باتت مسألة التهريب من المعابر غير الشرعية وحتى من بعض من المراكز الحدودية الشرعية وبالاتجاهين على كل شفة ولسان، وذلك بالنظر للثمن الفادح الذي يدفعه اللبنانيون من خبزهم ووقودهم ومن جملة اقتصادهم وقطاعاتهم الانتاجية. والموضوع دخل في صلب المفاوضات التي تجريها الدولة مع صندوق النقد الدولي وغيره، إذ لا يعقل ألا تضبط دولة حدودها وتستنزف موجوداتها وتخسر عائداتها منها، بينما تطالب الجهات الدولية إمدادها بالقروض والمساعدات للبقاء على دعم المواد الأساسية للعيش، مع تبشير البعض بارتفاع ثمن ربطة الخبز إلى 3500 ليرة وصفيحة البنزيين لـ 50000 ألفاً، ما يعادل نصف الطحين والمازون يذهب نحو سوريا عبر شبكات المافيات المدارة سياسياً وحزبياً. وهي الشبكات التي تدير تجارة جلب بضائع وسلع سورية دون جمرك وبأسعار تقود إلى تدمير المنتجات الصناعية والزارعات اللبنانية.
وتجري عمليات التهريب بما فيه البشر، من الحدود الشمالية، لكنها تتركز في منطقة البقاع إبتداء من قضاء الهرمل مروراً بالقاع وعرسال ومجدل عنجر والصويري ودير العشائر وصولاً إلى شبعا جنوبا.تاريخياً تغذى التهريب من الإهمال التاريخي في الإنماء، ما جعل من التهريب عند أبناء المنطقة مهنة للعيش تدخل في صلب حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، بالعلاقة مع البنى العائلية والعشائرية، حيث يحظى المهربون من العائلات الكبيرة والعشائر بالرعاية اللازمة.
ويعتمد نجاح هذه المهنة على عدم ترسيم الحدود وضبطها، وبالتالي هناك تداخل بين الحدود والسكان، فهناك عشرات الوف اللبنانيين يعيشون داخل الاراضي السورية وبالعكس أيضاً من السوريين.
وللتهريب قصة قديمة، ففي الستينات إقتصر التهريب على الدخان الاجنبي، كما نشطت عمليات تهريب المواشي لحاجة السوق اللبناني. وكذلك تهريب المخدرات والأسلحة الى سوريا ثم الاردن والخليج فالسعودية.
وفي عهد الوصاية السورية على لبنان بين عامي 1976 و2005 تضاعفت عمليات التهريب بين البلدين ذهاباً وأياباً، فرغم حرص النظام السوري على منع إستيراد المواد التي تشكل مضاربة على إنتاجه، إلاّ أن كبار الضباط والأمنيين إداروا عبور قوافل السيارات والشاحنات إلى الاراضي السورية محملة بالمواد الغذائية والبناء والتنظيف والكهربائية والسجاد والاخشاب والحديد والأجهزة الكهربائية وغيره.. عبر وادي خالد وعرسال والهرمل ودير العشائر، وعادت هذه بما يحتاجه لبنان ومتوفر بأسعار رخيصة في سوريا. وكان يحصل ذلك بالتعاون أو بارغام الجمارك اللبنانية غلى الرضوخ للمافيات السورية، وكان على كل وسيلة نقل ان تدفع المعلوم لكل من يسهّل الأمر من الطرفين.
ما بين العام 2005 تاريخ الانسحاب السوري من لبنان والعام 2011، ومع بدء إنتفاضة الشعب السوري نشطت عملية تهريب مادة المازوت من سوريا الى لبنان عبر الصهاريج، ومدَ بعض المهربين أنابيب عابرة للحدود. وبعد العام 2011 وحتى يومنا الحاضر ومع حرب اهلية دامية ومدمرة للبنى الاقتصادية والعمرانية والبشرية، باتت سوريا بحاجة للكثير من المستلزمات وفي طليعتها مادة المازوت وكذلك القمح والطحين و… ونتيجة لإقفال الحدود مع عرسال، إنحصرت عمليات التهريب بشمال البقاع التي يسيطر على جرودها حزب الله بشكل رئيسي، ومن يدور في فلك سياساته من سرايا المقاومة والحزب السوري القومي الاجتماعي وحركة أمل وحزب البعث السوري، ومن العائلات والعشائر المحمية منه. وقد إطلق الحزب يد هذه المجموعات منذ الانتخابات النيابية الاخيرة وإلى الآن كسباً لولائها.
في السنوات الخمس الأخيرة تسارع الإنهيار الاقتصادي في لبنان، وتفجرت إنتفاضة 17 تشرين الاول غضباً في وجه سلطة أحزابه الطائفية، وقطاعه المصرفي اللذين تعاونا على نهبه وإفلاسه، وجاءت انهيارات أسعار صرف الليرة وأزمة الكورونا لتزيد الطين بلة.
وفي ظل هذه الظروف تجري أكبر عملية تهريب لمواد رئيسية في حياة اللبنانيين من المازوت والطحين والقمح وغيرها، وهي مواد مدعومة من موازنة الدولة بالعملة الصعبة بقيمة تصل إلى 400 مليون دولار سنوياً. وتحسب خسائر الدولة فقط من كارتيل المازوت والطحين بحوالي الـ 700 مليون دولار سنوياً. وبلغت نسبة تهريب مادة الطحين 50% من حاجة السوق اللبناني، ومعها تراجعت نسبة مساهمة الصناعات الغذائية وصناعة مواد البناء بنسبة 40%، وارتفع سعر صفيحة المازوت ثلاثة آلاف ليرة لبنانية، وفقدت من السوق، أما خسائر التهريب الضريبي والجمركي على المنتوجات السورية وغيرها، فتقدر بحوالي 4.5 مليار دولار سنوياً، بينما خسائر القطاع الزراعي في اللحوم والدواجن والفواكه والحليب فتقدر بالمليارات وتصل إلى حوالي 50% وأكثر.
وإذا كان التهريب من عمر وجود الدولتين فمستواه بات يشكل ضرراً صافياً على الزراعة والصناعة اللبنانيتين، ويساهم في نزيف العملة الصعبة، ما ينعكس خسائر تحل باللبنانيين عموماً والاقتصاد الوطني ومالية الدولة.
لم يعد خافياً على أحد من اللبنانيين أن مسألة التهريب باتت قضية يصعب على الدولة حلها وحتى التخفيف من حدتها ونتائجها السلبية لأنها صارت جزءً من استراتيجيات محور المقاومة في دعم صمود دوله وأحزابه بوجه ضغوط “الأمبريالية” الأميركية بهدف إضعافه في حرب النفوذ المفتوحة بينهما. ولم يكن خارج السياق أن يبلغنا صراحة رأس حزبه في لبنان أن الحدود لن تقفل، وستبقى ممراً لسلاح محوره، ومعبراً لتأمين الحاجات الضرورية للنظام المتهالك في سوريا، وأن طريق “الحرير” بين لبنان وسوريا والعراق وإيران هو البديل عن الاقتصاد المرتبط بالاميركي والغرب، وعليكم أن تختاروا بين هذا وذاك، أي بإختصار شديد بين المشروع الايراني في المنطقة، وبين الهيمنة الاميركية. أما حكومة المستشارين فخيارها الوحيد لمكافحة التهريب إستعادة العلاقات مع النظام في سوريا. اللبنانيون عليهم أن يسمعوا ويعوا أننا عند المقارنة بين خياري الجوع ومصلحة محور المقاومة، فنحن مع الخيار الثاني، وبئس ما تحاوله الحكومة “حكومتنا” عبر صندوق النقد ومجموعة سيدر.
إن نظام التهريب والفساد والهدر والنهب والإنقسام الطائفي يستدعي من انتفاضة تشرين استعادة زخمها وتنظيم صفوفها في برنامج إصلاحي ديمقراطي سلمي يزيح كابوس سلطة المحاصصة عن صدور الناس، ويفرض بسط الدولة لسيادتها بواسطة قواها الرسمية على الحدود الشرقية والشمالية، والقضاء على كل منوعات التهريب والمعابر غير الشرعية والهيمنة على الشرعية منها، ووقف استنزاف البقية الباقية من مقدرات اللبنانيين من العملة الصعبة الشحيحة.
[author title=”حاتم الخشن” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]