مجتمع

ومشينا معاً ولم تنكسر

حسين حرب 

التقينا على قارعةِ الحُلُم. مر على لقائنا الأول نحواً من نصف قرن. كانت أناقتك طازجةً ودماثتك دوماً نضرة. كنتُ، وأنت مستغرق في مداخلة لتنقية قمحِ الخط السياسي من زؤانه، أتساءل في قرارة نفسي إلى متى سيثابر هذا  الدونجوان على هذا الخط، بل أي متى سيعود هذا الشيخ المُرُوُّيُّ إلى عِلّيتهِ؟. هل كنتُ أنا سيِّء الظَنِّ أم كنتَ أنت من طينة لا يَفسدُ عجينها. خمسون عاماً وأنت مثابر على هذا الخط. تقطّعت بنا السبل، تصدّعت مرتكزات اللقاء الأول، جرت مياه كثيرة في مجرى المسيرة، اختلط  وحْلُ الواقع بنقاء العقيدة وبقيتَ معتصما بحبل إيمانك.

كان منزلكم في محلة  القناية محطتنا الدائمة في صيدا. محطتنا في صنع الأحلام الزاهية، وفي تشكيل الواقع على شاكلةِ معتقداتنا، محطتنا في تصريف النقاش مناحيَ شتّى لفتح منافذَ في جدران الواقع الفولاذية، تطل بنا على فراديس دنيوية ترفل  بأنهار من خمر ولبن وعسل. هو المنزل الذي ألِفناه ونَحِنُّ إليه أبداً. نَحِنُّ إلى المنزل الذي نشعرُ فيه أننا لم نفارق بيتنا. وكان آخر عهدنا به خلال حرب تموز لعام ٢٠٠٦، عندما أَلَحّيتَ علينا، أنا وهنا، بأن نترك بيتنا بعد قصف طال محيط السراي الحكومي وننتقل إلى منزلكم. كانت دعوتك لنا فألا. توقفت الحرب في اليوم التالي. كنت أحب أن أنتقي لجلوسي في غرفة المدخل بل في الدار الرحب على قدر رحابة ساكنيه، الكنبة المقابلة للمكتبة التي تحتل كامل الجدار الغربي، حيث يتسنى لي كل مرة تفحص شتى أصناف الكتب والمجلدات والمجلات والدراسات التي تفيض عن الرفوف. كتبٌ في الماركسية وحقولها، في اللغة العربية وآدابها، في الروايات العربية والعالمية …أتذكر ولا تغيب عن بالي صورتك، الكتاب بيد وجريدة الصباح باليد الأخرى، إذ كنت تحرص على مواكبة عالم الأدب والشعر والثقافة بقدر حرصك على ملاحقة عالم السياسة. كان هذا الدار من بين دورٍ في صيدا، في زيتا وفي البابلية شاهداً على صداقةٍ دائمة بين عائلتينا، منسوجة بحبال ملونة، مطرزة  بإبرِ مصنوعة من فِضّة القلوب، ومجدولة بخيوطٍ من الحلمِ والجدلِ و”المآحرة “ِ والسهرِ والسلوى.

وبقدر ما كنت لا تخلف مواعيدك مع الرفاق لم تكن لتخلف الوعدَ مع موني ومايا. وبقدر مثابرتك على مسيرتك النضالية الطويلة  كنت مثابراً على رعايتهما، وعلى محاولة تأمين عيش ٍ رغيدٍ لهما يعوضهما ويلات ومآسي الحرب الأهلية التي ولدا وشبّا في آتونها. وقبل كل ذلك كنت يا صديقي مشبعاً بحب الحياة، تستقبل نهاراتها كل صباحٍ بأبهى حُلّةٍ، وبما يليق بإشراقاتها من لباس وهندام، وتودع مساءاتها بما يليق بها من أنس وسمر وسهر. كان استقبالك ووداعك لنا، لكل الرفاق والاصدقاء والضيوف، وفي كل مرة، علامة فارقة. كان آسراً وفي غاية اللطف واللياقة. حتى لَيَصحُّ فيكَ القولُ أكثر ما يصحّ: “يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنتَ ربُّ المنزلِ”. تودعنا نظراتك الحانية حتى آخر منعطف. وحتى في عَتَبِكَ، الذي لا يعدو أكثر من كلمة يا شيخ! كنت لا تغادر حدود اللطافة. وكلما كنا نحن أصدقاؤك نَتَفَلّتُ من عاداتٍ وسلوكياتٍ، كنت تفيضُ علينا مما جُبِلتَ به من لطف ودماثة ولباقة ولياقة.

مضى عام ٌ على تواريكَ. فأنت لم تَغِبْ إلا عن ناظِرَيْنا. لم ينقطع حبلُ تواصلنا، استمرَّ تواردُ أفكارنا، تبادلُ قِصصنا، مروياتنا، أحاديثنا وحوادث الزمان معنا وعلينا. أتذْكُرُ يا صديقي آخر لقاء لنا وقد شاء القدر أن يكون على مسافة يومين من تواريك عنا. كنت تُسِرّ إلي بمكنوناتك. وكان هذا عهدي بك دائماً إلا يومها. ومع أنك كنت بكامل بهائك وهدوئك وإشعاعك فإن الكورونا اللعين كان قد وجد طريقه إلى قامتك العالية. بقينا وقتها، غافلين، نتذكر. تذكّرني وأذكّرك.

وقد ذكّرتني يا صديقي بأننا  “كنا نجلس فوق الرصيف على ساحة الأقحوانة..”ونحلم”. نعدُّ الحمامات واحدة .. اثنتان … والفتيات اللواتي تخاطفن ظل الشجيرات فوق الرخام “ونحلم”. تكسرت أحلامنا، تفرقت دروبنا، مرّ خريفٌ على خريف أعقبه شتاءٌ على شتاء ولم تنكسر. امتشقت هدوءك وقوة حجتك وصوتك الواثق والرائق سلاحاً بوجه الأعاصير. مَلَكْتَ هِمّةَ العشرين، رجحانَ الأربعين وأناقةَ الستين. دعوتني إلى أن نعود إلى ساحة الأقحوانة، نعدُّ الحمامات، نعدُّ الفتيات، ونستعيد تاريخنا. وقلت لي “لا لم يمر الخريف علينا ولا زلنا في نضارة الربيع ليستمر الحلم”.

ومن منصتك الضوئية وعدتني ووعدت الجميع “بانك ستكون قريبا بيننا ومعنا في مرمى لا كوفيد 19” وليس من عادتك ان تخلف الوعد.  مر خريف ٌعلى خريف، أعقبه شتاء ٌ على شتاء ومضينا ومشينا معاً ولم تنكسر. فَجْرُ ٧ كانون الأول ٢٠٢٠  حلّ الصقيعُ. انكسرنا، نحن أصدقاؤك، وقد توخّى حِمَامُ كورونا واسطِةَ عَقْدِنا وتركنا هائمين مبعثرين.

 

 

 

Leave a Comment