سياسة مجتمع منشورات

الموازنة على المحك بعد تجاوز قطوع قطع الحساب!

والملفت أن الذين كانوا يبشرون المواطنين أنهم سيزلزلون قاعة المجلس بمواقفهم بلعوا ألسنتهم، أو تحدثوا وكأنهم أبرياء من دم الدين العام وارتفاع المديونية العامة والعجز في ميزان المدفوعات والميزان التجاري،

مرّ قطوع الموازنة العامة في مجلس النواب على الحكومة بخير، وعليه، باتت موازنة العام 2019 سارية المفعول، بعد أن حصلت على موافقة حوالي ثلثي عدد أعضاء المجلس النيابي. وخلال جلسات النقاش والتصويت على الموازنة، تبارى أكثر من 60 نائباً على تقديم “معلقاتهم” على مرأى ومسمع من الجمهور عبر أجهزة الاعلام المرئي، وخلاله حظي اللبنانيون بفرصة نادرة لمتابعة نوع مختلف من المسلسلات التلفزيونية خارج موسم شهر رمضان. لكن يمكن وصف معظم الحلقات بأنه بائس ويائس، باستثناء لمعة هنا وأخرى هناك، وهي نادرة على أي حال. والملفت على العموم أن معظم النواب الذين تحدثوا تحت قبة البرلمان، بمن فيهم الذين تتمتع كتلهم بثقل وازن في تركيبة الحكومة، بدوا وكأنهم يغسلون ايديهم من آثامها. والملاحظة التي ترددت بين النواب أنهم كانوا مرغمين على الاختيار بين السئ والأسوأ، السئ هو إقرار الموازنة، والأسوأ هو عدم إقرارها، فاختاروا الأول على الثاني. إذ لو كانت أوضاع البلاد طبيعية، دون هذا الكم من المخاطر، لكانوا رفعوا راية معارضتها، أما وأن عدم إقرارها من شأنه أن يفتح أبواباً مغلقة على الاقتصاد والنقد والسمعة الخارجية المتردية للبنان لدى الدول والمؤسسات المالية، فهو ما دفعهم أن يعتمدوا أهون الشرور، فلعل وعسى. ثم أن عمر هذه الموازنة قصير، ولا يتجاوز الخمسة أشهر هي الباقية من عمر الإنفاق على أساسها بدلاً من القاعدة الإثني عشرية، ثم إن موازنة العام 2020 آتية بلا ريب، وخلالها سيقولون ما لم يقله مالك في الخمرة عنها.

والحقيقة أن هذه الموازنة كانت معطوبة، منذ لحظة بدء بحثها في مجلس الوزراء. يكفي القول إن الرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية والتعويضات تشكل 36% منها ، وخدمة الدين العام 35% وعجز الكهرباء 11% والنفقات الاستثمارية 7.2 % ويبقى لكل نفقات التشغيل نحو 9.9 % مع كل ما يرتبط بها من إنفاق غير مجدٍ. ومن باب التذكير نشير إلى المفاصلات والمحاصصات التي احتدمت بين أطراف السلطة. ودون الوقوف عند الجلسات، يمكننا القول إن المحصلة جاءت على غير ما يشتهي اللبنانيون. فالارقام التي وردت في مشروع الموازنة هي أرقام مشكوك بدقتها، وغالبيتها العظمى غير دقيقة، لجهة تقدير واردات الخزينة ونفقات الوزارات والمؤسسات العامة. ولعل غياب قطع الحساب هو أحد أبرز المطاعن، وهو ما يتوجب إحالته مع المشروع على لجنة المال أولاً، والهيئة العامة ثانياً، ويمكن أن يشكل باباً للطعن بشأنه في المجلس الدستوري. ولذلك حاول الرئيس نبيه بري تأمين عقد جلسة للحكومة لتحويلها للمجلس، ولمّا تعذر ذلك، كان تدبير المخرج – الصيغة التي وافق عليها الجميع، بإعطاء الحكومة مهلة 6 أشهر لإنهاء قطع حساب عن عام 2017 والأعوام السابقة، ما يشكل خرقاً دستورياً فاضحاً لا يمكن الدفاع عنه بغير ضرورات الموقف السياسي. رغم الفتوى هذه، فقد تحوّل المشروع قانوناً بكامل المواصفات التشريعية والقانونية والدستورية بعد إحالته الى رئيس الجمهورية لتوقيعه ونشره بعد تلكؤ في الجريدة الرسمية كي يصبح نافذاً.

 

دون مزيد من التفاصيل، وبعيداً عن فصاحة النواب ومناكفاتهم الصغيرة، يمكن القول إن أبرز ما أقرته أو سكتت عنه هو غياب الرؤية الاقتصادية الاجتماعية للمشروع الأصلي والتعديلات، وانخفاض أو غياب النمو، فحاكم مصرف لبنان قدر نسبة النموعام 2019 بصفر، وهناك من يجزم أنه سيكون ناقص صفر. ثم إن المشروع تضمن مخالفات دستورية وقانونية لا تعد ولا تحصى، وهي مخالفات جرى تمويهها عبر التواطوء الذي تحقق بين كل مكونات السلطة، بما في ذلك الذين كانوا يعلنون قرارهم خوض المعركة ضد الفساد حتى الرمق الأخير ويهجون الفاسدين. وبرزت المحاصصة أولاً في مجلس الوزراء، ثم في لجنة المال ثانياً، وفي الجلسة العامة ثالثاً. والملفت أن الذين كانوا يبشرون المواطنين أنهم سيزلزلون قاعة المجلس بمواقفهم بلعوا ألسنتهم، أو تحدثوا وكأنهم أبرياء من دم الدين العام وارتفاع المديونية العامة والعجز في ميزان المدفوعات والميزان التجاري، والركود الاقتصادي والتدهور المعيشي وغيره، علماً أن لهؤلاء باع طويل في الوصول إلى هذه النتائج الكارثية.

وقد مورست في الحلقات الثلاث منوعات من ذر الرماد في العيون، لعل الأبرز فيها هو تقدير حجم العجز في الموازنة الذي قدرته الحكومة بـ 6.58% وذكرت لجنة المال أنه سيكون أقل، ويجمع الخبراء أنه سيكون أكبر، وهو رقم  يغلف سوء تقدير للواردات من جهة، والنفقات العامة من جهة ثانية. وإزاء هذا النوع من السوداوية، اندفع بعض المبشرين للتكريز، أنه لم يحن بعد أوان الاصلاح الذي سيأتي في موازنة العام 2020، التي سيتم تحويلها في  الخريف المقبل. بالطبع هناك الكثير من البرامج الاصلاحية التي غابت عن الموازنة، ومنها على سبيل المثال ضبط التهريب على الحدود البرية والبحرية والجوية، ومداخيل الجمارك، والاملاك البحرية، وكيفية مواجهة عجز القطاع الكهربائي، وفرض ضرائب ملموسة على الارباح المالية للشركات والمصارف. والأهم من ذلك كله، إعادة النظر في دور وأداء القطاع العام بكامل مؤسساته وأجهزته، بما يقود إلى الحد من تضخم الجهاز الإداري غير المنتج، والموظف من جانب أطراف التركيبة السياسية في الأجهزة المدنية والعسكرية، بشهادة لجنة المال والموازنة، والذين جرى توظيفهم قبل الانتخابات النيابية الأخيرة لضمان ولائهم من جهة، بينما تعاني العديد من الأدارات العامة من نقص فادح في ملاكاتها لملء الشواغر، بدليل عدد القضاة في ديوان المحاسبة، وغيرها من أجهزة، ما يتسبب بقصور فادح في أدائها من جهة ثانية. ولعل الهدف من وراء هذه المفارقة، تعزيز الأصوات التي تنادي بخصخصة المزيد من القطاعات المنتجة للدولة وتسليمها ليس للقطاع الخاص بالمطلق، بل للشركات المرتبطة بكبار المسؤولين من نافذين لتقاسم الصفقات معهم. 

الموازنة على محك التنفيذ. اللبنانيون أمام محنة الركود الاقتصادي، والشلل المقيم في النمو، والتدهور في الأوضاع المعيشية. 

[author title=”كتب المحرر الاقتصادي” image=”http://”]كتب المحرر الاقتصادي[/author]