صحف وآراء

قراءة شرقْ أوسطية في التأزم الأوكراني: المهانة الروسية أو تجدد الغضب الخطِر للوطنية الروسية

جهاد الزين*

كان جيلي الذي أفسد الصراعُ العربي – الإسرائيلي حياته وحياة بلدي لبنان والمنصرف بكليته، تارةً خطأً وطورا صواباً، في دعم #الشعب الفلسطيني المنتقل من خسارة إلى أخرى، والذي” ستنكسر البلاد على أصابعه كفخّارِ” كما يقول محمود درويش… حتى هذا الجيل الذي كان معتاداً على هزائم من نوع آخر، كان يشاهد الانهيار السوفياتي ويستجمع فتات سفريات وذكريات إلى الاتحاد السوفياتي التي صار شيوعيو بلاده أشبه بوكلاء سفر إلى مناطقه الشاسعة وجامعاته… كان يشاهد هذا الانهيار، وكأنه انهيار جغرافي سيُبعِد “من الآن فصاعدا” بلاد ال#روسيا عن الشرق الأوسط إلى “قارة” سياسية وعسكرية أخرى….

وسيتابع جيلي، صوَرَ الأشرطة المتلاحقة للانهيار السوفياتي، ويشاهد وجه ميخائيل غورباتشيف آخر أمين عام للحزب الشيوعي السوفياتي على منشور دعائي ألماني التقطه عن قارعة الطريق في برلين لماركة مأكولات سريعة، بعدما استخدمت شركة الإعلان البرلينية في برلين الموحدة شبيهاً ألمانياً لوجهه. كذلك سيشاهد لاحقا في واشنطن وريث غورباتشيف السكِّير بوريس يلتسين على شاشة التلفزيون مع الرئيس الاميركي “الجديد” بيل كلينتون، والأخير يتعامل مع يلتسين باعتباره حالة طريفة، فينفجر بالضحك، كلما قام يلتسين بحركة من يده أو فمه، حتى بلغ بكلينتون الأمر أن انحنى ممسكا بخصره، لكي يتمكّن من السيطرة على نفسه أمام هذا الرئيس المسخرة. الرئيس الذي أخرج غورباتشيف من السلطة مطروداً أو شبه مطرود.

لم تكن هذه مشاهد مسرحية فقط حصلت بالصدفة، بل كانت تعبيراً عن مسلسل بادئ من الاستهانة بروسيا ما بعد الشيوعية، فيما كانت طلبات الدول المستقلة حديثاً هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا في أوروبا الوسطى، تنهال على مقر حلف شمال الأطلسي للالتحاق بعضويته، فيما الحروب الأهلية الضروس تندلع في يوغوسلافيا السابقة.

رغم وجود ظاهرة الامتنان الشعبي العميق حيال #الولايات المتحدة الأميركية في دول مثل بولونيا وهنغاريا، والدولتين الجديدتين تشيكيا وسلوفاكيا وغيرها تجاه ما اعتبرته شعوبها ونخبها فضل أميركا في تحريرهم من النظام الشيوعي والاحتلال السوفياتي، وهي دول أصبحت بعدوى الامتنان التحريري ذات علاقات متينة جداً مع إسرائيل، ويمينها الليكودي الصاعد يومذاك، إلا أن المراقب، وتحديدا في الشرق الأوسط ، كان يُذهَل من الإمعان الأميركي في متابعة الهجوم السياسي على روسيا حتى بعد الانهيار المدوّي. بسرعة أراد الغرب، بل بتسرّع،أن يفرض الوقائع الجديدة، ولاسيما نشر أسلحة حلف الناتو داخل أقرب الدول جغرافيا لموسكو مثل #أوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق. وخصوصا تلك المنخرطة عميقاً في العالم الأرثوذكسي، وفي التاريخ الروسي كأوكرانيا “مهد الأمة الروسية” كما سيسمّيها ألكسندرسولجنتسين في أحد أبرز الاحتجاجات على تلك السياسة الغربية.

كانت سلسة من المهانة والاستهانة بروسيا تتواصل، بتشجيع معلن من واشنطن، بل باستخفاف سيستمر حتى عام 2008، حين سيفاجِئ القائد الروسي الجديد فلاديمير بوتين الذي كان قضى بحزم على التمرد الشيشاني، وقد بلغ التفكك داخل روسيا ذاتها، ليبدأ مسار وقف الاستهانة بمكانة روسيا الأوروبية والعالمية، فيما كان يدافع في العمق عن مكانة إقليمية، وليس دولية للدولة الأكبر مساحةً في العالم حتى بعد خسارتها مجموعة جمهوريات تبلغ مساحاتها حوالي سبعة ملايين كيلومتر مربع.

كانت الخطوة الثانية عام 2015 في التدخل العسكري في سوريا. وهو تدخّل غاية في الأهمية والدلالات ولو لم يكن بأهمية التدخل في جورجيا، وطبعا اليوم في أوكرانيا الأكثر استراتيجية من كل ما سبق بالنسبة لموسكو.

لقد وصلت مفاعيل المهانة الروسية والرد عليها إلى قلب الشرق الأوسط مع التدخل في سوريا. فهمنا ما لم نفهمه سابقاً، أو على الأقل ما توجّسنا ببعضه.
فهمنا دفعةً واحدة أو على دفعات:
إن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية هي شريكة، بل محرض أساسي في الوطنية الروسية التي يقودها الرئيس بوتين.

إن منطق الدولة العميق في الدفاع عن روسيا ضد التيار الأصولي الإسلامي، بات يشمل الكنيسة ونظرتها إلى الوضع في منطقة المشرق العربي.
التواجد العسكري الروسي على البحر الأبيض المتوسط، هو فرصة استقرار روسية في “المياه الدافئة” في قلب الشرق الأوسط.
إن القيادة الروسية أصبحت حليفة لإيران،

إن العلاقات الروسية الإسرائيلية الجيدة رغم الكثير من التعقيدات قابلة لتفاهم دقيق، الجزء الأهم فيه أن موسكو تعتقد أنها تستطيع ان تحقِّق هذا التفاهم، وأن للجماعة اليهودية الروسية دوراً بارزاً في ذلك، وهي التي أصبحت تناهز مئات الألوف داخل إسرائيل من مجموع السبعة ملايين يهودي إسرائيلي ونيّف. وأن هذه “الجالية” الروسية عامل تعتبره قيادة “الليكود” واليمين الإسرائيلي عموماًعنصر ضمان لتفهّم موسكو لمصالح إسرائيل رغم الاختلافات الثابتة.
إن روسيا باتت تنظر إلى حركات “الربيع العربي” على أنها جزء متمم أو مماثل في النمط والقيم والتوقيت من الهجوم الغربي الداخلي عليها وعلى الصين وعلى إيران، لتغيير أو إضعاف نظام الرئيس بوتين والنظامين الإيراني والصيني. كان الوضع متشابها في نظر القيادة الروسية بين مظاهرات تيان أن مين في بكين والساحة الحمراء في موسكو وجامعة طهران في طهران التي انطلقت منهاالاحتجاجات الطلابية عام 2009.

قالها بوتين وكرّرها مراتٍ ومراتٍ، وهي أن روسيا لن تقبل عضوية كييف عاصمة أوكرانيا في حلف الناتو. ولكن حلف الناتو لم يعط التطمينات الكافية للتراجع، بل بقيت كل الإشارات الآتية من أوروبا ووراء المحيط مثيرة للقلق الروسي، وكان ينبغي الفصل بين تأييد الغرب لنظام سياسي جاءت به حركة تغيير شعبية، وبين عضويته في منظمة حلف شمال الأطلسي، بحيث أن غربية النظام لا تعني عضوية الحلف تماماً مثل وضع فنلندا .

وما لم نفهمه لماذا تباطأ الغرب في تقديم الصيغة الفنلندية، رغم التجربة التاريخية الناجحة للحياد الفنلندي خلال الحرب الباردة؟

جيلي الذي تشغله حالياً معضلات الإسلام السياسي الأصولي التي ضربت طموحاته إلى دول تفصل الدين عن الدولة، وتسمح بعلاقات ديموقراطية وحديثة، ظنّ أن عبء الصراع العربي الإسرائيلي الذي أتى بأسوأ أنظمة حكم في المنطقة العربية بسبب أولوية شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” والذي ورثه مشروع التوسع الإيراني عبر الجماعات الشيعية العربية، واستمرار العامل الموضوعي الناتج عن الاضطهاد الإسرائيلي الممنهج للشعب الفلسطيني…. ظنّ هذا الجيل أن بإمكانه تجاوز هذه العوامل جميعاً في لحظة دولية ما، بإطلاق الشعار الديموقراطي، فإذا به يعود ليكتنز في خبراته الطويلة تجربة الانفجار الخطِر للغضب الروسي المعاصر الذي سبّبه الإمعان الأميركي في الاستخفاف بالوطنية الروسية.

الآن تطورت الأمور إلى درجة خطرة في ما نشهده حاليا من بدء تنفيذ روسيا لتهديداتها. وإذا تذكّرنا أن مساحة أوكرانيا التي هي أحدى خزانات العالم الأساسية من القمح هي أقل قليلا من مساحة سوريا والعراق مجتمعتين، نعرف أن مفهوم الدولة “الصغيرة” يمكن في صراع العمالقة الدوليين أن يشمل دولاً أكبر بكثير من لبنان من حيث المساحة الجغرافية (كما هي أيضا أفغانستان التي تتسع قليلا عن أوكرانيا)، وإن السماح باللعب على خطوط الصراعات الكبرى هو دائما مدخل نكبات. وهذا ما يدفع ثمنه الآن الشعب الأوكراني، أياً تكن الزاوية التي نظرنا منها إلى الموقف الراهن.

بعد حوالي قرنين على رؤية المفكر الفرنسي أليكسس دو توكفيل في كتابه “عن الديموقراطية في أميركا” المكتوب في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر لكون الصراع الأميركي الروسي هو حقيقة المستقبل، تستمر روسيا في أن تكون ظاهرة أساسية في الصراع الدولي، حتى لو بدت متجاوَزة على مستوى الاقتصاد بالصراع الأميركي الصيني ،وحتى لو لم يظهر أليكسس دوتوكفيل للظاهرة الصينية الأميركية، إلا إذا اعتبرنا أن هنري كيسنجر هو توكفيل الجديد في كتابه “عن الصين”. ولكن كيسنجر (إلى جانب ريتشارد نيكسون) صانع سياسات أكثر منه توكفيل، ولو شغل الإثنان منصب وزير الخارجية لبلده.
حتى لو كان الرئيس فلاديمير بوتين قد اعترف في بدايات عهده وفي موقف شهير أن القمع السوفياتي لانتفاضات ألمانيا الشرقية والمجروتشيكوسلوفاكيا في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم كانت “أخطاء” كبرى أدّت إلى تعزيز موجات العداء لروسيا في أوروبا والعالم، فإن السياق الحالي للصراع على أوكرانيا مختلف على أكثر من مستوى في أوروبا والعالم. فتلك الانتفاضات بدت محاولات تحررشعبية من الحكم الشيوعي السوفياتي أدّت إلى إضعاف مصداقية الأنظمة الشيوعية، واستنكار أبرز مثقفي أوروبا وابتعادهم، وبعضهم كان شيوعياً، عن الفلك السوفياتي.

اليوم يبدو الأمر أكثر هجوماً غربياً جيوسياسياً متجدداً على روسيا وعند “بوابات موسكو”، وحصيلة سياسات استهانة ومهانة بحق روسيا كما يرى التيار الأوسع من الشعب الروسي.

في أزمة بولونيا في أوائل الثمانينات استفاق العملاق المسيحي الكاثوليكي ضد الاتحاد السوفياتي، وفي غزو أفغانستان في نهاية السبعينات استفاق العملاق الإسلامي الأصولي (الثورة الإيرانية والجهاد الأصولي الأفغاني) ضد الاتحاد السوفياتي. السؤال الموضوعي هنا : هل من عملاق مختبئ الآن تحت التراب الأوكراني، لكي يكون الأمر شبيها بالغزوات السابقة؟
الذي استفاق هو عملاق الوطنية الروسية الجريحة.

*نشرت في صحيفة النهار في 26-02-2022

Leave a Comment