كتب الدكتور بول طبر
طرحت انتفاضة 17 تشرين مطلباً أساسياً دعت فيه ليس فقط لنزع الثقة عن القوى السياسية الحاكمة والمتحكمة بالمجتمع اللبناني، وإنما أيضاً لكف يد الدولة ومؤسساتها عن التعاطي مع “اللبنانيين” بصفتهم أشخاصاً في مجموعات أهلية، وعلى رأسها الطوائف. والشروع في اتخاذ الخطوات اللازمة لجعل هذا التعاطي محكوماً بمعايير المواطنة. وإذا أمعنا النظر بالمطالب الأخرى التي رفعها المنتفضون، كإلغاء الطائفية واستقلال القضاء والعدالة الإجتماعية والكرامة، نجد أنه يجوز أن تندرج في عداد مواصفات المواطنة المنشودة والتي تتجاوز المستوى السياسي لنشأتها التاريخية (في المدينة اليونانية أولاً، ومن ثم في القرن الثامن عشر و مع عصر الأنوار والفلسفة السياسية الحديثة) لتشتمل على الحقوق والواجبات المتساوية “الموصولة بالحريات الفردية والمجتمع المدني” (عبد اللطيف، ك. المواطنة والتربية على قيمها، ص. 12، 2012، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت)، وبمفهوم المواطنة الاجتماعية التي تدعو إلى الإقرار بالحقوق الإجتماعية للمواطن، من قبيل الصحة والتعليم والعيش الكريم (المرجع السابق ص. 14-15، للإطلاع على الظهور الأول لمفهوم المواطنة الإجتماعية راجع كتاب توماس مرشال: المواطنة والطبقة لإجتماعية، 1950). وفي سياق إنتفاضة 17 تشرين، لا يجوز إغفال رفع المنتفضين لمطالب أخرى تروم إلى إبراز ليس فقط الحقوق العامة للمواطن اللبناني (والمواطنة اللبنانية)، وإنما إلى الإقرار فوق ذلك بحقوق عامة أخرى، كحق الحفاظ على البيئة وحقوق أصحاب الإحتياجات الخاصة، وطرح البعد الجندري للمواطنة. إضافة، جميع هذه المطالب والأنشطة التي رافقتها، تؤشر إلى بروز حاسم للمواطنة النشطة، أي بروز المواطن اللبناني (والمواطنة اللبنانية بالطبع) الذي قرَّر أن يشارك خلال الإنتفاضة في صناعة الشروط التي تتحكم في فرص حياته، وأن يكف عن دور المتلقي السلبي لما تقدمه له القوى الحاكمة والمتحكمة في لبنان، ولو بصورة متقطعة.
بعد رسم المشهد العام لانتفاضة 17 تشرين وللمطالب التي رفعتها، أسارع للقول أن هذا المشهد لا يُخْتزل باللحظة الليبرالية بأشاكلها المحدثة كما جسدتها انتفاضة 17 تشرين. ولا أتوخى من وراء رسم هذا المشهد إغفال الجذور الطبقية للإنتفاضة ولدورها في السياق اللبناني في تفاقم الأزمات المتعددة التي شهدها لبنان منذ لحظة انفجار الإنتفاضة. فإن تناقضات السياسات النيو- ليبرالية التي أطلقاها رئيس الوزراء الراحل، رفيق الحريري، مع شركائه في السلطة التي تكونت بعد اتفاق الطائف، وما ولدته من رفع في وتيرة استغلال العمال والمزارعين وأصحاب المداخيل المحدودة بسبب جشع الفئات الرأسمالية اللبنانية (مقاولون، تجار، أصحاب مصارف، إلخ) في ظل إقتصاد رأسمالي ريعي ومافياوي متفلت أكثر فأكثر من أي قيود للدولة تخفف من عبء الإستغلال وتعيد توزيع الثروة، ولو بدرجة قليلة لحماية الفئات الشعبية (بواسطة تغيير نظام الضرائب وجعله نظاماً تصاعدياً)، تشكل القاعدة الطبقية لانتفاضة 17 تشرين 2019ومصدراً رئيسياً للطاقة التي أظهرها المنتفضون خلال الأنشطة التي قاموا بها منذ اندلاعها.
إلا أن الصحيح أيضاً هو الإقرار بأن هذا البُعد الطبقي للإنتفاضة لم يشكل القاسم المشترك الذي أجمع عليه جميع المنتفضين ومؤيديهم، واحتل موقع الصدارة في سلسلة المطالب التي رفعوها ونادوا بتطبيقها. ولم يكن البُعد (والوجع) الطبقي مجرد طاقة تزخيم لحراك المنتفضين كما سبقت الإشارة إليه، بل كان أيضاً حاضراً بصفته المطلبية في العديد من التحركات والمطالب المرفوعة، جنباً إلى جنب مع مطالب تجسد مظالم وقهر وحرمان ذات أصول تتعلق بالسياسة ومؤسساتها وبالنظم والقيم الإجتماعية وغيرها.
القضايا والمطالب التي رفعها جميع المنتفضين وأجمعوا عليها، كانت مطالب تنتسب إلى ما يجوز وصفه بالإرث الليبرالي الديموقراطي. ويأتي هذا التنسيب لتلك المطالب ليس بداعي أصولها الإغريقية والأوروبية في عصر الأنوار لاحقاً، وإنما بسبب تعبير تلك المطالب عن حاجات اللبنانيين المنتفضين والمتعاطفين معهم أولاً وأساساً. وبغض النظر عن الجذور الإغريقية والأوروبية الحديثة للفلسفة الليبرالية والقيم الديموقراطية الموصولة بها، فإن هذه الفلسفة وتلك القيم تعبر في السياق اللبناني عن حاجات فعلية للمواطنين الذين دفعوا غالياً من كرامتهم وحريتهم بسبب النظام الطائفي في لبنان، وتعميم الثقافة الأهلية وقيمها (تمييز مذهبي، عشائرية، قبلية، عائلية، مناطقية، إلخ) قاعدة لانتظام شؤون الحكم والشأن “العام”.
وتتجسد تلك المطالب التي أجمع عليها المنتسبون إلى انتفاضة 17 تشرين في عناوين أساسية كإحلال المواطنة بدلاً من الرعية، أساسا” لتحديد الحقوق والواجبات للجميع بلا تمييز أو تفرقة، وتكريس حق المشاركة في صناعة الخيار السياسي ومن ضمنه الحق في مراقبة ومحاسبة السياسيين والمسؤولين عن إدارة الشأن العام، محاربة الفساد، استقلال القضاء وتطبيق القانون، الحفاظ على الحرية الفردية وعلى المصلحة العامة. دعا المنتفضون لتحقيق هذه المطالب مقدمين بذلك حلولاً فعلية لمشاكل عانوا منها ولا يزالون في سياق سعيهم لبناء وصياغة مجتمع من المواطنين اللبنانيين، وإنشاء دولة وطنية تنبذ النظام التراتبي والتمييزات الأهلية التي وسمت الدولة في لبنان منذ نشأتها عام 1920.
لم تتصدر هذه المطالب معظم التحركات التي نظّمها المنتفضون ولم تحظَ بإجماعهم بالصدفة. ذلك أن النظام الطائفي، والمؤسسات والقيم الأهلية الملازمة له، يمتلك كماً هائلاً من المثالب والأضرار التي عانى اللبنانيون منها كثيراً، بالرغم من تفاوت تلك المعاناة بحسب خلفياتهم الإجتماعية وانتماءاتهم الأهلية (على رأسها الطائفية) والمناطقية (مع ضرورة إستثناء طبقة الأغنياء المتحكمة بسبل العيش، والقوى السياسية المسيطرة من خلال هذه المعادلة، وذلك لأنهم اعتمدوا دائماً على النظام الطائفي والمؤسسات والقيم الإجتماعية الملازمة له لتكريس نفوذهم ومواقعهم). إلا أن اتساع دائرة المتضررين من النظام ومؤسساته بحكم تناقضاته الداخلية (الصراع الدوري على توزيع النفوذ والمغانم)، وضيق رقعة المنافع الموزعة عبر الشبكات الزبائنية، موصولة بالأزمات المالية والتنموية الناتجة عن تناقضات السياسات النيو- ليبرالية المعتمدة، وفوق ذلك كله تكبد النتائج السلبية داخلياً والمتحدرة من الانكشاف المطرد للساحة اللبنانية أمام الصراعات الإقليمية المحيطة. إن هذه العوامل مجتمعة أدت إلى اتساع دائرة المتضررين من النظام اللبناني لتطال ليس فقط الفئات الشعبية وأصحاب المداخيل المحدودة وحسب، وإنما فئات واسعة من الطبقة الوسطى وحتى بعض أصحاب الرساميل المتذمرين من الكلفة العالية للتدخلات السياسية في المصالح والاستثمارات الإقتصادية السائدة في البلد.
من هنا يمكن لنا أن نفهم تصدُّر المطالب أعلاه وتحولها إلى قاسم مشترك للغالبية القصوى للمنتفضين ولأنصارهم، واعتبار طابعها الليبرالي الديموقراطي هو المحرك المشترك والأساسي لها. ويبقى أن نشير إلى أن المطالب الأخرى والدعوة لتحقيقها من مجموعات وفئات متنوعة (فئات نقابية ومهنية وطلابية وبيئية وجندرية وحزبية) كانت حاضرة ومؤثرة في مسار الإنتفاضة وتوجهها. وصحيح أنها لم تخترق الإطار الليبرالي الديموقراطي العام الذي طرحته الإنتفاضة منذ 17 تشرين، عام 2019، إلا أنها أدت إلى تجذيره وإغنائه لتجعل المواطنة المنشودة تدافع عن العدالة الإجتماعية وحق المواطن في التعليم والصحة والعيش الكريم، وعن المساواة الجندرية بين الأفراد، وحق المرأة في المشاركة في الحياة السياسية والعامة، والحق في الحفاظ على بيئة نظيفة في وجه المنتهكين لها، وعلى حقوق أصحاب الحاجات الخاصة والعمال الأجانب. وقد جاءت هذه المطالب لإغناء وتجذير البُعد الليبرالي الديموقراطي الموحد لانتفاضة 17 تشرين كما أشرنا سابقاً، الأمر الذي ينسجم مع ما تتعرض له أيضاً الرؤية الليبرالية الديموقراطية في معظم دول العالم الديموقراطي.
Leave a Comment