اقتصاد

ميقاتي وتحميل المعذبين والمنهوبين عبء أكلاف مضاعفة أسعار الخدمات!

عماد زهير

 “ما بقى نقدر نعطي كهربا ببلاش واتصالات ببلاش ومي ببلاش لأنو ما بقى في مصاري. واذا قال المواطن أموالي في المصارف، سنقول له : معك حق بس بدنا نتحمل بعضنا”.
هذا ما قاله الرئيس نجيب ميقاتي حرفياً في أعقاب جلسة الحكومة التي عُقدت في القصر الجمهوري يوم الخميس الموافق في 11 الجاري، والتي انتهت كما هو معلوم بإقرار موازنة الدولة للعام 2022 . لن نتناول تلك الجلسة وما حدث فيها من تجاوزات أبرزها أن التصويت على الموازنة جرى على طريقة ما يحدث في بعض جلسات مجلس النواب، أي بالجملة. كما لن نتطرق إلى الموازنة بحد ذاتها باعتبارنا ناقشنا على صفحات هذا الموقع بعض بنودها في حلقتين متتاليتين.

لا يخبرنا الرئيس ميقاتي في تصريحه شيئاً أكثر مما قاله، وهو ذو شقين: الأول منهما يدَّعي فيه أن الدولة كانت تعطي الناس الكهرباء والاتصالات والمياه ببلاش تقديراً لظروفهم. وهو ليس صحيحاً من قريب أو بعيد. اذ لو كان كلامه حقيقياً ودقيقاً لوجب أن يقول أن نسبة من اللبنانيين لا تدفع مقابل هذه الخدمات، بينما القسم الأكبر من المواطنين درجوا على أن يحافظوا شهرياً وسنوياً على دفع المتوجبات عليهم. إذ من التجني وضع اللبنانيين جميعاً في سلة واحدة، بوصفهم ممن لا يدفعون الرسوم المترتبة عليهم. ثم إن عليه أن يعطينا صورة عن طبيعة ومواقع وأدوار أولئك الذين لا يدفعون مقابل هذه الخدمات، ومن يكونون؟ هل هم من المواطنين العاديين الذين يريدون استمرار مؤسسات الدولة في الحفاظ على تقديم هذه الخدمات؟ أم من لا يدفعون هم أولئك الذين يتمتعون بتغطية سياسية من المافيات الحاكمة أو من أركانها، ولا تستطيع ادارات الشركات الثلاثة قطع هذه الخدمات عنهم. واذا فعلت تتدخل المراجع العليا لتوجيه أوامرها لمجالس إداراتها لإعادة وصل ما انقطع، دون أن يتغير شيء في أوضاعهم لجهة عدم الدفع. أما المواطن العادي الذي يريده ميقاتي أن يتحمل عبء الأضعاف المضاعفة التي بدأت بوادرها في شركة المياه مثلاً والتي تضاعفت اشتراكاتها ثلاثة مرات عما كانت عليه، فتقطع عنه في حال تأخره عن الدفع، ولا تعاوده الخدمة الا في حال دفع الغرامات المتوجبة على مخالفته. اختصاراً للقول ليس صحيحا أن بدل هذه الخدمات ببلاش أولاً ، إذ فعلاً هي من أعلى الأسعار في العالم، وليس أميناً القول أن اللبنانيين لا يدفعون. ثم الأهم من هذا وذاك أمر مختلف. فالتردي في الخدمات الثلاثة هو ما أتاح لأصحاب المولدات وباعة المياه معبأة وبالخزانات وأمثالهم الدخول إلى السوق وبيع ما يقدمونه بأعلى الأسعار. ولم يكن للمواطنين يد في ذلك، علماً أن المواطن كان يمكن له أن يتقبل رفع أسعار الخدمات تدريجاً مقابل تحسين نوعية الخدمة وتطويرها، بدل حشو اداراتها بالموظفين العاطلين عن العمل تعبيراً عن العلاقة الزبائنية بالنافذين. والأكثر خطورة هو التغطية على الهدر في هذه المؤسسات. ففي قطاع الكهرباء وحده مثلاً هناك حوالي خمسين مليار دولار تم ابتلاعها دون توفر الطاقة ولو بالحد الأدنى. وهذه محمية معروفة تبعيتها من دون منازع إلى ممثلي “العهد القوي” وبعض باقي قوى المنظومة التي تعاقبت على زمام وزارة الطاقة. السؤال هنا هو : هل جرى تحقيق مالي في موارد الوزارة التي حصلت عليها كسلف من خزينة الدولة خلال عقود ولم تردّها وكيف أُنفقت؟ وكانت النتيجة أن نهبت أموال الدولة وهي أموال الناس أو المواطنين الذين يريد ميقاتي منهم التحمّل. كما لم يحرك ميقاتي لسانه لقول ولو كلمة واحدة عن نفقات الشركة لتبين كم من أموال نُهبت وباتت مسجلة في قائمة الخسائر، ومن أفاد من شركات الخدمات وصفقات التلزيم بالتراضي وغيرها. وكل هذه بالمليارات، ولم تأتِ الكهرباء بدليل أننا ندوخ الآن بين انتظار الغاز المصري والكهرباء الاردنية، فيما تتلاحق الوعود، ولا نرى الكهرباء في الخطوط. هل سأل ميقاتي نفسه كم من مليارات ذهبت إلى شركات وشراكات خاصة بين السياسيين والمستفيدين، وكم خسر المواطنون جرَّاء مضاعفات فقدان التيار الكهربائي ونعلم أن هناك من فقد حياته، ودخله نتيجة تعثر الإنتاج بسبب وضع الشركة والسياسات العبثية التي أدارتها؟

لكن الأفدح هو المقطع الثاني من التصريح حول أموال المواطنين في المصارف ووجوب تحمل المواطن. بداية لا بد من وضع ميقاتي في موقعه باعتباره أكبر متمول في لبنان – إن لم يكن المتمول الأكبر – كونه مع شقيقه من أصحاب مليارات الدولارات. بالطبع لا يقتصر الأمر عليهما، بل يتجاوزهما إلى العشرات من الذين كلما سجلت انهيارات اضافية في أوضاع المواطنين، تحولت إلى ملايين ومليارات الدولارات في حساباتهم في صناديق البنوك، ومنها إلى الخارج. هؤلاء بنظر ميقاتي لا يستطيعون التحمل، لأن عبء التحمل يقع فقط على كاهل تلك الجموع التي تكافح لتأمين خبزها اليومي وحليب أطفالها وحبة الدواء والحقيبة المدرسية والقسط والطبابة وغيرها من مستلزمات عيش تبدو هذه الأيام بعيدة المنال عن معظم اللبنانيين، وتدفع بعشرات الألوف منهم، ولاسيما الشباب، إلى البحث عن مخارج في الهجرة، أو الاقتصار على وجبة طعام أو وجبتين يومياً. كل هذا الانهيار لا يعرف عنه ميقاتي شيئاً. فقط يدعو المواطنين للتحمل، وهم الذين خسروا مرتباتهم ودخولهم مع انهيار سعر صرف العملة الوطنية، وكذلك ودائعهم التي يحصلون على مبالغ رمزية منها في سرقة مفضوحة، مصحوباً مع الاذلال المرافق، وبربع قيمة ما يتوجب أن تكون عليه. أما أولئك الذين نقلوا أموالهم إلى مصارف أجنبية من أرباب منظومات الفساد السياسي والإداري والاقتصادي فليس عليهم التحمل. للمناسبة لماذا لم يرد على لسانه ما يلمح ولو من باب مجرد الإشارة إلى الأموال المحوَّلة إلى الخارج واستعادتها ومعاقبة أصحابها، ومحاسبة شبكات نهب القطاع العام والتهرب الضريبي والتهريب الجمركي من المرافيء الشرعية والمعابر غير الشرعية، ومحتكرو وتجار الفوضى الذين يعمدون إلى مضاعفة الأسعار كلما ارتفع سعر الدولار ألف ليرة، ويرفضون تخفيضها في حال انخفاضه عدة الآف، ثم إنهم يرفعونها على الدولار أصلاً ؟ لا نتحدث عن أناس فضائيين بل عن أشخاص لهم أسماؤهم و شركاتهم وعناوينها المعروفة جيداً لمن يريد أن يرى بعينيه. هؤلاء لا يعتب عليهم ميقاتي ولا يطلب منهم التحمل، بل إنه لا يؤشر لهم من قريب أو بعيد، أو يعدنا بأنه سيحملهم أي جزء من عبء انهيار الوضع الاقتصادي والمالي العام الذي تتحمل مسؤوليته الأولى السلطة السياسية التي جعلت البلاد منهبة كاملة غير مسبوقة.

المؤكد، أن ميقاتي لا ينطق باسمه الشخصي ولا باسم أعضاء حكومته، بل باسم طبقة كاملة هي التي قادت اللبنانيين واقتصادهم إلى الخراب المعمَّم، وهي الآن تطلب منهم الصبر والتحمل.

لا يا دولة الرئيس، لم يعد باستطاعتنا التحمل، الا اذا كنت تريد أن تجعل من الضوء وقطرة الماء ومازوت التدفئة والعمل والاتصال مع أبنائهم وأقاربهم لطلب النجدة، امتيازاً حصرياً لمن هم من طينتك من الذين انتفخت خزائنهم بتعب اللبنانيين وعرقهم ونُهشت لحومهم، ثم اذا بها الآن تقرر مصّ ما تبقى على عظامهم.

لا نريد أن نتحمل عبء فساد طبقتكم المتخمة التي لم يعرف العالم مثيلاً لجشعها، والتي لم ترتو ولا تشبع، أو تقف عند حد من النهب الذي أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه من فاقة وعوز. حتى بات أمر الحصول على الأساسيات بمثابة حلم يراود المواطنين الذين تدعوهم إلى التحمل.

لا، لسنا جِمالاً في صحراء الصبر والتحمل نشهد على قوافل سيركم المشينة، وفضائحكم اليومية في  كل مجالات الحياة. من السياسة إلى الاقتصاد والخدمات، ناهيك برفضكم تقديم الحد البديهي من العدالة لـ 217 لبنانياً و67 من غير اللبنانيين هم ضحايا تفجير المرفأ، ناهيك عن أولئك الذين يتساقطون يومياً دون تفجيرات وجرائم صاخبة.

Leave a Comment