سياسة

المشتركات الجامعة.. خيار الفئات المتضررة نحو الحل

كتب زكـي طـه

    وسط ضجيج اللقاءات والمواقف والتهديد بالعقوبات، شيع وزير خارجية فرنسا مبادرة بلاده الانقاذية لتشكيل الحكومة، التي لم تمتلك أصلاً فرص النجاح منذ اطلاقها في اعقاب انفجار مرفأ العاصمة قبل تسعة أشهر. اذ إنها راهنت على اطراف السلطة المسؤولة عن خراب البلاد، وقواها المرتهنة لدول الخارج  الاقليمي والدولي التي تمتلك القرار، ولم تتبنَ المبادرة. تزامن الأمر مع النهاية الغامضة والمريبة دون اعلانات لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي التي استؤنفت بعد ستة أشهر، بدفع  وانحياز اميركي لمصلحة اسرائيل. وهي المفاوضات التي لم تكن مرشحة للنجاح أيضاً، بالنظر لتخبط أهل الحكم وخلافاتهم حول مرجعية الوفد المفاوض وخط الحدود، مما كان كفيلاً بفشلها وعدم تحقيق الغاية منها.

    وبذلك باتت الأبواب مشرعة بالكامل على المخاطر التي  يُبشرنا بها أهل السلطة. ويرددها حشد الموفدين الذين زارونا مؤخراً بحثاً عن مصالحهم. وقد غادروا جميعاً وهم يتقاسمون مع غالبية اللبنانيين اليأس والاحباط من منظومة الحكم، التي  يرفض أركانها تحمّل مسؤولياتهم وتقديم التنازلات انقاذاً للبلد. وفي ذلك تأكيد لمقولة الخارج، ومفادها أنه لا يستطيع القيام بما هو مطلوب من اللبنانيين، لأن الاصلاح والانقاذ ومعالجة الأزمات والتصدي للمشكلات يقع أولاً وآخراً على عاتقهم.

   لا غرابة في الأمر، لأننا نعرف جيداً ما يجمع منظومة الحكم من حيث طبيعة بنيتها الأهلية الطائفية والعشائرية والمناطقية والايديولوجية، وكم هي ردائف غير متناقضة لا يلغي أي منها الآخر. يؤكد ذلك نشأتها ومشاريعها الفئوية ومسارات تطورها وتراجعها، وارتباطاتها ورهاناتها ومصادر قوتها وعوامل ضعفها. كما ندرك جيداً أيضا ما تتشاركه من مصالح، وما تختلف عليه وتتصارع حوله، في ظل استعدادها الدائم للمغامرة بالبلد في سبيل ما تراه “حقوقاً” لها. واعتماد معادلة سياسات حافة الهاوية والتسويات الممكنة في آن، التي تبقى دوماً عرضة للنقض مع تغيّر الأحوال. أما القاعدة الذهبية التي تستظلها الاطراف كافة فهي تقاسم المغانم وادعاء الانتصارات وتبادل تهم الفساد والخيانة.

    وعلى هذا الأساس تتعامل أطراف المنظومة  في ما بينها حول ما تنتجه من أزمات، ومع الخارج وموفديه، بالاستناد إلى توازنات القوى المحيطة في الاقليم أو على الصعيد الدولي. وما تتيحه لها تباعاً وفي كل أوان من امكانات وفرص بالنسبة لكل منها. هكذا كان الأمر ولم يزل، مع كل الملفات كما مع جميع المبادرات والدعوات وشروط الدعم بصرف النظر من أي جهة اتت. حيث الجميع مع الاصلاح وضده في آن. ولا يختلف الامر بالنسبة للانقاذ والدستور ومكافحة الفساد واستعادة الاموال المنهوبة واستقلالية القضاء و…  ما يبقيهم جميعاً أطرافاً ومنظومة يتشاركون مسؤولية التعطيل والمماطلة والتسويف، ويجعلهم في الوقت عينه ابرياء ومتهمون ووطنيون وخونة في آن.

    وبصرف النظر عن النوايا والمصالح المختلفة والمتنوعة والمتناقضة، التي تدفع دول الخارج  للتحرك وارسال الموفدين، ومعهم ما لا يحصى من الاقتراحات والمبادرات والوعود، وما يحتشد خلفها من مضمرات وسياسات، وما يرافقها من نصائح واغراءات، وما يوازيها من  تحذيرات وضغوط وعقوبات. مما يسهل معه فهم أسباب ودوافع  فشل تشكيل الحكومة ومفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع العدو، التي تضاف إلى ملفات استقلالية القضاء وفساده، والتحقيق الجنائي والتهريب وترشيد دعم السلع الاساسية. وكل القضايا الأخرى العالقة والمرشحة للنسيان، أمام ما هو قادم وأكثر تعقيداً حول الانتخابات البلدية والنيابية والرئاسية والمخاطر التي تهدد مصير الكيان، وقد تكرّس ارتباطه بأزمات المنطقة المتفجرة، وسط ازدحام مسارات التفاوض الدولي والاقليمي للسيطرة والهيمنة وتقاسم النفوذ والموارد.   

     وعليه يبقى السؤال الأهم والذي يفتقد للجواب: كيف ينظر أكثرية اللبنانيين إلى ما هم فيه في ظل انقساماتهم وخلافاتهم ونزاعاتهم، وهم الذين أدمنوا الرهانات الخاطئة، التي تبقيهم في حالة تنقل دائم بين المآسي والمهازل. لأنهم لم يتعلموا كيف يتجنبون المآسي وعدم تكرار خياراتهم وتجاربهم التي تسببت بها، ولا أحسنوا تلافي المهازل التي يدمنون التعايش معها وكأنها قدر لا يُرد. وفي كلا الحالتين نراهم يستسهلون القبول بما يُدفَعون إليه، علماً أنه يُقرر الشطر الأكبر من حياتهم ومصائرهم.

    والسؤال يتعلق بجدارة المعنيين منهم في التوافق على الحد الأدنى من تشخيص أسباب أزمات البلد ومشكلاته المستعصية، من خلال البحث عن القضايا حيث هي بعيداً عن ضجيج المبادرات والمنابر الاعلامية والمؤتمرات والمنتديات وأرصفة الانتظار، أو بين ركام البرامج والشعارات والطموحات غير القابلة للصرف، وسط صعوبة احصاء التشكيلات والأطر الجبهوية التي تطالب بالتغيير، ومعها مجموعات “الانتفاضة” التي قاربت الألف، وفي ظل غياب الفئات والكتل الاجتماعية المتضررة.

    وما هامشية تلك الجبهات والمجموعات سوى انعكاس لهشاشة تشكيل بُنى المجتمع ومدى تفككها وتشرذمها بالاستناد إلى تشكيلاتها الاجتماعية الموروثة التي لم تزل تأسر اللبنانيين وتبقيهم رعايا، وتحول دون تحولهم مواطنين متساوين من حيث الحقوق والواجبات. وبما يسمح بتشكلهم فئات وكتل اجتماعية حداثية لها مصالح وحقوق ومطالب مشتركة. وعليه، يبقى المشترك بين من ينطقون باسم الانتفاضة، هو العجز عن تحقيق أي مطلب تغييري ملموس. هذا عدا الاختلافات إلى حد التناقض في تحديد أسباب ما هو راهن وما هو محتمل وقادم من أزمات ومخاطر، بالنظر لاختلاف وتباين المواقع. ولذلك تتعدد الرؤى والمنطلقات ومعها يسود رفض الآخر وعدم القبول به ونبذه في كثير من الحالات، وصولاً إلى تخوينه، مما يستحيل معه التلاقي أو الحوار من أجل التوافق على برنامج الحد الأدنى للانقاذ. والأمر مرده عجز تلك القوى عن تحديد المشتركات التي يمكن بالاستناد لها تعريف المصلحة الوطنية، ما يشكل الوجه الآخر للانقسام الاهلي حول الاشكاليات المستمرة التي تطال الهوية الوطنية وموقع الكيان وعلاقاته مع محيطه، عدا طبيعة النظام وانقسامات المجتمع والمسألة الطائفية.

    وفي امتداد ذلك كله ليس مستهجناً استسهال السعي للحصول على اعتراف الخارج ودعمه، والهروب من تحديات ومصاعب إرساء أسس مشتركة لبناء مسارات تراكمية، ما يؤدي حكماً إلى تجديد الانقسام  والخلاف بين من يفترض أنهم أهل القضية الواحدة. وهذا ما يبقي أطراف السلطة بأمان، لأنه يتيح لها ومعها دول الخارج الفرص السانحة للتعامل مع مجموعات الانتفاضة واطرها وفق مصالحها وسياساتها،  ما يمكنها من تعطيل جميع المبادرات واجهاض كل التحركات والتلاعب بقواها وتهميشها. مما يسهل معه إدامة نظامها وتجديد بُناها وتأبيد سلطتها بكل ما تنطوي عليه من استهانة واستهتار وتفريط بالبلد واهله والمصير. 

    مما لا شك فيه أن انقاذ البلاد أعقد بكثير من لقاء أو تشكيل جبهة أو اطار واعداد ورقة واقتراحات معالجة، وأعمق من الخطابات السطحية والاعلانات المبدئية والشعارات العامة. إنها  قضية  وحدة وطن ومصير، عبر عنها مئات ألوف اللبنانيين في 17 تشرين 2019، في  لحظة تاريخية واستثنائية غير مسبوقة. إنها تتعلق بتوافق أكثرية الفئات المتضررة على بناء البديل حقاً وفعلاً حول مشتركات جامعة، عبر الحوار وقبول الآخر مهما تباينت المواقع والمصالح والرؤى، وبمدى قدرتها على خوض المواجهة مع منظومة السلطة ومحاصرتها عبر موازين قوى تصاعدي يمكنها عبر مراكمته من إجبارها على تغيير أدائها وسياساتها، وإلزامها بتقديم التنازلات من أجل المصلحة الوطنية، وفق مسار متنامٍ يوقف الانهيار وينقذ الوطن ويفتح أفق التغيير والتقدم. ولأن الانقاذ والتغيير هما قضية مجتمع وشعب، فإن ما عدا ذلك يقع في باب تأكيد صعوبات الانقاذ وإطالة أمد معاناة اللبنانيين وسط جحيم الكوارث والمخاطر الزاحفة.

Leave a Comment