سياسة مجتمع منشورات

العمالة في ظل الانقسام اللبناني الموروث والمستمر

وفي هذا السياق يستمر الانقسام ويتجدد معه العمالة والخيانة التي يصعب تبرئة أي من الجماعات اللبنانيية منها، وهذا ما يبقي  انجاز التحرير رهينة، ويجدد السؤال عن أسباب غياب الهوية الوطنية  ويستعيد البحث عن الاستقلال بين الحقيقة والوهم. 

عشرون عاماً مرت والتحرير من الاحتلال الاسرائيلي، كان ولا يزال موضع نقاش وسجال خلافي بين اللبنانيين، بدءاً من خيار المقاومة وسلاحها ودورها قبل التحرير وبعده، مروراً بالعلاقة مع “اسرائيل” مواجهة معها أو رهاناً عليها، وصولاً إلى حقوق المقاومين والمعتقلين ومصير المتعاملين معها.  أما الحصيلة فهي  تأكيد استمرار حالة الانقسام  الموروثة  حول كافة قضايا  البلد وما يتصل منها بالتحرير.

ولأن الإنقسام  حقيقة راسخة، فإن التحريرالذي لم تتمكن قوى المقاومة الوطنية من استكماله، وقد أنجزته المقاومة الاسلامية، استمر رهينة لها ولمصالح الطائفة وحزبها، وتحول مادة  توظيف في صراعات السلطة والنفوذ. وهذا ما افقده أهميته في بناء وطنية جامعة، وأعاق توظيفه في سبيل تجاوز الإنقسام حول هوية لبنان والقضية الفلسطينية ومسألة العداء لاسرائيل وموقع لبنان في الصراع العربي والفلسطيني معها وتحديد موجباته فيه مشاركة او انسحاباً. 

والإنقسام سهّل لقادة الطوائف وقواها،  التحصن بوجهات نظرها الخاصة لتعريفها للوطنية  في ظل انعدام وحدة المقاييس والاعتبارات والعوامل التي تعرّف الوطنية الجامعة وشروط تحققها وفق مسار تراكمي. لأن الوطنية الفئوية موصولة   بتعريفها لوجودها وانتمائها المستمد من حقبات تاريخية سابقة على كينونتها الراهنة التي  تميزها، و يجدد مشاريع الهيمنة والسيطرة، لتحقيق طموحاتها أو  تكريس امتيازاتها الموروثة عن حقبات سابقة على الاستقلال، والمستمرة  بموجب النظام الطائفي وبقوة علاقات قياداتها وزعاماتها بالخارج بذريعة حماية وجودها.. 

 ووبما أن وجهات نظر قوى الطوائف لوطنيتها، هي انعكاس لمصالحها كجماعات، فإنها أيضاً المقرر لتبدل علاقاتها بدول الخارج أنظمة وسياسات، وهي الاساس في تزايد نفوذ هذه الدولة  وتراجع تلك أو أفول آخرى. وبالإستناد لها تتحدد وتتباين طبيعة العلاقات مع الخارج  ودرجات  الصداقة والولاء والعداء ومستوى ثباتها او تغيرها، هكذا كان عليه الامر في عهد السلطنة والمتصرفية، و استمر قبل الاستقلال وبعده.    

 ولأن الإنقسام مقيم والسائد هو الخلاف الذي يشمل تقاسم السلطة ومحاصصتها وفق النظام الطائفي الذي يشكل  قيداً غليظاً يأسر البلد ويعيق وحدته وتطوره. وهو المتحكم  بكتابة تاريخ الكيان المكبل بالطائفية التي تمنع  رسم الحد الفاصل بين الوطنية والخيانة، حيث وطنية كل  طرف تختزل الوطن بتعريفه الخاص له. لذلك  استمر البلد ساحة  تتوزعها مجموعة أوطان متنابذة ومتصارعة، وباتت علاقاتها الخارجية  أقوى من الروابط الداخلية بين مكوناتها. وهي مصدر القوة والحماية والاستقواء في الداخل وعليه. أما تبادل تهم الخيانة والعمالة فهو لتبرير تلك العلاقات والإرتهان لها وتبادل منافعها  في الصراعات والحروب الأهلية المقيمة والمشرّعة على التدخلات والوصايات الخارجية.

 والمرجع لوجهات النظر الوطنيه يعود إلى الهوية والانتماء للجماعات اللبنانيية التي تشكل منها الاجتماع اللبناني، والاصل التاريخي الذي تتحدر منه، والذي لا يمكن حصره  بزمن  محدد أو حقبة معينة يمكن الاستناد لها. والوجه الغالب للهوية يتغير  تبعاً لمواسم الصراع وطبيعة الاصطفافات وتبدل التوازنات الداخلية والخارجية التي تحدد الولاء ومستويات تزخيمه ووجهة تطوره او تراجعه. والولاء للخارج يستدرج حماية الخارج للداخل وتبرير تدخله والبناء عليه لتكريس وصاية  أوسع،  في الازمات الكبرى  وعند عقد تسويات مفصلية.. ولدينا امثلة كثيرة في تاريخنا الحديث والقريب، تبدأ بنظام المتصرفية،وتأسيس لبنان الكبير، وتسوية 1943، و1958 حول موقع لبنان وصيغة النظام وتوازناته، وصولاً إلى تسويتي الطائف والدوحة. حيث الضمانات الدولية والاقليمية والعربية بشأنهما لا تزال حاضرة في ذاكرة اللبنانيين. والتسويات لا تقوم إلا وفق صيغ ملتبسة قابلة للانفجار عند تبدل التوازنات وتوفر الظروف المؤاتية، حيث لأطراف الدخل مرجعيات ومصادر دعم، وللخارج  في سياسات ونقاط ارتكاز، وفي ذلك تكمن معادلة العمالة والأداة. وفي هذا السياق يستمر الانقسام ويتجدد معه العمالة والخيانة التي يصعب تبرئة أي من الجماعات اللبنانيية منها، وهذا ما يبقي  انجاز التحرير رهينة، ويجدد السؤال عن أسباب غياب الهوية الوطنية  ويستعيد البحث عن الاستقلال بين الحقيقة والوهم. 

والضمانات والحمايات الخارجية لا تأتي من الفراغ، لأن علاقة الجماعات اللبنانيية هي مع الأنظمة والحكام وليس مع الشعوب، وهي تعبر عن مصالح متبادلة وغالباً ما يكون الانتماء الديني او الطائفي او القومي والعرقي هو الأساس أو المدخل. وهذا ما يساهم في تشكل بيئة خصبة لعنصرية الجماعات اللبنانيية حيال الشعوب الاخرى وشركائهم في الداخل، وهو ما تؤكده ممارساتهم اليومية وثقافتهم العامة وخطب قادة الطوائف وزعمائها. لذا لا يعود مفاجئاً أن تستفز وطنية من يجاهر بتصنيف اسرائيل عدو محتل، يجب مواجهتها ومقاومة احتلالها، وطنية من لا يوافق على هذا التعريف، فيسارع إلى توصيف الوجود الفلسطيني إحتلالاً، وسوريا دولة محتله، وأن قتاله  لهما هو الوطنية اللبنانية. والمضمر لديه أن العدو هو الفلسطيني، بصرف النظر عن الاحتلال الاسرائيلي لبلاده وقضيته وعدالتها، وكذلك السوري مهما كانت اوضاعه وطبيعة نظامه، لذا فهما متساويان عنده مع العدو الاسرائيلي الذي اجتاح لبنان واحتل اراضيه.

 وكما تتبادل هذه القوى تهم الخيانة والعمالة التي تمارسها، فإنها مستعدة للتواطوء بين مكوناتها لمصالح فئوية وآنية. وهي جاهزة دوماً لاستحضار ملفاتات خصومها واستخدامها عند الحاجة. لذا يصعب أن تجد بين مكونات ألطبقة السياسية، من هو خارج شبهة الولاء أو الرهان على الخارج،  لأن تاريخ الطوائف والجماعات اللبنانية وزعمائها هو تاريخ خيانات فيه صفحات من الوطنية التي لم تولّد وطنية جامعة.

وإذا كنا لا نراهن على الطبقة السياسية الحاكمة في انتاج وبناء هوية وطنية جامعة  تتعارض مع مصالحها، فإنه من العبث أيضأ توهم إمكانية توليدها قسراً. ولأن المعضلة تتعلق بجلاء الموقع اللبناني في المقاومة والتحرير والسلاح. الذي لا تحكمه البديهيات، فإن الخلاف حولها سيبقى مقيماُ إلى أمد بعيد.  

 اما الساعون لهذه الوطنية وهم أقليات متناثرة محاصرة من  احزاب الطوائف، فإن ممارستهم لها والتزام موجباتها ترتهن بقدرتهم على الاستقلال والصمود اعتراضاً على تواطوء اجنحة الطبقة السياسية حول حماية العملاء الذين  يستحقون العقاب على جرائمهم بحق المقاومين والمعتقلين في معتقلات الاحتلال، وسط غياب هوية وطنية جامعة تخرج اللبنانيين من نفق الانقسام، ولا تميز بين حقوق مقاوم لاسرائل ومعتقل أو مخطوف أو مفقود في سجون النظام السوري أو لدى الميليشيات المشاركة في السلطة.

[author title=”محرر الشؤون اللبنانية” image=”http://”]محرر الشؤون اللبنانية[/author]