بات الحديث عن مجاعة متوقعة في لبنان يستأثر باهتمامات اللبنانيين ورعبهم المسيطر، وأصبح كل شريط مصوّر أو تسجيل صوتي مثار تسارع في تلقف تناقله بين المواطنين. وأعادت مثل هذه الأحاديث تذكير اللبنانيين بواقعة المجاعة في العام 1914 التي عاناها أجدادهم، وأدت إلى خسارة ثلث سكان الجبل لحياتهم، وثلث آخر هاجر نحو المغتربات، وثلث السكان بقي على قيد الحياة في البلاد ينتظرالإعاشات التي تجود بها جهات عربية ودولية. الدعوات إلى زراعة الحبوب وتخزين المواد الغذائية باتت على كل شفة ولسان، دون أن تغير من واقع اعتماد البلاد في تأمين مقومات حياتها على المستوردات.
المهم أن تلك المناخات طغت على الجميع منذ أن بدأت المصارف بإجراءات تقييد سحب الأموال من حسابات المواطنين لاستعمالها في هذه الأيام السوداء والمقبلة، بعد أن تعذر الاستيراد من الخارج مع حجب التحويلات عن التجار لجلب المزيد من السلع، ومعها الأساسيات التي تتعلق بها حياة الناس. يحدث هذا في ما الأسعار ترتفع نتيجة تراجع قيمة النقد الوطني إلى أكثر من 35 % وسطياً. وقد تحولت البيوت والمنازل إلى مخازن لدى المقتدرين، بينما اكتفى آخرون بتأمين كفاف يومهم إن استطاعوا إليه سبيلاً. باعتبار أن حمّى الصرف من العمل والبطالة تضرب بسيفها في سائر القطاعات دون استثناء، وتقذف بمئات ألوف العاملين إلى البطالة، أو تخفيض الرواتب إلى ألنصف وأكثر. والمفارقة أن هذا التخوف من مصير الفاقة القريب وصل إلى فئات كانت تصنف حتى الأمس القريب من الفئات الميسورة، باعتبار أن لديها من المداخيل والأموال ما تستطيع إنفاقه، والحفاظ على قدراتها الشرائية ومقومات عيشها، لكن الإجراءات المصرفية المتلاحقة وضعت هذه الفئات أيضاً أمام الأسئلة المصيرية، ما دام ما تملكه من أموال لا تستطيع التصرف به، بعد أن حجزتها المصارف عنها دون وجه حق. لذلك تحولت صالات المؤسسات المالية إلى ميادين للتضارب والصراخ الذي لم يقلص منه وجود قوى الأمن على أبوابها وفي داخلها.
والمشادات اليومية التي تشهدها المصارف وتنقلها وسائل التواصل الاجتماعي، تعبر في ما تعبر عنه عن عمق الأزمة التي تضرب البلاد، والتي قفزت بالدولار إلى ما يتجاوز 2100 ليرة لبنانية لدى الصرافين، بينما استمر سعر الصرف الرسمي للدولار كما حدده المصرف المركزي في حدود 20/ 1510 ليرة لبنانية. لكن ما يتذكره اللبنانيون أن الدولار وصلت أسعاره مطالع التسعينيات إلى حوالي 3000 ليرة ولم تكن القيود على التحويلات كما هي عليه اليوم، ما يعني أن الأوضاع قد تصبح أشد خطورة مما سبق ومر به لبنان خلال تلك المرحلة، والتي انتهت عملياً بتثبيت سعر الصرف ما بين 15/1505 ليرة للدولار الواحد.
وواقع الأمر أن المصارف خلال الأسابيع الماضية أمسكت بخناق اللبنانيين من سائر الفئات. فالموظفون الذين قامت الإدارة العامة بتحويل رواتبهم الشهرية “الموطَّنة” إلى البنوك قبل الأعياد، قامت فروعها بحجزها عنهم، وإعطائهم قدراً محدداً منها، يبدأ من مائتي ألف ليرة وقد يصل إلى نصف الراتب، والأمر نفسه تعرض له موظفو القطاع الخاص. وطالت هذه القيود من يقبضون رواتبهم بالدولار، فالمعروف أن التحويلات لرواتب هؤلاء تصل إلى البنوك بالدولار، لكن الأخيرة تقوم بتسليمها لهم بالليرة اللبنانية وعلى سعر الدولار الرسمي، هذا اذا سلمتها لهم كاملة، ما يعني أنهم يخسرون أكثر من 30 % من قيمتها في عملية الصرف، إذ أن كل التجار والحرفيين والمهنيين تقريباً باتوا يسعرون السلع والخدمات على دولار يعادل ألفي ليرة وليس أقل، أو كما يعلن المصرف المركزي يومياً.
وبات من يملكون حسابات بالليرة اللبنانية المعدل الممكن بهم سحبه لا يزيد لدى بعض المصارف عن 500 ألف ليرة أسبوعياً وأقل لدى قسم آخر، وفي حال كان الإيداع بالدولار فقد وصل الحد المتاح الحصول عليه أسبوعياً إلى ما يتراوح بين 100 و300 دولار. وهذه ” الخرجية ” التي قرر فرضها القطاع المصرفي على الناس عاجزة عن توفير المستلزمات الحياتية اليومية البسيطة لأسرة متواضعة. وتزداد القيود قساوة لدى المضطرين لتحويل الأموال إلى الخارج لأبنائهم الذين يدرسون في الجامعات الاجنبية، ويطلبون تسديد الأقساط الفصلية عنهم عبر تحويلات مالية بالدولار. كما أن بطاقات الأئتمان اللبنانية لم تعد مقبولة خلال السفر، ويتعرض اللبنانيون الذين يحملونها إلى منوعات من الإذلال، أقسى بما لا يقارن مع ما يتعرض له أهلوهم في الوطن. لكن ما يحدث مع “عامة ” المتعاملين لا يطال “علية ” القوم، أو كبار الزبائن الذين يتم استثاؤهم من “الإجراءات العقابية” التي تطال المواطنين، إذ يمكن أن يكون سقف السحب الأسبوعي بحدود الألف دولار وأكثر، هذا إضافة إلى ما يتردد عن تحويلات بملايين الدولارات نحو الخارج. لكن ما يتخوف منه المواطنون يتعدى هذه القيود التي يعانونها راهناً، ليصل إلى مخاطر التوقف عن الدفع سواء بالليرة أو الدولار قريباً.
المصارف التي تمارس سياسة استنسابية بين مودعيها تبعاً لمدى نفوذهم وقوتهم السياسية والمالية، وبمعزل عن توافر أو عدم وجود قوانين محددة تتيح لها ذلك. ستتابع هذه الخطى انطلاقاً من التطورات السياسية التي عبرت عنها تسمية الدكتورحسان دياب رئيساً مكلفاً بتشكيل الحكومة ومدعوما من حزب الله كما أجمعت على وصفه الصحف الغربية، وهي تسمية خيبت آمال المتفائلين بإمكانية الدخول في مجرى عملية سياسية اقتصادية ايجابية تقود إلى الشروع في وضع الحلول، أو على الأقل في وقف مسارات الإنهيار من خلال اطلاق مؤشرات ايجابية على الصعيدين الداخلي والخارجي سياسياً، تنعكس ايجاباً على اقتصاد البلاد. جاء التكليف بالشكل الذي تم التمهيد له ليعبر عن يأس من امكانية الإنقاذ عبر استحالة الدخول في مفاوضات متعددة الجهات تقود إلى مواجهة الازمة الاقتصادية والمالية التي يبدو أنها تتجه نحو مزيد من الاحتدام في ظل هكذا سياسات، أقل ما يقال فيها أنها تعمد دوماً إلى صب المواد الملتهبة على نار لا ينقصها ذلك ليرتفع ويتصاعد لهيبها.
[author title=”عماد زهير” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]