سياسة

الحكم الميليشياوي وسلطات الامر الواقع

كما جرّبوا حكومات الوحدة الوطنية والديمقراطية التوافقية، وتعطيل الاستحقاقات الدستورية وشلّ مؤسسات الدولة واجهزتها، وتصنيف الوزارات بين سيادية وخدماتية وهامشية، وتطويبها ملكيات طائفية وحزبية ومزارع خاصة. وتعرفوا أخيراً على حكم الأقوياء في طوائفهم بقوة التسوية الرئاسية القسرية

مع خطر انتشار الوباء، وتزايد الممارسات الميليشياوية لأحزاب السلطة، من البترون والمتن الشمالي وكفررمان وغيرها، وتنافس الأجهزة الأمنية الرسمية على تصعيد الأداء القمعي ضد التحركات الاحتجاجية والمطلبية وتوقيف واستدعاء الناشطين، والاعتداء على الحقوق الديمقراطية والحريات العامة للمواطنين خلافاً للقانون. تتعدد الاسئلة حول من يحكم البلد فعلاً وكيف يُحكم؟ ومن هو المسؤول؟

هل لدى اللبنانيين دولة حقاً ولماذا مؤسساتها مهملة ومهمشة وغير فاعلة أو مسؤولة، ومن هي سلطات الأمر الواقع التي تدير البلد وشؤون أهله، وتتقاسم الحكم والمسؤولية عنهم وتقرر مصيرهم خلافاً لإرادتهم.

على امتداد عقود ثلاث، أختبر اللبنانيون دستور الطائف، وجميع صيغ الحكم التي تناسلت منه بإدارة سلطة الوصاية السورية، من الدويكا والترويكا ووحدة المسارين والمنظومة الأمنية والقمع العاري اعتقالاً وتصفيات جسدية واغتيالاً للمسؤولين، إلى قوانين الانتخابات التي تتغيّر وفق مصالحها وحاجتها السياسية. كما جرّبوا حكومات الوحدة الوطنية والديمقراطية التوافقية، وتعطيل الاستحقاقات الدستورية وشلّ مؤسسات الدولة واجهزتها، وتصنيف الوزارات بين سيادية وخدماتية وهامشية، وتطويبها ملكيات طائفية وحزبية ومزارع خاصة. وتعرفوا أخيراً على حكم الأقوياء في طوائفهم بقوة التسوية الرئاسية القسرية. كذلك عرفوا كل أشكال الفساد والنهب لموارد الدولة والتهريب والاستهانة بحقوقهم، وعاشوا معارك الإستئثار والعزل والإبعاد والإلغاء، التي شكل الإنهيار الاقتصادي والمالي أهم نتائجها. 

يعرف اللبنانيون أن المشترك بين قوى السلطة داخل الحكومة وخارجها، هو الطبيعة الميليشياوية والطبقية والفئوية، والاستعداد الدائم لخوض معارك المحاصصة، باسم حقوق الطوائف التي تحدد الإنتماء الحزبي والفئوي ومبرر الوجود، كما تعيد انتاج التفكك والشرذمة للمجتمع. وهي الحقوق التي تحتاج دوماً إلى تكريس قداستها من قبل المرجعيات الدينية، بغض النظر عن صيغ ضماناتها فدرالية كانت أو ثنائية وثلاثية، هيمنة أو إلحاقاً بقوة الأمر الواقع، والطروحات التي تعكس أزمات الكيان. ويندرج في السياق الوعود الإصلاحية وإدعاء مكافحة  الفساد، وتبادل تهم المسؤولية عن الإنهيار، وصولاً إلى تقاذف تهم الخيانة والعمالة للخارج. ما يبقي ممارساتهم اليومية موضع تداول وتأييد واعتراض واحتجاج وتهكم بين اللبنانيين، المقيمين وسط الإنقسامات.

 ولأن الدولة أضعف من الدويلات الحزبية، فإن مؤسساتها وأجهزتها  الإدارية وقطاعاتها الخدماتية والعامة، مهملة ومستباحة كما هو حال التعليم والصحة والضمان والكهرباء والمياه و.. والمستفيدون هم تجار العلم والصحة وشركات التأمين ومافيات المولدات وتوزيع المياه… بينما قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة مهمشة ومهددة بالتوقف نهائياً جرّاء الحصار السياسي والاقتصادي، وإغراق السوق بالمنتوجات المهربة عبر المرافىء الشرعية والمعابر غير الشرعية المحمية بقوة الأمر الواقع والعصابات التابعة.

   والجميع يعرف أن العهد الحالي ليس حكماً بل طرفاً وشريكاً في الصراعات ومعارك المحاصصة. وأن رئيس الحكومة يخوض معارك كيدية بالتكليف، ويدعي إنجازات لا وجود لها، لتغطية عجز حكومته وتخبطها في مفاوضاته طلباً للمساعدة. بينما إنجازات المجلس النيابي عشرات القوانين المطعون بها دستورياً، أوغير النافذة لأنها تفتقد للمراسيم التطبيقية.

كذلك فإن شريك العهد في الحكم والحكومة، المتحكم بقرار السلم والحرب، يعتمد سياسة الأمر الواقع  لتكريس انتساب البلد إلى  دول محور الممانعة المحاصرة بالعقوبات، من أجل فرض التكامل الاقتصادي معها من بوابة النظام السوري المحاصر بالأزمات والعقوبات، بديلاً عن المفاوضات مع دول الخارج ومؤسساته طلباً للمساعدة. بينما يراهن خصومه  في السلطة، لتعطيل سياساته وتسليم أوراقه على مفاعيل السياسة الأميركية وعقوباتها  متجاهلين مخاطرها. أما رئيس تيار العهد الحالم، المتسلط على الحكومة، والذي يصادر ملف الكهرباء، فهو مستمر في التحريض الطائفي والعنصري وافتعال المعارك تطلّباً للهيمنة ووراثة الرئاسة.

        وبما أن الكارثة التي حلت بودائع اللبنانيين وجنى أعمارهم، يتشارك المسؤولية عنها بالتكافل والتضامن، الجهاز المصرفي وحاكم المصرف المركزي، ومعهما الطبقة السياسية التي ترفض استقلالية القضاء وتحكمه بالتسلط والتدخلات والمصالح الفئوية، من أجل تعطيل وظائفه المحاسبية والرقابية وشل فاعليته في مكافحة الفساد والتصدي لملفات الفضائح المتفجرة. فإن المؤسسة العسكرية تبقى عرضة للتشكيك بجدارتها وقدراتها، من الحزب الذي يدعي التكامل معها وفق معادلة “جيش وشعب ومقاومة”، لتبرير سلاحه وممارساته وسياساته داخل الوطن وخارجه بعيداً عن المصلحة الوطنية.

     إزاء هذا الواقع، وأمام مسلسل القضايا والأزمات المتناسلة والمتواصلة، يصعب على اللبنانيين تحديد الأولويات المتعلق منها بشؤون حياتهم اليومية، أو التي تشكل مصدر قلق وخوف على مصيرهم . لأنهم  يعرفون أن مصدر أزماتهم ومآسيهم هو نظام الحرب الأهلية والفساد السياسي، بإدارة قوى الطوائف والمذاهب الميليشياوية التي تتقاسم الحكم وتقيم سلطات الأمر الواقع، بقوة الإرتهان للخارج والاستخاف بالوطن ومصالحه والاستهانة بالمواطنين وحقوقهم. ما يشكل تحدياً لهم  ولدُعاة التغيير بينهم، ويجدد السؤال الأهم المتعلق بقدرتهم على صياغة برنامج أولويات وطنية، واقعي ومتدرج وسلمي يساهم في تأطير الفئات المتضررة، واشراكها في حركات الاحتجاج والمطالبة، وتشكيل قوة الضغط القادرة على فرض الإصلاح السياسي وكسر الحلقة المقفلة، مدخلاً للإصلاح الاقتصادي عبر مسار متعدد بعيداً عن التبسيط القاتل.

[author title=”المحرر السياسي” image=”http://”]المحرر السياسي[/author]