لم تسقط حادثة قبر شمون في قضاء عالية من سماء صافية، فقد كان لها مقدماتها، ويمكن أن يكون لها مثيلاتها في قابل الأيام في أكثر من منطقة في البقاع او الشمال وغيرهما. وقد سبقها أيضا قبل أشهر حادثة الجاهلية وغيرها من حوادث أريقت فيها دماء أو انتصبت فيها حواجز وانتشرت عراضات مسلحة. وإذا كان من مضاعفاتها تعطيل الحكومة، فذلك ليس المرة الأولى ولن تكون الأخيرة.
ولا يُقرأ ما جرى إلا في إطار النزوع الدائم لدى قوى الطبقة السياسية الحاكمة بموجب نظام المحاصصة الطائفي، إلى العنف مدفوعة بقوة الأهداف والمصالح التي تعبر عنها. أما استخدام العنف فهو لتأكيد استعداد القوى لتصعيد الصراع في ما بينها إلى حدوده القصوى، بما فيه استحضار كل موروثات الحروب الأهلية خطاباً وآليات وأدوات، في سبيل إعادة تركيب التوازانات وعقد التحالفات وترتيب مواقع النفوذ. وعليه فإن الأحدات لا تأتى عفو الخاطر، بقدر ما هي نتاج مسارات ومتغيرات تتراكم تباعاً وتحتدم، فتنفجر وتأخذ أشكالاً عنفية تبدو معها البلاد وكأنها تستعيد أياماً خوالي من الحروب الملازمة للكيان والنظام.
في هذا السياق أتت تحركات رئيس التيار الوطني الحر، رئيس تكتل لبنان القوى وزير الخارجية جبران باسيل، وبرنامج زياراته لمناطق الداخل وبلدان الخارج بحجة تحشيد اللبنانيين، خاصة المسيحيين منهم مقيمين ومهاجرين عبر لقاءات ومؤتمرات تعقد هنا وهناك. والمشكلة لا تكمن في حق الوزير بزيارة المناطق وتنظيم المؤتمرات، ولا في سعيه لرئاسة الجمهورية. وليس في الاختلاف مع شركائه في السلطة، حول النفوذ والصلاحيات والحصص في التعيينات والصفقات، فهؤلاء جميعا شركاء وفق آليات النظام الطائفي القائم على المحاصصة، حيث الأزمات بالنسبة لمن هم في الحكم هي ميادين صراع لتقاسم الارباح وتنظيم الشراكات في آن.
وباعتراف الجميع فإن التحركات المشار إليها، ومنها زيارة منطقة عالية، قد أثارت الكثير من السجالات، حول المواقف التي أطلقت خلالها بشأن الكثير من الملفات والقضايا، بالنظر لما تضمنته من مواقف فئوية وطائفية وعنصرية حيال الآخرين، وما استحضرته من يوميات الحروب الاهلية، مما شكل بمجمله استفزازاً لمنافسيه وخصومه والمتضررين من تطلعاته وطموحاته، كما للمعترضين على مواقفه وممارساته داخل الحكومة وخارجها، والتي تظهره وكانه رئيس مكلف بالإنابة ينفذ توجيهات العهد الذي يستمد منه الدعم والرعاية، خاصة في محاولاته استخدام حلفائه في المناطق والطوائف للانقلاب على المعادلات القائمة فيها.
وإذا كانت حادثة قبر شمون وشبيهاتها لا تشكل خروجاً على طبيعة النظام الطائفي، ولا محاولات توظيفها سياسياً، رغم ما يرافقها من رغبات وأوهام تستهدف الخصوم او تصفية الحساب معهم لغايات محلية أو خارجية، فإنها لا تساهم وبغض النظر عن الخسائر، إلا في تجذير الانقسامات في بنى الطوائف وإعادة انتاج قواها وترتيب مواقعها وتنظيم تحالفاتها الضامنة لوجودها ومصالحها على السواء. وهذا ما يشكل خطوة في مسار تجديد النظام وصياغة العلاقات بين اطرافه سواء تحت راية الصلاحيات أو تحديد الحصص.
أما المناشدات الاخلاقية فإنها لا تبدل حرفاً في النتائج ولا تشكل رادعاً لقوى الطوائف وقياداتها التي لا تحتكم للمصلحة الوطنية، فالنظام لم يتأسس لهذه الغاية. لذلك فإن صواب التحليل والقراءة لواقع الحال القائم بالنسبة للكيان والنظام والاقتصاد والاجتماع، يشكل المقدمة التي لا بد منها نحو تحديد برنامج النضال الواقعي ووسائل وأشكال معارضة النظام وقواه بالاستقلال عنها والاعتراض على سياساتها والسعي إلى تغييرها لتأمين حقوق ومصالح المتضررين وأكثرية اللبنانيين، وإعادة التأسيس المتدرج لقوى مواجهتها للحد من نتائجها السلبية ومخاطر نفاذها. والاستسهال في هذا المجال هو أقصر الطرق لتكريس الإحباط واليأس السائدين لدى الغالبية الساحقة من اللبنانيين، والذي يترجم من قبلهم سلوكاً وممارسات تتعارض مع حقوقهم وتطلعات ابنائهم، سواء في الارتهان لاحزاب الطوائف وزعاماتها والقبول بتحمل أكلاف منازعاتها، أو الاستنكاف وإدارة الظهر لما هم فيه من أوضاع مأساوية والتسليم على أنها قدر محتوم. بعدما اختبروا التغيير بواسطة الحرب الأهلية، والدعوات لاسقاط النظام وإعلانات موته واستسهال بناء البديل واستلام السلطة. أما توصيف النظام بالعاجز والفاشل، فعدا مخالفته للواقع ولا واقعية التبشير بنهايته وإمكانية دفنه، فإنه يجدد الحاجة لطرح الاسئلة والتساؤلات حول تشخيص أزمة النظام وفعالية آليات تجديده وإعادة تكوين مؤسساته وقواه، وهي الاسئلة التي من دون الاجابة عليها، يستحيل انتاج وجهة معارضته سياسة وبرامج وشعارات وآليات عمل لبناء قوى التغيير الديمقراطي التي تجعل منها أمراً واقعاً. ولنا في الفئات التي حركتها حقوقها المباشرة مثلاً، فيما الشعارات العامة والفضفاضة بالكاد تستطيع تحريك من يكررون اطلاق الدعوات.
[author title=”كتب المحرر السياسي” image=”http://”]كتب المحرر السياسي[/author]