مجتمع

المهاجرون والكورونا واستعصاء الاصلاح الديني

ألم يكن تشرّب الجمهور الواسع للإسلاموية المتشددة المعاصرة واضحاً في مسارات “الربيع العربي”؟ حتى اللحظة، ألم يكفِ أن ينطق الرئيس رجب طيب أردوغان بكلمة، ليتدفق عشرات الآلاف إلى الحدود، في تجاوب لا يأبه بأن أردوغان استخدمهم أداة للتفاوض مع الغرب وروسيا؟ ألا تذكّر تلك الملايين التي هجرت سورية في سياق صراع نجحت الإسلاموية المتشددة في الإمساك بقيادته،

في سياق وباء كورونا، برز تفصيل صغير في شأن أداء الشعائر الدينية. وكإجراء وقائي، توقفت السعودية عن استقبال الساعين الى أداء العمرة ومناسكها. وبرز في لبنان تأييد من المرجعية الفقهية السنية للخطوة السعودية، لكن المفارقة أن تلك المرجعية نفسها لم تتخذ ولو خطوة بشأن أداء صلاة الجمعة في مساجد لبنان، كالتفكير في السماح بأدائها في المنازل مع متابعة خُطبها في الراديو أو التلفزيون أو الإنترنت، ولا حتى الطلب ممن يريد أداءها في المسجد أن يستعمل كمامة أو غيرها. وعلى شاشات المرئي- المسموع، برّر مرجع ديني ذلك الإصرار، عندما سُئل عنه، مستشهداً بالآية المعروفة “إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة…”. لكن السؤال لم يكن عن ضرورة صلاة الجمعة ولا أهميتها ولا موقعها من الشعائر الدينية، بل ببساطة عن إمكانية أن يتحرك الفقه مع متغيير ضخم في الحياة اليومية = (موجة كورونا)، ويتفاعل معه.

وبغض النظر عن الموقف الفقهي بحد ذاته (وذلك ليس مهمة كاتب المقال)، ثمة تصلّب فكري واضح في الإجابة عن ضرورة طارئة بالتمسك بما هو مطلق في الفروض. توضيحاً، لم يقل ذلك المرجع شيئاً من نوع أن انتشار كورونا في لبنان لم يصل حد التفكير في تغيير ما في طريقة أداء الشعائر، بل اكتفى بالتمسك في وجوبها وسندها الديني، رغم أن ذلك ليس موضع النقاش! أليس في الفقه مثلاً إمكانية استبدال الوضوء بالتيمم أو وقف إخراج الزكاة أو غيرها؟

وفي ذلك السياق، أوقِفَ أداء صلاة الجمعة في المساجد في طهران. ربما استند القرار إلى معطيات في السياسة أو غيرها، وربما يرجع حتى إلى موقف فقهي قديم يرتبط بمراحل التقية، أو رفض قبول السلطة الدينية المهيمنة أيام الأمويين أو العباسيين وغيرها. ربما يخطر في البال أيضاً تلك العلاقة الخاصة بين الفقه الديني في إيران وآليات السلطة فيها (وكذلك الثورة عليها) على غرار فتوى الفقهاء بتحريم التدخين في سياق “الثورة الدستورية” (1906) التي استهدفت مقاومة النفوذ الأجنبي وفرض ملكية دستورية على الدولة القاجارية.

سؤال عن فقه المقاصد

ليس الهدف من الكلمات السابقة تقديم “فتوى” بشأن صلاة الجمعة في زمن الكورونا، بل محاولة التفكير نقدياً في طرق التفكير بالديني وعلاقاته مع المتغيّر في التاريخ والاجتماع والسياسة وغيرها. ويملك ذلك الأمر أبعاداً كثيرة، أحدها ما ذهب إليه المفكر الجزائري الراحل محمد أركون من تشابك المعضلة العميقة التي يواجهها تجديد الفقه والاصلاح الديني في الإسلام. إذ يحتاج الإسلام إلى إصلاح فقهي “من الداخل”، يعيد تحريك المياه الراكدة منذ القرن الرابع عشر حول مسائل أساسية فيه صار الحديث عنها من المحرمّات، فإنها استكملت هيمنتها على الفقه المعاصر (بأساليب لا تخلو من الترهيب) بفرض تحريم مضمر أو معلن على مسائل تناولها الفقه الإسلامي في مراحل الإسلام المبكر (فجر الإسلام وضحاه، بتعبير أحمد أمين وأركون). ومن الأمثلة المشهورة على ذلك، فرض ترهيب فكري على كل من يحاول معاودة النقاش في تاريخية القرآن على غرار ما حدث مع المفكر الإسلامي نصر حامد أبو زيد مثلاً. ولا بد من التذكير دوماً بأن تاريخية النص تتعلق أساساً بمقاصد النص، انطلاقاً من كونه خطاباً منزلاً من المطلق الإلهي ، وموجّهاً إلى الإنسان الذي هو غير مطلق، بل يتأثر بالتاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي وغيره. ولا يقصد من تاريخية القرآن أبداً القول بأنه موضوع من قبل بشر، بل على العكس تماماً، يقصد بتلك التاريخية محاولة فهم موقع الإنسان وعقله (غير المطلق والمحدود والمتغير) في علاقته مع النص الإلهي.

ويزيد تعقيد الإصلاح الديني أنه مطلوب فيما الحداثة (التي تقدر على إعطائه أدوات التجديد) تعيش مأزقاً مع التجديد الذي مثّلته في الأديان، عبر صعود الشعبويات المتشربة بتفكير أصوليات دينية وعنصرية. مثل؟ مانفيستو “الاستبدال العظيم” وعلاقته مع مجزرة “كرايست تشيرش” في نيوزيلندة.

الدين وهجرات سورية

من مظاهر اللاتاريخية المتشددة في الفقه، ما ظهر في تجربة “دولة داعش” التي رافق ويلاتها تمسك سطحي متخشب بفقه يرفض كل محاولة للذهاب الى مقاصد النص والتفكير في سياقاته.

وربما يذكر ذلك بشيء آخر قوامه إن الاسلاموية المتشددة المعاصرة تحرص على نشر صورة جامدة وتبسيطية عن الإسلام (بل الأديان كلها) عبر تعميمات وتخريجات باتت معروفة، لكن الجمهور الإسلامي الواسع تشرّبها ويتمسك بها بشدة، بل صارت مرجعاً لفهمه لعلاقته مع الله والمقدس والحرام والحلال وغيرها. مبالغة؟ ماذا عن مدى تمسك الجمهور الواسع بـ”داعش” و”القاعدة”، رغم الأثمان المأساوية لذلك؟ ألم يكن تشرّب الجمهور الواسع للإسلاموية المتشددة المعاصرة واضحاً في مسارات “الربيع العربي”؟ حتى اللحظة، ألم يكفِ أن ينطق الرئيس رجب طيب أردوغان بكلمة، ليتدفق عشرات الآلاف إلى الحدود، في تجاوب لا يأبه بأن أردوغان استخدمهم أداة للتفاوض مع الغرب وروسيا؟ ألا تذكّر تلك الملايين التي هجرت سورية في سياق صراع نجحت الإسلاموية المتشددة في الإمساك بقيادته، بما حدث في تاريخ قديم من هجرة كثيفة لكتل شعبية من سورية، مع الفتح الإسلامي؟ آنذاك، توجهت جموع من المؤمنين بالمسيحية إلى الملاذ الذي حمته القسطنطينية في الجغرافيا التي تكاد تطابق تركيا الحديثة. وعلى سبيل التشبيه نفسه، على الرغم من الفارق التاريخي الذي يُضعِف من دلالته، عادت موجات ممن هجروا سورية عند دخول المسلمين إليها، لتحاول الاستقرار ثانية بالترافق مع هجمات مضادة شنتها الامبراطورية الرومانية لمحاولة استعادة سورية. ألا يستحضر ذلك صورة الشمال السوري الآن، واعتزام أردوغان إعادة مئات آلاف السوريين المهاجرين إليه، وبالضد من الكرد؟ من ينسَ موقع أردوغان في الإسلاموية المعاصرة؟ استطراداً، كيف تسير الأمور في العمق بين أنقرة وطهران؟

[author title=”احمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]