرأت عليها وموجات التهجير المتكررة منها وإليها. أوّلها يعود إلى فترة الانتداب الفرنسي، عندما انتقل عدد من العائلات الشيعية من بعلبك، الجنوب والجبل (صور والرياق) واستقروا في ضواحي الشياح وشكلوا حيّ الغبيري.
تمّ الاتفاق بين وجهاء الطائفتين المارونية والشيعية، باتفاق غير رسمي وعلى أساس تعداد عام 1932، على تخصيص مقاعد في المجلس البلدي لكل طائفة، بما يتناسب مع ديموغرافيا الطائفتين. مع تزايد النزوح بين عام 1940 و1950، تغيّر هذا التوازن. وبذلك أصرّ وجهاء الغبيري على أن عدد المهاجرين من الطائفة الشيعية قد تزايد مقارنة بالطائفة المارونية، واشتكوا من كون البلدية تقوم بمعظم نفقاتها ومشاريعها في الشياح. من ناحية أخرى، ضغط السكان الجدد على البلدية للتسجيل والحصول على حق التصويت.
وعلى إثر الانتخابات النيابية التّي أظهرت نسبة المقترعين من الطائفة الشيعيّة، جرت مفاوضات بين الطرفين، تّم التوصل من خلالها إلى اتفاق غير رسمي، بحيث يكون للمسيحيين خمسة أعضاء في المجلس البلدي بما فيهم الرئيس وستة مسلمين. أدّى هذا التوازن الهشّ إلى تعطيل قدرة البلدية على القيام بأيّة مشاريع بين عام 1953 وعام 1955، وانتهى الأمر بالموافقة على تقسيم البلدية إلى قسمين: أحدهما بأغلبية شيعية في الغبيري والآخر بأغلبية مارونية في الشياح. بذلك تمّ اقتطاع حي الغبيري وبير حسن مع قسم من الجناح وجعلها بلدة قائمة بذاتها وانشاء بلدية خاصة بها على عقارات الشياح، ثمّ اقتسام المشاع بين الشياح والغبيري وحارة حريك والوقف الماروني، بموجب مرسوم رقم 11148 بتاريخ 09/01/1956.
بقيت الحدود بين البلديتين غير واضحة. في حين أن طريق صيدا القديم كان الخط الفاصل بينهما، فإن العديد من الأحياء مختلطة، بالأخّص تلك القريبة من كنيسة مار مخايل. وكان من غير الممكن بالنسبة للمسيحيين التخلي عن الكنيسة، كما كانت الكثير من الأراضي في جانب الغبيري ملك للمسيحيين. فنصّ الاتفاق النهائي على إبقاء حي مار مخايل في الشياح رغم وجود سكان من الطائفة الشيعية، والسماح للمسيحيين الساكنين في جانب الغبيري، بدفع ضرائب الأملاك والأراضي على أراضيهم إلى بلدية الشياح. سياسياً الشيعة يصوتون في الغبيري، أمّا الموارنة في الشياح.
أمّا الحدث المفصليّ الثاني من تاريخ الغبيري، فقد كان الانتخابات البلدية لعام 1998. خلال الحرب وحتى الانتخابات البلدية لعام 1998، سيطرت على بلدية الغبيري الميليشيات التي استخدمتها كمصدر لتوزيع الخدمات. اشتهرت البلدية في ذلك الوقت بالفساد والزبائنية المرتبطة بحركة أمل. أمّا بعد الحرب، فقد انقسمت منطقة الضاحية الجنوبيّة إلى منطقتي نفوذ لأحزاب الطائفة الشيعية، حزب الله وحركة أمل. فكان الجزء الشرقي منها الذي يضمّ برج البراجنة والمريجة وحارة حريك والغبيري يخضع لسيطرة حزب الله. فقد حضر هذان الفريقان بقوة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الأحياء. وبذلك تغيّر المشهد السياسي التقليديّ الذي كان سائداً.
في الانتخابات البلديّة لعام 1998، وذلك بعد ثلاثة عقود على آخر انتخابات بلدية، شاركت معظم الأحزاب والشخصيات اللبنانية، بكامل قدراتها. بالنسبة لحزب الله، مثلت الانتخابات البلدية في الضواحي الجنوبية معركة أساسية، فألقى ثقله فيها، لأن فوزه في المجالس البلدية سيوفر له الفرصة الاولى للمشاركة في السلطة التنفيذية، إذا أخذنا بعين الاعتبار استقلالية المجالس البلدية النسبية عن الحكومة، فهذا سيدّر للحزب القدر الأكبر من النفوذ السياسي والاجتماعي والاقتصادي في أوساط شيعة لبنان. فرأى حزب الله، الغائب عن حكومات ما بعد الحرب، السيطرة على البلديات وسيلة مهمة لتثبيت نفسه في عدد من المفاوضات السياسية التي يُستبعد منها بشكل منهجي لصالح “منافسه” أمل. وفي التسعينيات، عندما ركزت مشاريع رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري على هذه المنطقة من خلال مشروع “اليسار”، اكتسبت بلديات الضواحي الجنوبية أهمية استراتيجية في نظر الحزب.
ففي مواجهة قائمة “الولاء والتنمية” لحزب الله، شكل بعض الفاعلين السياسيين المحليين قائمة “إرادة أبناء الغبيري” المبنية على ائتلاف من العشائر العائلية بدعم من حركة أمل ومن رئيس الوزراء رفيق الحريري بالإضافة إلى شخصيات سياسية محلية. بالمقابل، نجح حزب الله في التحالف مع العائلات الأصلية. وهكذا انقسمت هذه عائلات خلال الانتخابات بين حزب الله وأمل.
كان فوز حزب الله الساحق في هذه الانتخابات في بلديات الضاحية الجنوبيّة لافتاً، في منطقة تسيطر عليها بشكل أو بآخر حركة أمل والعشائر العائلية. فقد فازت لائحته كاملة في مجلس البلدية، التي تعد المنطقة الثانية في لبنان من حيث المساحة والامكانيات المالية. مُنح حزب الله الشرعية التمثيلية الرسمية التي كان يسعى إليها، بالإضافة إلى شرعيته الوطنية كعلامة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. ما منحه سيطرة على الضاحية الجنوبية. ويمكن القول إن رئيس مجلس النواب نبيه بري مني بخسارة كبيرة في هذه المنطقة، ومعه رئيس الحكومة رفيق الحريري.
وأخيراً، شهدت الغبيري عام 2016، تعديلاً جديداً في نطاقها البلديّ، حيث تمّ ترسيم الحدود بين الغبيري وبرج البراجنة، بعدما تنازلت بلدية برج البراجنة عن منطقة الغولف لمصلحة بلدية الغبيري، إثر تدخل فعاليات حزبية. فلجأت البلديتان، إلى ترسيم حدود جديدة بالتراضي. واتفقتا على تقسيم منطقة الأوزاعي إلى جزءين. الجزء الأول، يبدأ من منطقة الغولف ويصل إلى مقام الإمام الأوزاعي، أصبح ضمن نطاق بلدية الغبيري. والجزء الثاني، يمتدّ من المنطقة الواقعة على الجهة الشمالية عند طريق المطار القديم في اتجاه بيروت، ويقع تحت إدارة بلدية برج البراجنة. وفي الوقت نفسه بدأ العمل على تنظيم المنطقة عقارياً عبر القانون 203 الذي تمّ اقراره.
سعت بلدية الغبيري، منذ سيطرة حزب الله عليها، إلى تقديم نفسها على أنها فاعل يأخذ زمام المبادرة دون انتظار الدولة. في المقابل، تدعو السكان إلى الاتحاد حولها، فتضفي الشرعية على نهجها. فقد عملت على إعادة بناء تاريخ الغبيري لتعزيز الهوية المجتمعية التي تسمح بتجاوز الانقسام بين الأهالي والمهاجرين. أمّا الفترة التي شكلت فيها الغبيري والشياح نفس البلدية غائبة تمامًا عن تاريخ الغبيري، إلى جانب فترة ما قبل الحرب، عندما شهدت الغبيري نشاطًا صناعياً وترفيهياً كبيراً، فمسألة تهميش السكان المهاجرين كانت الطاغية على الخطاب السياسيّ، وفكرة أن الدين لم يكن دائمًا أساس الهوية المناطقية، لا تتناسب مع خطة حزب الله للغبيري. وكان الإصرار على موضوع الأحياء غير الرسمية وتهميشها من قبل الدولة، يهدف أيضاً إلى التأكيد على الرسالة الموحدة لحزب الله كحركة لتنظيم المجتمع. فمن اللافت أخيراً، وعند النظر إلى الأهمية الاستراتيجية التي تتحلّى بها منطقة الغبيري، تقاعس البلديات منذ عام 1998، عن المطالبة بالتنظيم العقاريّ للمنطقة.
*نشر على “مرصد سياسات الأرض” – استديو أشغال عامة بتاريخ أيلول 2021
Leave a Comment