ثقافة

المسرح و السينما… وجها عملة الثقافة وخيالها

يوسف اللقيس

كانت للمسرح بصمته الذهبية في اظهار مكنونات المتكلم و إبراز تفاعله المباشر مع الجمهور الذي لا يبعد عنه الا امتاراً قليلة، ما يجعل من الإطار المسرحي  جواً ساحراً بتفاعله و كلماته المحضَّرة منها والمرتجلة. لكن لم تكن للمسرح القدرة على الصمود امام حداثة الصورة وعبقرية المشهد الذي سيطر وهيمن منذ زمن وحتى تاريخه .

استطاعت الشاشة الكبيرة ( السينما ) أن تحلّق خارج السرب وتسرق الاضواء متفوقة على المسرح باشواط لاحتوائها على زوايا وابعاد تصعب رؤيتها على تلك  الخشبة. وهنا اخص بحديثي السينما الحقيقية ( روحانية أندريه تاركوفسكي، مافياوية فرانسيس كابولا وأعماق النفس البشرية عند دارين ارنوفسكي). لأن هذه الاخيرة -اي السينما- طغت و بشكل كبير لعدة اسباب أبرزها إلقاء الضوء على زوايا الشخصية، والعمل بطريقة صورية تعكس ما في جعبة المخرج والممثل بشكل أعمق.

إن ما تستطيع أن تظهره الصورة من الولوج إلى أعماق المتلقي متفاعلاً من خلالها مع العمل و الممثل لهو امرٌ جلل يدعو للتأمل.

ويبقى المسرح بكل جمالياته وعَبَق سحره محدود الزمان، فالظروف الأمنية هي التي من شأنها أن تنهي تقدمه أو تعرقل مسيرته، وقد شهدنا مثالًا حيًا ليس ببعيد عندما أغلق “مسرح المدينة” و “الشاتو تريانو” أبوابهما منهزمين أمام جائحة “كورونا”، بينما بقيت السينما صامدة عبر تبث أعمالها عن طريق المنصات الإلكترونية. في المقابل – وعبر الشاشة الكبيرة- انت تصول وتجول في العقول، مصافحاً ثقافات شتى وانت جالس لا تحرك ساكنا. تسافر عبر عوالم تتأثر بالقضية المطروحة وتعيشها من زوايا متعددة، فمن الممكن أن تنظر من عين بطل القصة ولكن من زاوية المخرج الذي له كلامٌ آخر يظهره في الصورة المرافقة لأحداث العمل، حينها نكون أمام فكرين: تبدأ المراهنة على احدهما فنختاره للفوز بنظرتنا الداعمة والمؤيدة له، فإما أن يصيب تحليلنا في النهاية، وإما أن نخسر لنرى النظرة الاخرى مع أسبابها الموجبة.

ههنا، تأتي فكرة ادخال بلاغة المسرح وقيمة سرده الفني والكلامي مع ثقل وعمق الصورة المعروضة، لنكون حينها أمام توليفة فذة، فالسينما تتكئ على داعمين أساسيين: سيناريو مشغول بحوار يحمل قوة المسرح، وعدسة متنقلة تحمل ثقل النص وعمق مضمونه.

وهنا أخص بالذكر مدى نجاح الأعمال السينمائية المقتبسة عن روايات مثل “جزيرة شاتر” للكاتب الأميركي دينيس ليهان و “المريض الإنكليزي” للكندي مايكل اندواتجي و “1984” للكاتب البريطاني جورج أورويل، فلطالما كانت الشاشة الكبيرة منارة تضج بالثقافات الروحية والعلمية وينبوع حياة يُقدم لنا ما نسعى للوصول اليه، ونسافر في بقاع الارض دون ان نحرّك ساكنًا، فهي تتغلب على الحوارات او بالاحرى على سرد المعلومات بشكل كتابي.

السينما عملة نادرة، مصنوعة من بحر الثقافة كان لها الدور الاكبر في تقديم سمفونية متكاملة عبر إدخال السرد القصصي داخل كادر بصري بغية تقديم عمل يحوي ثقل الطرح المرئي مع دسم الحوار وأهميته في إعلاء شأن العمل المعروض بغية الوصول لهدف واحد.

أما الحوارات فكانت لها بصمة بارزة في تعزيز الثقافة على الصعيد الجدلي عبر تقديم وجهات النظر بين طرفين، و التسلّح بالقرائن، و العمل على إظهارها في الموضوع المعني، ناهيك عن معرفة موعد الإنسحاب أو تغيير وجهة النقاش لساحة أنت تبرع في التنقل فيها.

ولكن ما قدمته السينما للمشاهد كان أغنى وأقوى مما قدمته الحوارات وحدها. تعمل الشاشة الكبيرة على إدخال من أمامها في عالم حقيقي يكون مشاركًا فيه بكل مكنوناته ودواخله، يعيش الحدث بأبعاده، يفرح لفرح الشخصية ويحزن لحزنها، يتقرّب من القصة مهما كانت بعيدة زمانياً ومكانياً، حتى الافكار المطروحة حوارياً تقدمها السينما بأبعاد وإسقاطات من شأنها تزويد المتلقي بصورة اوضح عن الخيارات المقدمة، فيختار طريقه بناءً على دوافع و ثوابت يعتمدها ويراهن عليها، إنها اشبه بالثقب الأسود، تعمل على طيّ الزمان والمكان، تلغي المسافات وتقرب المشاهد من الممثل ليخوض معه رحلة الحياة.

و على حدّ قول المخرج الأميركي الكبير كونراد هال: “من الصعب ايضاً التّعبير عن التفاصيل الدقيقة و العميقة في السينما، لانه لا وجود لكلمات او إستعارات تصف العديد من العواطف التي تحاول استحضارها.”

هنا نستطيع القول إن الحوارات ببلاغتها وعمقها الثمينين قد وجدت ارضاً خصبة على الشاشة الكبيرة عبر الاندماج في تقديم عمل متكامل معروض يستطيع المتلقي أن يتفاعل معه، وأن يرى فيه واقعاً بديلاً لواقعه المعاش، يهرب إليه في كل لحظة انكسار أو نشوة فرح.

وأختم بأن المسرح و السينما هما وجهان لعملة واحدة يتشاركان الكثير ويقدمان الأجمل.                                                                  

Leave a Comment