ثقافة

“وشوشات” عايدة سلوم… وميضُ ألوان وحقول إشارات

مهى سلطان*

                        الفنانة عايدة سلوم

هي حقاً “وشوشات”، تلك الضربات اللونية المتتالية التي تملأ فراغ اللوحة بالهمس واللمس، حتى لتبدو مثل أرضٍ محروثة بتوقيعات الريشة وعصب اليد. إنه ليس فراغاً عادياً لفرط ما هو مأهول بالأصوات الداخلية التي تجد مكانها على ملوانة الفنانة عايدة سلوم، في نتاجها الأخير الذي تعرضه في غاليري جانين ربيز (الروشة، حتى 18 آذار/ مارس).

بعد غياب طويل عن المعارض الشخصية، تعود سلوم كي تطل من جديد بوشوشاتها التي جاءت بعد الصمت، بعد الحزن والألم، بعد الانهماك والانشغال، كولادة جديدة ،هي بمثابة إعادة بناء الذات، من عمق دواخلها ومكنوناتها وحواسها وارتجالاتها.

“أرسم كي لا تفقد يدي ذاكرتها، كي لا أرتجف كعصفور مبلل في سماء مدينتي بيروت”، تقول الفنانة في سياق استرداد ما تملكه من لغة الشعر في الفن، اللذين لا ينفصلان بعضهما عن بعض في التأويل البصري لأعمالها التجريدية، كونها آتية من أوهام الطبيعة وغاباتها وأوراقها وخريفها. وهي تسعى الى تفكيك الطبيعة وإعادة بناء اللوحة بعيداً من واقعيتها الأليفة، بمناخات هي من صيرورة الخيال الشعري واستعاراته التي تشكل فضاءً لا يعرف شمساً ولا قمراً ولا أفقاً واحداً لأنه مسطح بسيط المظهر كثيف الوشوشات، ليس إلا سماءً غائمة رمادية، تخبئ أمطاراً ورعوداً وبروقاً وآهات.

من هذا المقترب التجريدي الشعري بامتياز، تظهر أعمال عايدة سلوم على جانب كبير من الاحترافية والنضج والخصوصية، لا سيما أنها حررت اللون من لغة الوصف المباشر للعين، الى لغة التعبير عن خلجات النفس، هي لغة الأثير اللوني، والحركة السريعة التنقل، والضربات القصيرة المتلاحقة والآهات المتواصلة مثل الأنفاس. إنها لغة بصرية ولمسيّة إشاراتية حافلة بالنبض الداخلي والارتعاشات، التي تشبه أوراق الأشجار وهي ترتجف في برد الشتاء، وتعصف بها الريح قبل أن تنثرها في زوبعة أعاصيرها.

أوتاد الذاكرة

لعلها العاطفة الجياشة تلك التي تُمطر اللوحة بطبقات من الألوان، تغمرها بكليتها بزخّات خفيفة، ثم لتقابل هذا الامتلاء اللوني الأقصى، خطوط مثل سكك أو طرق متقاطعة محيّرة طولية وعرضية متشابكة على سطح من بعد واحد، إذا وقفتَ أمامها تلوح في ذاكرتك من بعيد آخر لوحة رسمها بول كلي Klee “طرق أساسية وطرق فرعية”، بفارق أن خط الأرض الذي وقف عليه كلي حائراً بين الدروب، مفقودٌ في مسطح عايدة سلوم التي نفت مبادئ الجاذبية الأرضية، كي تحوم لوحاتها غالباً في فضاء مطلق وغامض ومتشابك. بل إنها ذهبت الى الموجات التجريدية الأكثر تصعيداً في لغتها الإشارية – اللونية، التي تتراءى أحياناً في أعمال هنري ميشو حين سعى الى اللاوعي في استنباطه للشعر المتحقق في التجريد، غير أن الكتابة اللونية ليست وحدها المبتغى الكليّ لعايدة سلوم، التي لجأت الى قوام قضبان خطيّة قاسية وقاطعة، سواء بالرسم أو بالتلصيق لقِطع الشاش، كي تفصل المساحة عمودياً ومحورياً في لعبة التأليف التي تسعى الى قطع رتابة حقول الوشوشات وتردداتها بأوتاد الذاكرة.

هذا المزج بين المساحة المشغولة باللمسات اللونية مع ما يعترضها من خيوط وزيوح، هي أقرب الى التعبيرية التجريدية لفكر مارك توبي ونهجه التأليفي، سواء بكتابته البيضاء المسطحة، أو في تآليفه العمودية التي ترتكز على تعامد سطح لوني مع خط الأرض، خصوصاً أن عايدة سلوم تميل الى التدرجات النغمية للون الواحد، والتوافقات والتركيبات التي تتناسب مع أعماقها الروحانية.

فالنسيج اللوني – الإشاراتي، الذي تحوكه حدسياً يبتعد عن انفعال الأكشن (بوللوك وسام فرنسيس)، ولو اقترب منه بصرياً من حيث المظهر. إذ إن الاختلاف يكمن في طريقة الرسم والإعداد والتفاعل الجسدي، لأن الفنانة تقف أمام قماشتها (على طريقة توبي) ولا تطرحها أرضاً، ولا تستعمل تقنية الصب اللوني، بل تتمسك بأدواتها التقليدية وألوانها المأخوذة من الباليت.

ذلك الاختلاف يحتم بالضرورة التغاير في النتائج البصرية للعمل الفني، لا سيما في بؤر النظر ومساقط الرؤية. فهي تبدأ كما تقول “بضربة فرشاة لتنتهي إليها، وفيها نقطة تلو النقطة وضربة إثر ضربة كمن ينقر على وترٍ واحد، كي تخبئ مئة صوت ومئة لون، كمن يكتب كلاماً فوق كلام، كذلك تضع لوناً فوق لون آخر، فتنسج حياة ثانية للضوء والظلال، الى أن يصبح الملمس كثيفاً والوجود خفيفاً، ويكون المجاز بهجة الإيجاز”.

وفي هذا الجريان تُعاد كتابة المساحة وتشكيلها وصياغتها بنثر بصري يلامس حركة الحياة في الأشياء والتوق إليها، حيث ينبت الضوء من المادة اللونية وحيث يتجاوزها. إنه الضوء الخفي الذي يلتمع من موسيقى اللون المنبثق من تحت السطح اللوني، أو جلده، وبين ثناياه، حتى ليبدو قطعة من سماء مليئة بالنجوم.

كان ثمّة أشجار

لا تتخلى عايدة سلوم كلياً عن مرجعية الطبيعة، بل تكتفي ببعض مفرداتها، تستوحيها بوصفها شكلاً جمالياً دالاً على مدى العزلة والكآبة والتقشف. ذلك ما يبدو واضحاً في التجارب التي تعود إلى أعوام 2015- 2018، حين رسمت جذوع أشجار وحيدة فوق سطح متحرك ومضطرب من بُعدين، قبل أن يدق الموت الباب وتقتلع الريح الشجرة من جذورها، كانت تخيم الألوان الرمادية والسوداء على المشهد اللوني، الذي يوحي بأن ثمة أرضاً وثمة سماء، وبينهما عذاب الوجود، ثم تتوارى الطبيعة حتى لم يعد منها سوى نظام هندستها الخفية، لم يبق سوى جذع وسماء وضباب وإشارات ذبذبات عابرة. ومع تقدم التجارب (2021) أضحت اللوحة مكونة من سطح واحد متعدد البؤر والحافات والإيهامات، من فيض ارتجالات وتأملات، وراحة اللعب بحرية على أرض الأحلام. هكذا أضحت اللوحة بيتها وهواءها وملعبها ودربها: “كما لو كنت مرآة، كما لو كنت امرأة تنصت الى صوت ذاتها العميق”، هكذا هو البوح بين إظهار وإخفاء، فهي لا تبتغي أن تكتب أكثر من إشارات لونية هي أصوات، بل عالم مبهم من التفاصيل التي تنشئ سطحاً لونياً كثيفاً ورجراجاً متحركاً رغم أنه ثابت، أثيرياً متطايراً في الكونيّ، ولكنه مستقر، كثير الإيهام، مجرّح بالخطوط والزيوح والعلامات هي من أثر الزمن وتبصيماته على سطح الذاكرة.

* يستمر معرض الفنانة عائدة سلوم “وشوشات” في غاليري جانين ربيز (الروشة، حتى 18 آذار/ مارس).

 *نشرت المقالة في النهار العربي بتاريخ 27 -02-2022

Leave a Comment