ينتاب اللبنانيون الكثير من القلق والخوف، جراء ارتفاع أعداد الاصابات المسجلة يومياً بوباء الكورونا، واغلاق العديد من المناطق والتهديد بالعودة إلى الاقفال التام للبلد. فيما هم يواجهون تحديات تأمين الحد الأدنى من مقومات العيش لعائلاتهم في ظل انهيار العملة الوطنية وتعدد أسعار الصرف المعتمدة وارتفاع ثمن السلع والحاجيات الأساسية، بشكل يفوق قدراتهم الشرائية، وسط تصاعد المعدلات القياسية لأعداد الفقراء والعاطلين عن العمل جراء إغلاق مئات المؤسسات وتوقفها عن العمل، والخشية من إقفال المزيد منها في قطاعات مثل الصناعة والزراعة والسياحة والتعليم.
يجري ذلك وهم يتابعون مفاوضات الوفد اللبناني، مع مندوبي صندوق النقد الدولي وممثلي مؤتمر سيدر، الذين يكررون تلاوة شروط المساعدة وتقديم القروض. وهي الشروط التي تضع لبنان تحت الوصاية الدولية، نظراً لانعدام ثقة المجتمع الدولي بالمسؤولين اللبنانيين. خاصة أن خطة “التعافي” هي موضع خلاف داخل الحكومة وبين أهل الحكم، فهي لا تحظى بتأييد أكثرية قوى السلطة لها، عدا أنها مرفوضة من الجهات والفئات المتضررة من الإنهيار، لأنها تستهدف تحميل أكلاف الإنهيار لغالبية اللبنانيين. أما تضارب الأرقام وتباين آراء الوفد المفاوض والتلكوء عن تنفيذ التعهدات الإصلاحية ومكافحة الفساد ووضع حد للتهريب، فقد باتت موضع مساءلة وتحقيق.
وفي المقابل يتابع اللبنانيون أيضاً، أداء حزب الله وقادته، ومحاولة فرض التطبيع مع النظام السوري”المنتصر” أمراً واقعاً، فيما هو محاصر بالوصايات والتدخلات والعقوبات والإنهيار. أما مطالبة الحكومة اللبنانية وقف محاولات إغلاق معابر التهريب وتفعيل الاتفاقات المعقودة مع سوريا، في إطار التكامل الاقتصادي مع دول محور الممانعة من بوابة النظام السوري والانخراط في مواجهة اميركا وحلفائها والتصدي لسياساتها، باعتبارها، المخرج من الإنهيار الاقتصادي والمالي، والبديل من الرهان على المفاوضات مع المؤسسات والجهات الدولية التي لن تجدي نفعاً، عدا كونها مصدر خطرعلى الحزب والبلد.
ووسط السجال المتفجر وتقاذف التهم والمسؤوليات، يستغل رئيس الحكومة أي مناسبة ليبيع اللبنانيين إنجازات وهمية، بينما حكومته تتخبط عاجزة أمام ملفات التعيينات والكهرباء وفضائح الفيول والتهريب والتشكيلات القضائية المحجوزة. وهي “الانجازات الورقية” كما وصفها رئيس المجلس النيابي، الذي يدّعي مع زملائه من أهل السلطة، الحرص والخوف على ودائع اللبنانيين المهددة بالضياع، وهم في الحقيقة يخشون المس بما راكموه من ثروات منهوبة من واردات الدولة باتت ديوناً متراكمة على البلد.
بالعودة للمفاوضات وما يتسرب من كواليسها، فالمؤكد عسر مسارها، نظراً لاستمرار الصراع على موقع لبنان الإقليمي، وتجارب الجهات الدولية مع وعود المسؤولين اللبنانيين، وتهربهم الدائم من تنفيذ تعهداتهم والتزاماتهم السابقة. فالناطقون باسم تلك الجهات، ورغم تكرار المطالبة بتنفيذ الشروط الاصلاحية لا يبدون في عجلة من أمرهم. لأن المسألة لا تقتصر على الاصلاحات، وإعادة هيكلة الإدارة العامة لضمان فعالية المساعدة، بل تتعداها إلى ضمانات تسديد الديون وسندات اليوروبوند، ومعها القروض الجديدة الممكنة أو المحتملة، ما يعني عدم الموافقة مسبقاً على طلبات الحكومة. خاصة أن المسؤولين اللبنانيين لم يلتزموا سياسة النأي ببلدهم عن أزمات دول الجوار، واستسلهوا بقائه ساحة مسترهنة لها، والتسبب بحصار سياسي واقتصادي وعقوبات مالية مرشحة للتصعيد، لأن المفاوضات تجري على إيقاع بدء الإدارة الأميركية تنفيذ قانون”قيصر لحماية المدنيين السوريين”. ولذلك تعمد الجهات الدولية إلى المطالبة بتنفيذ القرارات المتعلقة بعزل لبنان عن أزمات محيطه الإقليمي، واستعادة ما يتعلق منها بالقرارات الدولية القاضية بنزع سلاح حزب الله ودعوة الجيش اللبناني للقيام بالمهمة. مما يعني اخضاع البلد للوصاية السياسية والاقتصادية والمالية، أو الدفع به إلى مهاوي الحرب الأهلية بكل ما تنطوي عليها من مخاطر مدمرة.
اما البديل المتمثل بـ “التكامل” الاقتصادي والإنضواء السياسي ضمن محور الممانعة، فإنه لا يقل خطورة عن الرهان على صندوق النقد الدولي الخاضع للهيمنة الأميركية والمنفذ لسياساتها. لأن ما يرتبه من تحديات وأعباء لا قبل للبنانيين بهما خاصة، في ظل الإستباحة الكاملة للكيان السوري، الذي أصبح كيانات ومناطق نفوذ تتحكم بها وتتنازع السيطرة عليها الجهات الدولية والاقليمبة برعاية اميركية، بحيث لم يعد من مبرر للإبقاء على النظام سوى تغطية ما يجري، وما تبقى من اقتصاد سوري تديره مافيات وميليشيات متصارعة على تقاسم النهب والتهريب واستغلال مؤسسات الدولة المتهالكة. وعلى ذلك يتحول شعار التكامل غطاءً لمنظومة التهريب عبر معابر الأمر الواقع شرعية وغير شرعية. أما الأهم فهو توظيف بقايا اقتصاد لبنان ومقدراته المالية والإدارية، لتعزيز موقع الحزب ودوره في لبنان وسوريا، وخدمة النظام السوري، بينما الجميع محاصر بالأزمات والعقوبات المفتوحة على التوسع مع بدء تنفيذ قانون “قيصر”. كما هو الحال بالنسبة للنظام الإيراني الساعي لتكريس نفوذه في المنطقة، فيما هو يبحث عن مخارج للعلاقة مع المجتمع الدولي والإدارة الأميركية في معمعة إدعاء خوض المواجهة معها، والتصدي لسياساتها في الإقليم والعالم، متجاهلاً العربدة الإسرائيلية المستمرة على أرض فلسطين بدعم أميركي وتسليم عربي، وفي الميدان السوري بتواطوء روسي، وصمت النظام الذي “لم ينفذ صبره” على العدوان، وعجز من تستهدفهم الغارات، بينما قادة العدو الصهيوني يرفعون سقف تهديداتهم للبنان بذريعة الصواريخ الذكية.
وعليه يتقلب اللبنانيون على صفيح الأزمات المتفجرة، وهم يتوقعون المزيد منها جراء إمعان قوى السلطة في سياساتها ورهاناتها المدمرة وإبقاء مصير الكيان الوطني والمجتمع الأهلي معلقان على مذبح الإنقسام الطائفي والمذهبي والولاء للخارج. وما يزيد الوضع خطورة، الحضور المتجدد للمرجعيات الدينية الطائفية والمذهبية ودخولها طرفاً في تسعير السجال والصراع والإنقسام حول مختلف شؤون البلد، بدءاً من التحكم بحياة اللبنانيين بصفتهم رعايا، مروراً بالتعيينات وحقوق الطوائف، انتهاء بصيغة الكيان والنظام والحكم واستحضار مشاريع الفدرالية ومعادلات المناصفة والمثالثة. يأتي ذلك في امتداد إصرار وسعي قوى السلطة كافة، لتكريس سيطرتها ونفوذها على حساب وحدة الكيان والمجتمع وتشريع معادلات الإنقسام والتقاسم، ضمن محاولاتها الدائمة لقطع الطريق على طموحات اللبنانيين وانتفاضتهم المجيدة التي جددت الأمل بإمكانية توليد قواسم مشتركة تؤسس لبناء وطنية لبنانية جامعة ووطن مستقل ودولة وطنية على أسس ديمقرطية تخرج البلد من أزماته وتفتح الأفق أمام مسارات التطور والتقدم والحداثة.
[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]