كتب محرر الشؤون الفلسطينية
أعادت فلسطين بدماء أهلها من خلال مواجهاتهم المفتوحة منذ مطلع شهر ايار الجاري 2021 موقعها على الخارطة السياسية والنضالية. ونقض الفعل الفلسطيني بملحمية نضاليه ما اعتمدته السياسات الاميركية طوال سنوات حكم الرئيس ترامب وفريقه اليميني المتصهين من سياسة تغييبها عن مسرح القضايا التي تتطلب المعالجة والحلول الفعلية. وهو ما يستمر بعض ملامحه في عهد خلفه بايدن وإدارته الجديدة. واذا كانت المواجهات قد انطلقت من حي الشيخ جراح في القدس القديمة من جانب سكانه المهددين بالترحيل والمتضامنين معهم، لردع جماعات المستوطنيين ومن ورائهم الجسم القضائي، الا أنها هذه المرة خرجت عن حدود هذا الحي الصغير إلى المسجد الأقصى والقدس الشرقية لتشمل مدن الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة. وما لبثت المواجهة أن أعادت الوهج للقضية الفلسطينية عربياً، من خلال التظاهرات التي شهدتها معظم المدن العربية وأشكال التضامن التي عبر بواسطتها المواطنون عن وقوفهم إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة بعد سنوات من غلبة المحلي على القضايا والمواقف. وبذلك تهاوت تلك الحملات الاعلامية التي ضجت بها المنطقة حول التطبيع المتبادل والسلام الآتي من خلال فتح المطارات العربية أمام الطائرات الاسرائيلية والرحلات والمصالح المتبادلة.
ولا شك أن الفلسطينيين قد دفعوا غالياً ثمن إستعادة قضيتهم لزخمها في الأرواح شهداء وجرحى، وفي الأرزاق والممتلكات. لكنهم أثبتوا بدمائهم أن قضيتهم غير قابلة للشطب والإلغاء مهما بلغ التآمر الاميركي والعجز العربي مبلغه. والوقائع المتراكمة أكدت على وحدة هذا الشعب سواء في القدس والضفة الغربية أو قطاع غزة وداخل الكيان الصهيوني نفسه، وفي دول الشتات ومخيمات اللجوء. وفي الوقت نفسه أكدت القضية الفلسطينية موقعها كقضية تحرر وطني من أعتى استعمار استيطاني اقتلاعي يحاول عبر كل الوسائل وبواسطة آلات قمعه طمس معالم الجريمة التي ارتكبها عن سابق تصور وتصميم، مواصلاً عدوانه الذي لم يرتو من دماء شهدائها وعذابات مهجريها ومعاناة اسراها وقمع كل من يحمل الدماء الفلسطينية في عروقه.
واذا كانت اسرائيل تغرق في أزماتها العاصفة بين الكتل المكونة لاجتماعها السياسي منذ سنوات عدة، وتكرر الانتخابات العامة دون نتائج حاسمة تذكر، فالمأزق التي قادت إليه المواجهة يبدو أعقد بما لا يقاس مما شهدته صراعاً بين أجنحة النظام على الأغلبية، وبالتالي فالتحديات التي تواجهها باتت أصعب من مجرد القدرة على تشكيل حكومة تحمل بصمات مكوناتها التمثيلية. ومما لا شك فيه أن اسرائيل عملت في غضون السنوات المنصرمة مستفيدة من الانقسام الفلسطيني ومن التخلي العربي والاوروبي والدعم الاميركي على نسف كل الأسس التي قام عليها الإجماع العربي والدولي بما تتضمنه القرارات الصادرة والمواثيق الأممية والعربية، وما تؤكد عليه من حق اقامة الدولة الفلسطينية على المناطق المحتلة في العام 1967. ودوماً كان الاحتلال يلجأ إلى الإدعاء بفقدان المفاوض الفلسطيني على الجانب الآخر، رافضاً الدخول في مفاوضات هادفة إلى التوصل للحلول النهائية للمشكلات الكبرى المطروحة بما هي مصير القدس وعودة اللاجئين إلى بلادهم وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. جملة هذه الإدعاءات وجد رئيس الوزراء الاسرائيلي لها كل الدعم والالتزام والتبني من جانب إدارة ترمب التي توصلت بعد مراوغة إلى اعلان بنود صفقة القرن. والتي أقصى ما جادت به عبارة عن “جزر حكم ذاتية” ممزقة ومعزولة عن مداها الحيوي الفلسطيني والعربي، وإبقائها تحت نير السيطرة السياسية والأمنية الاسرائيلية. وقد حصلت مثل هذه السياسة على الأوكسجين اللازم من خلال تراجع الدول العربية بذريعة التحالف للتصدي للخطر الايراني، عما سبق وأعلنته في قمة بيروت العام 2002 التي ربطت مصير الاعتراف بالكيان الصهيوني بقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس. إن الإطباق الذي تعرضت له القضية الفلسطينية داخلياً وعربياً ودولياً هو ما دفع بالمستوطنين ومن ورائهم الحكومة والوزارات الصهيونية في اندفاعاتهم نحو فرض وإقامة المزيد من بؤر الاستيطان في طول الضفة الغربية وعرضها، مع تركيز خاص على تهويد مدينة القدس التي باتت في العرفين الصهيوني والاميركي بمثابة العاصمة الأبدية لدولة الاحتلال. من هنا يمكن ادراك ما تتعرض له عبر بوابة حي الشيخ جراح وما سبق وتعرضت له العديد من الأحياء العربية، والمسجد الأقصى الذي تتلاحق عمليات الهجوم عليه بحراسة القوى الأمنية النظامية، فضلاً عن الحفريات تحته والتهديد اليومي من جانب المتطرفين الصهاينة، اعتقاداً منهم أن تدميره سيكشف طبقات التراب عن هيكل سليمان المفقود، وهو الزعم الذي رفضه الآثاريون الذين عملوا في الموقع من أجانب واسرائيليين أيضاً.
الجديد الذي أكدته المواجهة المفتوحة منذ اسابيع أن فلسطين بما هي أرض جرى انتزاعها من أيدي أصحابها وإقامة الكيان الصهيوني على أنقاض قراها المدمرة ( حوالي 485 قرية وبلدة جرى هدمها بين عامي 1947 و1948)، تنهض من بين الجراح والركام مجدداً. ولعل الدليل الأبرز هو حضور وزن الكتلة الشعبية الفلسطينية داخل ما يسمى الخط الأخضر للدفاع عن حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى. هذا جانب والجانب الموازي أن الزمن الذي كانت تستفرد فيه قرية أو حي أو بلدة قد انتهى إلى غير رجعة. لذلك لم تعتبر مدن وبلدات ومخيمات غزة وقرى الضفة الغربية في رام الله وبيت لحم ونابلس وجنين وطولكرم و.. أن الاستهداف لا يخصها، باعتبار أن المشاريع الاستيطانية تعمل في نطاق كل منها ليل نهار على نزع الاراضي من أصحابها ، ومحاصرتها وتقييدها بالحواجز التي تمنع أبنائها من التحرك، فضلاً عن الانتهاكات اليومية لدور العبادة من كنائس ومساجد وأملاك وقفية. كان هذا هو التطور الملموس الذي دفع بالمواطنين الفلسطينيين إلى الخروج بصدورهم العارية لمواجهة قوات الاحتلال وشرطته، ثم جاء دخول غزة في المواجهة ليضع الكيان الصهيوني برمته أمام الأسئلة الصعبة التي حاول الهروب منها قبل 73 عاماً عندما أعلن قيام دولته على جزء من أرض فلسطين الخالية من السكان، ثم استكمل احتلاله للباقي في العام 1967. بالطبع لا يمكن لأي كان أن يقارن بين ما يملكه الكيان الصهيوني من أعتدة وقدرات نارية، وما تملكه الفصائل من صواريخ في غزة. كما لا يمكن المقارنة بين حجم الخسائر البشرية التي أصابت الغزيين والمواطنين الفلسطنيين خلال المواجهة سواء باطلاق النيران الرصاص الحي على تظاهراتهم أو سيل الغارات الذي لا ينقطع ممارساً سياسة التدمير الشامل انتقاماً من المدينة ومخيماتها وصمود أهلها. تبدو كل الوقائع دامغة لجهة مفاجأة العدو من التفاعل الفلسطيني الواسع في مجرى المواجهة. وكذلك من الاحراج الذي تسببت به سياساته أمام الرأي العام العالمي الذي كان يعاين على الشاشات رؤية الأبراج تتهاوى، دون أن تنجح الادعاءات الاسرائيلية بتسويغ جرائم الحرب التي يرتكبها جيشها أمام صواريخ لا تردع تفوقه الجوي وآلة حربه البرية والبحرية.
في الذكرى الـ 73 للنكبة الفلسطينية وقيام الكيان الصهيوني أعاد الفلسطينيون بدمائهم وقرار المواجهة تأكيد حقوقهم التي لا تقبل التراجع، ووضعوا قضيتهم على طاولة المحافل السياسية مطالبين بحل عادل لماساتهم المزمنة دون أن يتخلوا للحظة واحدة عن قرارهم الشجاع بالصمود حتى الرمق الأخير من حياتهم وحجارة بيوتهم.
Leave a Comment