المصلحة الوطنية اللبنانية بالتعريف هي ما يتوافق عليه اللبنانييون عموماً، ولأنه لا مكان لها في جدول أعمال من يتشاركون السلطة، فإن اللبنانيين المتضررين من سياسات وممارسات هؤلاء، محكومين بالإنتظار إلى أمد بعيد لا أفق مرئياً له. والسبب إصرار أطراف السلطة على تغليب مصالحهم الفئوية، والاستمرار في استرهان البلد وأهله من أجلها، وإبقائهما عرضة للتلاعب العبثي دون أي اعتبار للمخاطر المترتبة. والمصالح الفئوية يحددها كل طرف انطلاقاً من الموقع الذي يتحصن به ويستند إليه. وعليه يرسم خارطة الطريق الخاصة به، وفي مندرجاتها الصراع والهدنة والتواطوء مع الآخرين والإمعان في تجاهل مصالح البلد الفعلية.
لذلك لا عجب أن يُدمن اللبنانيون الأخبار والتصريحات والبرامج التي تتعلق بالأزمات التي تعصف بالبلد وتعرضه للمخاطر، وتضيِّق الخناق على أكثرهم وتهدد مصادر عيشهم. وهي الأزمات والمخاطر التي يتبادل أهل الحكم تهم المسؤولية عنها، وإدعاء البراءة منها، في موازاة نثر الاوهام حول معالجتها عبر تكرار وعود الحلول التي لا تأتي. أما البرامج التي تحظى بأعلى نسب المتابعه، فهي التي تستضيف المحللين والخبراء الذين يدَّعون امتلاك الحقيقة في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع وما يتفرع عنها، أو يتصل بها من قضايا وملفات، فتجدهم يُكثرون من اقتراحات الحلول السحرية والمطالبة بالأخذ بها، وإلا فالكارثة قادمة والانهيار زاحف لا مفر..
أما حصاد المتابعين لما تبثه وتتناقله وسائل الاعلام المتنوعة الأهواء، حيث الموضوعية لا مكان لها، فهو مزيد من التعمية والتضليل حول الأزمات التي يتشاركون أعباءها، ويتحملون أكلافها ويتقاسمون الخوف والقلق حول مضاعفاتها. بينما تتآكل إمكاناتهم على الصمود في مواجهة النتائج الكارثية الزاحفة، وتتبدد طموحاتهم وأحلامهم بالإستقرار، مع تزايد معدلات الفقر والبطالة وانتشار الأمراض والأوبئة، والعجز عن تأمين أبسط مقومات العيش الكريم. أما الهجرة فقد تحولت مطلباً جماعياً يتنقل الحالمون به بين السفارات في عرّاضات جماعية يشاركهم فيها اللاجئون الفلسطينيون والنازحون السوريون… وكل يرفع نداء الإستغاثة.
ومن غير المستهجن أن نجد بين الذين تسحقهم الازمات وهم الأكثرية، من يسترحمون احزاباً ينتمون إليها أو قوىً يدينون لها بالولاء، من أهل الحكم والسلطة، في محاولة منهم للتشبث بوهم يعتقدونه حقيقة، ويرون فيه مصدر أمل يخفف بعض ما هم فيه، فيما يقبع الآخرون في منازلهم استسلاماً للقدر.
ولأن الاحزاب والتيارات الطائفية لا تغير من طبائعها وأدوارها، فإن بقاء الأوهام لدى جمهورها، موضع عناية واهتمام، من أجل تماسك بنيتها وتحصينها في مواجهة الآخر. وهو يتوافق مع تقاسم البلد ساحات ومناطق وقضايا وتصنيفها ملكيات خاصة للطائفة والحزب أو التيار والزعيم، فتتحول إلى محميات يُمنع المساس بها أو الاقتراب منها. ولا يكتمل الأمر إلا بتقسيم اللبنانيين جماعات طائفية وفئات تابعة، تستخدم للتلاعب بين الساحات وفيها ، تبعاً لما هو متاح من أسلحة وإمكانات أو فرص يمكن استغلالها والإستفادة منها.
وفي ترسيم الساحات المقدسة، لا حرج ولا خجل في إعلاء رايات الطوائف وتمجيد أدوار أحزابها وقادتها في الارتهان للخارج أو العمالة له والإستقواء به، ولا تتردد في اعتماد عنصرية سافرة وسيلة تحريض. وكل القضايا ذات أهمية قصوى، كبيرة كانت أم صغيرة، فتتساوى القضية الوطنية مع قضايا الاقتصاد، والعلم والصحة مع صفقات الكهرباء ومطامر النفايات والكسارات و… وجميعها تستحق خوض المعارك في سبيلها لأنها وسيلة للسلطة والنفوذ والمنافع، ولا مانع من تعطيل الاستحقاقات والمؤسسات والإدارات من أجلها. ولأن مصالح الحزب وقادته وعائلاتهم هي الضمانة، فإن ابطال المعارك هم الضحايا المحصنين بالأوهام الطائفية والمؤمنين بقداسة القائد أو الزعيم، الذي يطلق الشعارات الكبرى التي تتجاوز البلد، ولا يكتفي بالرهان على دعم الخارج، بل يستسهل الإرتهان لسياساته ومصالحه، فتتحول ساحاته ملحقات تابعة له وأهلها رعايا وأدوات.
وليس أفضل من المناسبات الدينية والحزبية لتمجيد الإنتصارات على الآخر والإشادة بالإنجازات المتحققة والمكاسب الفئوية. وهي أيضاً مواسم لاستعراض الحشود وشد العصب، عبر إطلاق وعود المشاريع التنموية ونثر أوهام الازدهار التي ستأتي مع القروض والمساعدت المنتظرة. والحصيلة الثابتة تجديد الولاء، وتوفير الغطاء لممارسات الفساد الذي يدّعون محاربته وهم يتقاسمون منافعه، وضمان الدعم في معارك المحاصصة القادمة، وحماية التهرب من تنفيذ شروط القروض التي تتعارض مع مصالح أهل السلطة وزراء ونواب ومسؤولي إدارة مؤسسات عامة.
لقد اصبح أمراً عادياً، أن تتزامن التهديدات الإسرائيلية بتدمير البلد، مع إعلانات استرهانه للدفاع عن محور الممانعة بقيادة النظام الايراني. كما بات من المسلمات أن تتوالى العقوبات المالية الأميركية على حزب الله تحت راية تهم الإرهاب، بينما تتزايد وتيرة الترهيب وشروط الدعم التي يستحيل الاستجابة لها، لأنها تفاقم الإنقسام وتضمر الدعوات للإقتتال الداخلي، بذريعة منع التدخل في شؤون دول الخليج وانظمتها المأزومة. كما أصبح مألوفاً تسارع الركود الاقتصادي والعجز المالي وعدم مجيء القروض لأن طلبات الاصلاح لا تنفذ، في ظل شح موارد الدولة وارتفاع وتيرة النهب والتهريب والتهرب الضريبي، وتكاثر حالات الإفلاس في مؤسسات قطاعات الصناعة والتجارة والسياحة وصولاً إلى المؤسسات الإعلامية جراء الركود الاقتصادي القاتل. ولا يقع في باب الاستهجان ترافق انفلات صراعات أهل الحكم ووتيرة خلافاتهم، مع شلل وعجز مؤسسات الدولة وانهيار الخدمات العامة، بدءاً من المدرسة الرسمية إلى المستشفيات الحكومية والكهرباء والمياة وتفاقم أزمات البيئة والنفايات وانتشار الأوبئة والأمراض.
أمام هذا الواقع المخيف الذي يجتاح معظم قطاعات البلد ومؤسساته، ويلقي بثقله على الوضع المالي والمعيشي، وسط انفلات كل منوعات الفساد والإجرام المتمادي، يصبح أمراً عادياً أن تتحول ابسط حقوق اللبنانيين مادة ابتزاز ووسيلة إذلال لهم في كراماتهم الانسانية. وأشد ما يؤلم اللبنانيون اليوم هو انعدام الثقة بدعاة التغيير الذين يمارسون ترف إطلاق الشعارات والدعوات لاسقاط النظام الأمر الذي يحتاج لقوى لا أثر لها. لذا تراهم أمام متاهة التنقل بين الأزمات والمخاطر، لا يستطيعون تحديد الأولويات، موزعين بين الاستسلام للقدر، والهروب بحثاُ عن أمل أو فرصة نجاة لا يعرفون أين يجدونها، يتقلبون على جمر الواقع المخيف والأزمات المتفجرة والخوف من انهيار العملة الوطنية، لكنهم عاجزون عن السير أو الوقوف.
[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]