الذين اطلعوا على نص مشروع قانون الموازنة العامة والموازنات الملحقة لسنة 2020 والذي تناقشه الحكومة وأقرّت بعض مواده قبل الانتهاء منه قبل منتصف الشهر الجاري، وإحالته على المجلس النيابي لمناقشته وإقراره، هالهم ما كانت تراه عيونهم من إصرار على البقاء في الحلقة المفرغة إياها التي حكمت موازنة العام 2019. كل هذا يتم وسط تحديات مالية واقتصادية ملتهبة لم يعرف لبنان مثيلاً لها طوال تاريخه منذ قيام دولة لبنان الكبير وإلى اليوم. ومع أن وزير المال، ويفعل مثله أركان الحكم في السلطتين التنفيذية والتشريعية يتباهون بإعداد الموازنة في الوقت المطلوب، ويدعون خلو المشروع من الضرائب والرسوم الجديدة “تلافياً لتحميل الفقراء وذوي الدخل المحدودة أعباءً لا طاقة لهم بها”، تؤكد المعطيات التي يعيشها اللبنانيون أن العكس هو الصحيح، بدليل أن الأزمة باتت تأكل من صحونهم اليومية وسط حال الافلاسات التي تطغى على الأسواق، وتقود إلى رفع منسوب البطالة، وبالتالي الحصول على عمل بأجور مقبولة تؤمن الأساسيات، ومع تعثر الصناعة بعد تعذر تطوير مؤسساتها والحصول على الآت جديدة والمنافسة في السوق المحلي، وبوار الزراعة جراء العجز عن بيع المحاصيل بأسعار ترد التكاليف التي ترتفع تباعاً، ولا يبتعد قطاع الخدمات عن المناخ السابق نفسه. والأسوأ من كل ذلك هو ما يشهده السوق المالي على صعيد الدولارات التي باتت حكراً على خزائن المصارف، مع ما يترتب على ذلك من أزمات عاصفة تطل برؤوسها هذه الأيام في قطاع المحروقات، وغداً في أسعار الأدوية، وبعد غد في المواد الغذائية وهلمجرا. والواضح لدى كل المراقبين والمحللين أن مثل هذه الموازنة لن تحقق المرجو منها بالنظر إلى محاولتها شرعنة ما أصبحت عليه الدولة من محاصصة مفرزة بين مكوناتها السياسية والمالية، بدليل ما نشهده وشهدناه في المجلس الدستوري وسواه من التعيينات الأخيرة، إذ جرى اعتماد “قاعدة” الولاء على ما عداها من كفاءة ومواصفات كانت تحرص عليها، وتتمتع بها الإدارة اللبنانية في عهود سابقة. وعليه تصبح البلاد واقتصادها ومصائر ناسها ميداناً من ميادين التكالب على نيل أرباب السلطة كلٌ حصته منها، ما يدحض الوعود التي أطلقت في غضون الأشهر السابقة لجهة الاصلاح الذي يضع البلاد على سكة الخروج من عنق الزجاجة في غضون عامين، ويجعل منها مجرد أضغاث أحلام، تحقيقها ليس أقل من ثامن المستحيلات، بالنظر إلى تعذر بلوغ الموازنة أهدافها المعلنة رغم ما تتضمنه من القرارات المؤلمة التي تطال الفئات الوسطى والشعبية حصراً. على أن ما يتوجب إضافته هنا إلى الموازنة ما سبق الاعلان عنها متمثلاً بورقة قصر بعبدا ووصفت في حينه بأنها بمثابة “خطة طوارئ اقتصادية” وبلسم لأمراض الاقتصاد وأعراضه.
بداية لا بد من التذكير أن سلسلة الاجراءات التي تضمنتها الموازنة تأتي فيما درجة النمو باعتراف الوزير نفسه ستكون في العام 2020 صفراً، عطفاً على صفر سابق في العام 2019. مع ذلك تتحدث الموازنة عن نمو إيجابي لا مؤشرات فعلية له في ضوء المعاناة التي تعانيها قطاعات الانتاج والخدمات على حد سواء. والفعلي أن المسؤولين يراهنون كما هي عادتهم، على الحصول على قروض ومساعدات خارجية مصدرهما فرنسا والمملكة العربية السعودية، وهو أمر يبدو أكثر من متعذر لأسباب سياسية واصلاحية مفقودة. والمشكلة الكبرى التي يصطدم بها التوجه نحو مزيد من الديون أن ذلك كله ياتي مع هبوط التصنيف الدولي للبنان لدى أبرز الشركات العالمية المتخصصة، ما يعني إزدياد المخاطر على القروض والديون، ما يدفع بالدولة إلى تقديم مغريات تتمثل برفع نسبة الفوائد إلى أرقام لم تعرفها دول العالم، ويتردد أنها قد تصل إلى إلى 14.5% وهو رقم خيالي في كل المقاييس. ومن المعلوم أن ارتفاع الفوائد على سندات الخزينة، كان وما يزال في أساس الشلل الذي تعانيه القطاعات الاقتصادية كافة، باعتبار أن من يملكون الأموال، وجهوها إلى شراء سندات الخزينة من الدولة بفوائد لا تستطيعها أي من المؤسسات والمرافق المنتجة، ما قاد إلى شلل لم ينج منه واحد من القطاعات العاملة. بالطبع كل الوعود الاصلاحية التي جرى التبشير بها داخلياً وخارجياً تبين عكسها في الممارسات، إذ لم تتضمن لا الموازنة ولا توجهات المسؤولين أي خطة ملموسة لإنعاش المؤسسات الرقابية للدولة التي تعرضت للتهميش على مدى العقود الماضية، ومع غيابها باتت الدولة تدار من الغرف السوداء التي يسيطر عليها ممثلوالقوى الطوائفية، كما لم يجر إعادة تقويم لأداء القطاع العام وتوصيف الأعمال التي تقوم بها دوائر الدولة وموظفيها لتوجيه الفائض نحو المواقع التي تعاني الشغور. وهكذا ظلت نفقات هذه الإدارة تحتل الموقع الأول في انفاق الموازنة ، ولدى احتسابها مع فوائد الدين العام تصل إلى ما نسبته 79% من النفقات العامة. وتشكل الكهرباء المجال الثالث، وقبل إقرار الموازنة تكرس تخفيض فاتورة الكهرباء من مليارين ونصف المليار دولار إلى 1500 مليار سنوياً، وهكذا باشرت بمضاعفة ساعات التقنين إلى سبع ساعات يومياُ، ما يقود إلى وقوع المواطنين في براثن أصحاب المولدات ويفاقم نفقات القطاعات المنتجة، علماً أن المبلغ المذكور سيذهب إلى مشتري سندات الخزينة. بالطبع كل ما تم التعهد به إلى دول “مؤتمر سيدر” حول الهيئات الناظمة للقطاع العام وجباية الضرائب من المقتدرين وضبط الحدود وترشيد الإنفاق وغيره، لم يتحقق منه ولو جزء بسيط. لذلك تدور البلاد في حلقة مفرغة بالنظر إلى أن المس بمسائل حيوية من نوع تخفيض رواتب وتقديمات المسؤولين واستعادة الأموال المنهوبة من الدولة ورفع الضرائب على الرساميل المالية غير المنتجة وضبط الاملاك البحرية والتهريب من المطار والمرفأ والحدود البرية وعمليات التهرب الضريبي من شأنها أن تأخذ من جيوب من معه، وهو غير وارد بتاتاً.. اختصاراً يمكن القول إن لبنان في قاع أزمة بنيوية لا يمكن علاجها لدى أهل الحكم الذين هم سببها وعامل استمرارها… وعليه، عبثاً البحث عن حلول فعلية.
[author title=”محرر الشؤون الاقتصادية” image=”http://”]محرر الشؤن الاقتصادية[/author]