ثقافة

خالد غزال في ذكراه الأولى: لوّن “الأوان” بفكره وأسلوبه / هيئة تحرير “الأوان”-تونس

       حين رحل خالد غزال عن عالمنا، ترك وراءه فراغاً كبيراً في الفكر التنويري العربي، ولكنه ترك أيضاً إرثاً كبيراً ومنهلاً للناهلين. واليوم، ونحن نكرم ذكرى المثقف المرهف والمفكر العنيد نتذكر رجلا لطيفا رهفا، ولكنه في الوقت نفسه مكافح لا يهادن.

ورغم أنه كان قيادياً في منظمة العمل الشيوعي اللبنانية، إلا أنه لم يسمح للعقائدية بالسيطرة على فكره، بل ظلّ في تفكيره حرّاً وديمقراطياً أصيلاً، ومدافعاً عنيداً عن الحريات الفردية وحقوق الإنسان.

وفي عصر ارتدّ فيه الكثير من المثقفين عن مواقفهم العلمانية والتقدّمية، ظلّ خالد غزال مناضلاً صلباً في مواقفه المبدئية في الترويج للعلمانية ونقد الفكر الظلامي والتطرف الديني. وبينما تبارى كثرة من الكتاب والمثقفين الذين كانوا يتصدّرون مواكب التنوير والتحديث في تطويل لحاهم (فعلاَ ومجازاً)، كان خالد غزال وقلّة قليلة من المثقفين العرب يتصدّون لهذا الانحدار، ويدعمون مسائل مثل التنوير والعقلانية والعلمانية والمساواة الجندرية والحرية الجنسية والمجتمع المدني وفصل الدين عن الدولة.

كان يحلو للمفكر السوري البارز جورج طرابيشي أن يردّد أن العلمانية في العالم العربي أصبحت “مكسر عصا” لكل مبتدئ في الفكر، والحقيقة أنه ما من فكرة تعرضت للتشويه والقذف والكراهية والتحريض مثل فكرة العلمانية، وما من فترة كانت العلمانية فيها عرضة لهذا الكم من العداء والهجوم غير المقنع وغير المبرر، كما هي الحال اليوم.

وليس غريبا أن يكون الفكر العلماني التنويري عرضة للهجوم من غلاة الإسلاميين المتطرفين. الغريب أن أشد المعادين للعلمانية في الفترة الأخيرة هم من المرتدين عن الفكر التنويري عموما، والذين يتسابقون للهجرة إلى مواقع الفكر الأصولي الإسلامي، بشقيه المتطرف والإصلاحي.

على عكس هؤلاء جميعا، بقي خالد غزال مخلصا لفكره التنويري الأصيل، وعمل بنشاط على كشف فكر حركات الإسلام السياسي، باعتبارها تقف على طرفي نقيض مع المعطيات الجديدة للمجتمعات التي تقيم فيها، ويغلب عليها معاداتها للاجتهاد وللتحرر من المقولات الموروثة من عصور الانحطاط.

وتوقف غزال عند موقف هذه الحركات من الإرهاب، فكرًا وممارسة، وبيّن كيف تقرأ نصوص العنف والجهاد الواردة في النص الديني بمنطق الماضي الثابت، غير الخاضع لرؤية الآيات في زمن نزولها ومكان استخدامها. هذا الإسقاط الحرفي للقراءة، برأي غزال، يجعلها ترى نفسها المدافع عن الإسلام، والساعي الى تطبيق نصوصه وفق ما أتت به الرسالة. عندما يسود مثل هذا المنطق، ولا يتدخل الفقهاء والمؤسسات الدينية للجهر بتقادم هذه النصوص وعدم صلاحيتها للزمن الراهن، لكونهم يعتبرون القرآن نصاً محكماً صالحاً بمجمله لكل زمان ومكان، عندها ليس مستغرباً وبعيدًا عن الواقع إتهام الإسلام بتشجيع الإرهاب واحتضانه.

ولكن الإسلام السياسي ليس وحده من يقف هذا الموقف، فللأزهر نصيب في ذلك. يرى غزال أنه ليس في تاريخ الأزهر ما يوحي بدور تجديدي في الدّين، بل على العكس، وقف الأزهر ضدّ الاجتهادات ومحاولات الإصلاح الّتي سعى إليها رجال دين متنورون ومن خرّيجي الأزهر بالذّات، ورماهم بالارتداد وكفّرهم.. من قبيل مفتي الديار الإسلاميّة الشيخ محمد عبده والأفغاني والشّيخ علي عبد الرازق وطه حسين، ثمّ لاحقا محمد أحمد خلف الله ونصر حامد أبو زيد وفرج فوده الّذي أُفتى بقتله.. وغيرهم كثيرون ممّن دعوا إلى إصلاحات في الإسلام بما ينزع عنه الجمود والتّحجر والإقامة في العصور الجاهليّة. ولعلّ الأمثلة الحديثة دليل على رفض الأزهر لمحاولات الإصلاح، حيث خرجت دعوات من السّلطة السياسيّة والمؤسّسات المدنيّة إلى تجديد الخطاب الدينيّ وتنقيته من الشَّوائب، فكانت ردّة فعل الأزهر الفوريّة تنمّ عن الارتياب والرَّفض للدّخول في هذا المجال. بدا الأزهر متخلّفًا عن السّلطة السياسيّة بأشواط بعيدة. وأحد الأمثلة الفاقعة ما يتّصل بالطَّلاق الشّفوي، حيث يمكن لأيّ رجل، حاليًا، بمجرّد قول كلمة “طالق” لزوجته ليصبح الطّلاق أمرًا واقعًا. وهو أمر فيه من الاحتقار للمرأة ومكانتها ودورها ما لا حدّ له. دعا رئيس مصر إلى أن يكون الطّلاق في المحكمة ولا يصبح نافذًاً إلَّا بعد قرارها. انتفض الأزهر ورفض التّخلي عن الطّلاق الشَّفويّ، بل اعتبره مقدَّساً ولا اجتهاد فيه. فهل تصبّ مثل هذه المواقف في خدمة الإسلام وصورته في الدَّاخل والخارج، أم تشكّل في جوهرها الإساءة الكبرى للإسلام من قبل مدّعي المحافظة عليه والمدافعين عنه؟

عام مرّ على غياب خالد غزال الذي كان ركناً رئيساً من أركان موقعنا “الأوان” وكاتباً مثابراً، يرفد الموقع بأفكاره الجميلة وكتاباته العميقة. لقد أعطى خالد موقع الأوان قيمة إضافية ولوّنه بجمالية خاصّة في الأسلوب والمضمون. بالمقابل منح الأوان خالدا منصّة هامّة أطلق من خلالها فكره ومجالاً رحباً لا رقابة فيه ولا مخافة.

خالد غزال سيظلّ ركناً أساسياً في الأوان، كما في بيروت المساء وجريدة النهار، وسيظلّ، في غيابه كما كان في حضوره، صديقاً كبيراً لنا نحن العقلانيين العرب.

[author title=”هيئة تحرير الأوان” image=”http://”]هيئة تحرير الأوان[/author]