ما إن تمّ إقرار الموازنة العامة حتى إنكفأت التحركات الشعبية المحدودة المناهضة لما تضمنته، بدليل عودة العسكريين المتقاعدين إلى بيوتهم، والموظفين والأساتذة إلى أعمالهم، والمستأجرين القدامى إلى مشكلتهم، والحراك الشعبي للإنقاذ إلى قواعده. وحده التحرك الذي شهدته التجمعات الفلسطينية احتجاجاً على خطة”مكافحة العمالة الاجنبية غير الشرعية” التي شرعت في تطبيقها وزارة العمل في مختلف المناطق اللبنانية تصاعدت في كل مخيمات لبنان. ولاستمرارها معادلات أخرى ترتبط بوضع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وجملة ما يحيط بقضيتهم .
تزامنت التحركات اللبنانية مع انعقاد جلسات المجلس النيابي لمناقشة الموازنة، وما تضمنته من بنود تمسّ المواطنين في القطاعات المدنية والعسكرية، بمن فيهم أولئك الذين سيتأثرون حكماً بارتفاع الأسعار والرسوم المتوقعة في العديد من المجالات في المقبل من الأيام.
بداية، لا بد من ملاحظة أن مجمل التظاهرات التي شهدها الوسط التجاري كانت محدودة العدد، وحافظت على نسبة المشاركين السابقة، بحيث أنها في أحسن الأحوال لم تتعدَ عدة مئات فقط. وهو ما حدا بقسم منهم إلى التعويض عن الحجم المتواضع، بمحاولة التقدم نحو مقري المجلس النيابي ورئاسة الحكومة، إلا أن القوى الأمنية نجحت ومنعت الوصول إليهما كما حدث سابقاً. وفي ما كان البعض يراهن على مواقف عدد من النواب الذين أعربوا عن دعمهم للتحركات، والتعبير عن أحقية ما يطالبون به في قاعة المجلس، تبين للمتظاهرين أن ما سبق وسمعوه ليس أكثر من مجرد عمليات نفاق موصوفة، بدليل إقرار الموازنة من جانب كتل وقوى، كانت وعدت بالتصدي لمصادر الخلل ومحاسبة اللصوص وناهبي المال العام.
المطالب التي رفعها المتظاهرون إندرجت تحت عناوين متعددة أبرزها عدم المس بالأجور والرواتب التقاعدية ورفض زيادة مساهمتهم في نفقات الطبابة، ووضع “خطة سكنية وقانون إيجارات عادل”، وتثبيت حقوق الأساتذة في المراحل الثانوية والأساسية وفي الجامعة اللبنانية، وتوظيف الناجحين غير الموقعة مراسيم استدعائهم للالتحاق بوظائفهم بعد توقيعها و”حقوقهم في التفرغ والتثبيت والطبابة وبدل النقل”، وعدم المس بموازنة الجامعة اللبنانية باعتبار”الجامعة خط أحمر“. وغيرها من مطالب. لكن الأبرز هو ما شهده اعتصام العسكريين من انقسام، لم تنجح عملية تبويس اللحى والمصالحة التي حدثت بعد جهود في رأب الصدع واستعادة حراكهم زخمه. أما على جبهة التحركات الشعبية فلم تكن الأوضاع أكثر نجاحاً، فقد غاب الطلاب الذين دأبوا على المشاركة لاستغراقهم في امتحاناتهم، وكذلك الجسم الأكبر من موظفي القطاع العام ومتقاعدي ومتعاقدي مراحل التعليم، حتى أن الحضور كان رمزياً، ولا يتلاءم مع حجم الطموحات التي دفعت البعض للحديث عن ألوف المشاركين، الذين سيسقطون النظام الطائفي على رؤوس أصحابه المجتمعين في المجلس النيابي. وبالطبع غابت الطبقة العاملة ومعها الاتحاد العمالي العام ونقابات المهن الحرة. وهكذا كان الحراك صورياً رغم مستوى الصوت المرتفع الذي لا يعبر عن قدرات فعلية في إرغام النواب والوزراء على وقف عملية النهب المفضوحة، واسترجاع الاموال المنهوبة بدل الاقتطاع من أجور ومعاشات المتقاعدين، وفرض المزيد من الضرائب، مقابل عدم المس بأموال الفاسدين والمفسدين، الذين يكدسون الثروات على حساب معظم فئات المجتمع. ويعبر هزال الحراك عن عجز في تحليل قوة النظام اللبناني ونقاط ضعفه، وكذلك عن المعضلات التي تعانيها الحركة اليسارية وعموم قوى الاعتراض، وهامشية القوى التي تمثلها، والتي تفرض نتائج لهذه التحركات، حيث يتعذر تسجيل تحقيق أي إنجاز مهما كان هامشياً.
تحرك المخيمات
أما على صعيد تحرك المخيمات الفلسطينية، فقد كانت خطة وزارة العمل لمكافحة الايدي العاملة الاجنبية غير الشرعية، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. فصحيح أنه من أصل أكثر من سبعماية محضر ضبط بحق المخالفين لقانون العمل لم يسجل سوى حالتين لصناعييْن فلسطينييْن، أحدهما قام بتسوية وضعه في اليوم التالي. إلا أن الفعلي أن الوضع الاجتماعي والمعيشي للاجئين الفلسطينيين وتهميشهم وفرض العزلة والحصار وإقامة الحواجز والجدران العازلة حولهم، لا يمكن أن يعالج من خلال شمولهم بالمخالفات، لجهة عدم امتلاكهم إجازات عمل. أيضاً لا يمكن إلحاقهم بسواهم من الاجانب الذين دخلوا ويدخلون لبنان خلسة ولم يستحصلوا على إجازات عمل، إذ إن لهم خصوصية تنبع من وجودهم في لبنان منذ 71 عاماً على نحو متواصل لتعذر عودتهم إلى بلادهم المحتلة من اسرائيل. أما ضعف حصولهم على إجازات عمل مجانية لا تزيد عدداً عن 1100 إجازة، فمرده أرباب العمل من لبنانيين وفلسطينيين وسواهم من الذين يدركون أن إجازة العمل تستتبع تسجيل العاملين لديهم في الصندوق الوطني للضمان، وبالتالي دفع ما نسبته 23.5 % من الراتب للصندوق. هذا مع العلم أن الفلسطيني المسجل لا يحصل سوى على تعويض نهاية الخدمة باعتبار أن المرض والأمومة والاستشفاء تعتبرها الدولة اللبنانية ضمن تغطية الاونروا. ثم إن رب العمل الذي يدفع عن أجيره الفلسطيني كامل المبلغ يستفيد الأخير بها من 8.5 % فقط . والواقع أن العوامل التي أطلقت التحرك ترتبط بتعذر حصول الفلسطيني على إجازة العمل المجانية، بالنظر إلى ربطها مع توقيع عقد عمل، والكثيرون يرفضون منح عمالهم الفلسطينيين ذلك لأسباب تتعلق بسياسة الاستغلال التي تمارس عليهم وسواهم بهدف زيادة معدل أرباحهم.
عناصر التأزم في الشارع الفلسطيني متنوعة أبرزها المحاولات الاميركية لتصفية قضيتهم وما يشكله ذلك من قلق وضغط نفسي، لكن الأكثر تماساً مع أوضاعهم هو العجز المالي الذي تعانيه الاونروا، والذي يدفعها إلى تخفيض مستوى خدماتها في الطبابة والتعليم وباقي الخدمات، ما يقود لمزيد من البطالة وتدهور المعيشة. يضاعف ذلك حرمان الفلسطيني من حق العمل في عشرات المهن المحصورة باللبنانيين رغم إلغاء مبدأ المعاملة بالمثل. اختصاراً يمكن القول أن ما جرى، فتح ملف الحقوق الفلسطينية التي يجب أن يتمتعوا بها كنوع مخصوص من اللاجئين الدائمين، ما يتطلب معالجات سياسية وقانونية فعلية، والتخلي عن سياسة تعليق الانجازات في العلاقات اللبنانية الفلسطينية على مراسيم تنظيمية لا ترى النور، رغم مرور عقود على صدور القانونين (128 و129)، في ما الإوضاع المعيشية تزداد تردياً.
[author title=”عماد زهير” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]