سياسة

اللبنانيون أمام الأمل المفقود بالسلطة وانعدام الثقة بقوى الاعتراض!

كتب زكـي طـه

 يتابع سائر أطراف السلطة ما كان دأبهم من سياسات وممارسات، وسط تجاهل تام  للانهيار الشامل، بينما البلد ينزلق سريعاً نحو الانفجار الأخير. يحدث هذا بعد عشرة اشهر من الفراغ الحكومي، ورغم بلوغ الانهيار مستويات هي الأكثر كارثية وفق تقارير الأمم المتحدة والهيئات الدولية. لكن المعنيين بتشكيل الحكومة لا يزالون يرفضون التوافق، حتى على صيغة الحد الأدنى لتسيير شؤون البلاد. وهذا ما أوصل الوضع إلى طريق مسدود مع سقوط مبادرة رئيس المجلس النيابي بعد إفشال المبادرة الفرنسية.

وفي هذا السياق يُسجل للعهد “القوي” إنجازه “التاريخي”، المتمثّل بإضافة منزل رئيس التيار الوطني الحر في “البياضة”، إلى لائحة المقرات المرجعية لمنظومة الطبقة السياسية المتسلطة على البلد. سبق ذلك نجاحه في تكريس صهره، وكيلاً مفوضاً عن العهد ومقرراً باسمه، حول قضايا الحكم وتقاسم السلطة وإدارة شؤون البلاد. وكما في السابق لم تتحقق النجاحات إلا بقوة نهج التعطيل المستمر باسم الدستور والصلاحيات أو حقوق الطوائف والميثاقية. 

 صحيح أن العنوان الطاغي للأزمة هو آلية وصيغة تشكيل الحكومة، وشروط توزيع الحصص وتسمية الوزراء. إلاّ أن الأساس في المعركة هو موقع الرئاسة والتيار، ودورهما في استحقاقي الانتخابات النيابية والرئاسية خلال العام القادم. لأن الحكومة في حال تشكُلها ستشرف على الانتخابات النيابية، والمجلس النيابي الجديد سينتخب الرئيس الذي يخلف العهد الحالي، وإذا تعطّل الاستحقاقان أو أي منهما فهي من يتولى الحكم وإدارة شؤون البلاد.

وخلافاً لكل الادعاءات الاصلاحية والإنقاذية، فإن سائر الاطراف التي تفاوض على تشكيل الحكومة، تبحث  فقط عن تعزيز مواقعها وضمان أدوارها في ما هو قادم  على البلد، بما فيها تيار المستقبل ورئيسه المكلف تشكيل الحكومة. وهو الذي ثبُت عجزه عن  تجاوز عقبات التشكيل، وفشل في اقناع الآخرين في الداخل والخارج بقدرته على تأليف الحكومة وتحمّل المسؤولية. أما جولات الخارج التي شكلت بالنسبة له بدلاً عن ضائع الداخل، فقد زادت من ضعفه، مع استمرار التجاهل الاميركي والسعودي له، واستطراداً الفرنسي. ما سهَّل على خصومه محاصرته وتصعيد مواجهته. وأمام انتظار نجدة لن تأتي، فقد اصبح أمام خيارين: إما الخضوع  لشروط خصومه، أو المفاضلة  بين جدوى الاستمرار رئيساً مكلفاً بلا حكومة وتجرع كأس الاعتذار.

   ليس غريباً أن يخوض الطرفان المحاصران بالأزمات والفشل، تيار العهد ورئيسه والرئيس المكلف وتياره. فالمعركة مصيرية ومقررة لمستقبل كل منهما وموقعه في السلطة، وكلاهما يرفض تشكيل حكومة وفق شروط الآخر. وبعيداً عن كل الأداء التضليلي المشترك بين قوى السلطة، حول الصلاحيات والدستور وحقوق الطوائف، وخلافاً للظاهر فإن العوامل والاسباب الرئيسية لانفجار واستعصاء أزمة الحكم وإدارة شؤون البلاد ومسار الانهيار، لا يمكن حصرها بين تياري العهد والرئيس المكلف، اللذين يسستميتان لتثبيت مواقعهما المفترضة في السلطة والحكم، إلى جانب سائر اطراف الطبقة السياسية. عدا أن ذلك أيضاً لا يلغي تفاوت اقساطها من المسؤولية عن الانهيار الشامل، وعن المخاطر التي تحاصر البلد وتهدد مصيره.  سواء تعلق الأمر خلال المحطات التاريخية أو في ما خص الاوزان وحجم التمثيل والامكانات، أو لناحية طبيعة المشاريع الفئوية واستهدافاتها والعلاقات والولاءات الخارجية لأصحابها. 

وبصرف النظر عن أداء بعض الاطراف التي تحاول تعويم أوضاعها وتجديد ادوارها باستغلال مآزق القوى الاخرى، والهروب إلى الامام عبر طروحات وهمية كالحياد والفدرلة، أو تحيّن فرص الاستفادة من سياسات اقليمية ودولية كما هو حال القوات اللبنانية. تحضر مسؤولية الثنائي الشيعي من خلال دور حركة أمل المكرَّس من بوابة رئاسة المجلس النيابي في امتداد دستور الطائف. في موازاة  الدور الاستثنائي لحزب الله على رافعة مقاومة الاحتلال الاسرائيلي وانجاز التحرير، وما يتمتع به من فائض قوة، سواء بذرائع استكمال التحرير وحماية البلد من الخطر الاسرائيلي، أو محاربة الارهاب عبرالقتال دفاعاً عن أنظمة دول محور الممانعة. 

 ورغم أن طرفي الثنائي الشيعي حريصان على تغطية  أدوارهما، عبر ادامة مشهد الصراع بين العهد والتيار الوطني الحر والرئيس المكلف وتيار المستقبل، وحصر مسؤولية استعصاء الأزمة بهما. فإن ذلك لا يلغي  مسؤولية الثنائي رغم الأهداف المختلفة لمشروعيهما. وبينما ينتسب أداء حركة أمل إلى الاهداف الأصلية لنشأتها في كنف بنية الدولة ومؤسساتها، والسعي لتعزيز موقع الطائفة في الحكم والإدارة ومحاولة تكريس هيمنتها عليهما. فإن مشروع حزب الله يستمد مبررات وجوده ومشروعيته ومسار تطوره، من ضعف الدولة، ومن استغلال التراجع المتمادي لدورها وعجز مؤسساتها. ما يجعل منه شريكاً مضارباً لها، ليس من خلال مشاركته في السلطة، إنما عبر المساهمة في إضعافها وبناء مؤسساته البديلة في موازاتها وبالاستقلال عنها، في ميادين السياسة والامن والاقتصاد والمال والقضاء والخدمات كافة. ومتابعة العمل على تكريسها كبنية متكاملة لدولة قائمة ضمن الدولة وإلى جانبها، والحلول التدريجي مكانها بقوة الأمر الواقع. مثلما هو راهن ومسلّم به طوعاً من بعض شركائه في السلطة، أو قسراً من الآخرين الذين يقفون عاجزين عن مواجهته بمشاريعهم الطائفية والفئوية، التي لا تشكل مصدر قلق له لأنه الأقوى بينها جميعاً. ما يُسهل له تنفيذ سياساته وتطوير مؤسساته وفرض شروطه،  والاستمرار في تجاهل اعتراضات الآخرين عليها ورفضهم لها بصرف النظر عما تسببت به من مقاطعة وحصار سياسيين وعقوبات اقتصادية ومالية. وهو في ذلك يستغل عجز أكثرية اللبنانيين الذين تسحقهم الأزمات، محاولاً تسويق دوره عبر خطاب شعبوي تضليلي، باعتباره المنقذ والمخلّص والحامي للبلد من المخاطر والاعداء وفق تعريفاته.

 وأمام هذا الواقع الكارثي الناتج عن أداء أهل السلطة وسياسات الأمر الواقع، بات عادياً مشهد طوابير السيارات امام محطات المحروقات، وتنقل المواطنين بين الصيدليات بحثاً عن الادوية وحليب الاطفال، أو بين المستشفيات لادخال مريض، أو المُعاركة للحصول على سلعة مدعومة إذا وجدت. ما لا يختلف في الجوهر عن  مشهد الآخرين الباحثين في مطامر وحاويات النفايات عما يؤكل أو يباع. 

 ومع فقدان الأمل بتشكيل حكومة، أو معالجة أي من الأزمات التي يصعب حصرها، فإن انعدام القدرة لدى أكثرية اللبنانيين على تحمّل أعبائها أو التعامل معها  لم يعد مصدر قلق وخوف  فحسب، بل تحوّل حالاً من اليأس والاستسلام  للأمر الواقع. ومع انهيار الدولة ومؤسساتها واجهزتها، فقد اصبحت اولوياتهم البحث عن مخارج وحلول فردية لتدبير شؤونهم ومعيشة عائلاتهم، في ظل سيادة الفوضى الأهلية ووسط تسلط وتحكم مافيات التجار والخدمات والمصارف وعصابات التهريب والشبيحة برعاية وشراكة أطراف السلطة وإدارتها.

والأدهى من ذلك هو اصرار أهل الحكم على الاستخفاف بعقول اللبنانيين وإدعاء الاصلاح والبراءة من المسؤولية عن الكارثة وعن الاستعصاء الشامل وانسداد الأفق امام أية حلول أو مخارج انقاذية ممكنة بانتظار المجهول. ولذلك فإن أخبار جولات التفاوض بين قوى السلطة، ومعارك الإقصاء وتصفية الحسابات في سبيل تجديد تقاسم المغانم، لم تعد مصدر اهتمام لأكثرية المواطنين ولا مادة اقناع لمسؤولي الخارج.

وما يزيد الأوضاع صعوبة ومأساوية، هو واقع قوى الاعتراض برمتها، التي تُمعن في البحث عن مشاريع حلول وصياغة برامج للتغيير واستنباط شعارات وآليات تنفيذ لها. وهي تكرر محاولات تشكيل الأطر والجبهات وانشاء تراكيب، لملاقاة استحقاقات انتخابية قادمة غير مؤكدة، أو بحثاً عن اعتراف بعض قوى السلطة بها أو تقديم اوراق اعتمادها للخارج علّه يعترف بها. أما أكثرية اللبنانيين المغلوب على أمرهم، فهم موزعين بين الخيبة والأمل المفقود بقوى السلطة وعدم القطع معها، وبين انعدام الثقة بمدعي المعارضة ودُعاة التغيير وانقطاع شرايين التواصل معهم.

Leave a Comment