مجتمع

واحد وأربعون عاماً معاً على درب جلجلة عدنان حلواني

جمال حلواني

بيروت 23 أيلول 2023 ـ بيروت الحرية

24 ايلول 1982 هو اليوم الذي خُطف فيه عدنان حلواني من داخل منزله الكائن في رأس النبع ـ بيروت. المنطقة التي وُلد فيها، وتربى في كنفها، وانطلق منها فعاش مراهقته وشبابه داخل حرم الجامعة اللبنانية ـ كلية التربية. ثم تحوّل بيت أهله  في رأس النبع إلى فرع للجامعة ، معه وبحضوره تحوّل محجاً يومياً لكل عارفيه من رفاق وأصدقاء ومحبين. أم عدنان  كانت متأهبة دوماً لإستقبال الزائرين، مرحبة وحاضنة بقلبها الواسع وصدرها الرحب الممتلئ بحب أبناء وطنها ومدينتها.

كبر إبن رأس النبع والمدينة، واصبح شاباً ينبض بالحب والفرح، معلناً زواجه من أيقونة عمره. تزوج من رفيقة دربه وداد وسكنا في المنطقة التي أحبها ولم يستطع مفارقتها ابداً، وما اصعب أن يكتب لوداد وللمنطقة أن يلقيا على عدنان نظرتهم الاخيرة يوم سيق إلى المجهول.

الاولاد كبروا أيضاً في نفس المكان الذي ترعرع فيه عدنان، ثم ما لبثوا أن غادروا بنتيجة ظروف الحياة وصعوباتها، وجراء الحروب المتتالية التي شهدتها المنطقة قبل اتفاق الطائف الذي فرض على العائلة نزوحاً من البيت على أمل العودة اليه مجدداً.

24 ايلول 1982، هو التاريخ الذي فرض علينا الخطوة الاولى على درب الجلجلة، حيث شهدنا سقوط واحد واربعين ورقة من رزنامة العمر، وما زالت تسقط منا بقية أوراق أعمارنا، آباء وأخوة وزوجة وأبناء وأحفاد والجواب على سؤال المصير ما زال مجهولاً..

السنين تخطو مسرعة، والمأساة تكبر، ووحدها وداد لم تهدأ، باكراً خطت خطوتها الاولى نحو المحكمة العسكرية للقاء عدنان بعد خطفه مباشرة، بناء على ما اجابوا به الخاطفون: لوين آخذينو؟ إلى المحكمة العسكرية للتحقيق معه بشأن “حادث سيارة”.

وحين قابلت المدعي العام العسكري كان جوابه: إن عدنان حلواني ليس موقوفاً عندنا. في هذه اللحظة دخل رعب الغياب الحقيقي على المشهد، عدنان اختفى وتبخّر من الأمكنة، وقطع الخيط المفترض تتبعه. وبدأت تسود حالة من التشتت وعدم الفهم والاستيعاب.. ماذا جرى؟ سكن الظلام شمس عدنان، ورياح القلق والخوف تحيط بالعائلة والاهل.

هنا دخلنا عالم التساؤل وتجميع الاوراق، والملف يزداد حجماً، وانطلقت مسيرة البحث، نظمت العديد من الزيارات إلى مسؤولين في السلطة، شملت رؤساء للحكومة، ووزراء، ونواب، ومفتي الجمهورية و…، كانت اجاباتهم تعمّق الجرح، وتقتل الامل: نتفهم الموقف الانساني لكن لا معلومات لدينا ولا نستطيع فعل شيء.

خلال مسيرة البحث عن عدنان، وقبل ان يبعد جسده كثيراً بادرت وداد حلواني إلى اطلاق نداء عبر الاذاعة لإلتقاء آخرين يعيشون نفس الألم. حضر مئات الاشخاص، وكان معظمهم من النساء. بدأت قضية الخطف والفقدان تتراكم، وتحضر من كل لبنان إلى داخل حياة وداد، وبدأ اهالي المخطوفين بتنظيم وضعهم. تشكلت لجنة اهالي المخطوفين وضمت عشرُ نساء. بعد سنوات من النضال الدؤوب والنزول الى الشارع والتظاهرات والاحتجاجات وتسكير المعابر قبل اتفاق الطائف والتهديد من السلطة  بالمباشر والواسطة إلى لجنة الاهالي ولوداد حلواني شخصياً، لم تخضع اللجنة للتهديد. استمرت في النضال من اجل ما رسمته من اهداف أولها عدالة قضيتها. ووقفت بصلابة امام ما تعرضت له اللجنة من محاولات استغلال سياسي عبر الكثير من القوى السياسية. نجحت اللجنة في الثبات على حياديتها واستقلاليتها ونزاهتها السياسية والمالية، وبقيت على الدوام بعيدة عن الانقسامات الطائفية والمذهبية والسياسية. كان مصدر حصانتها، أن “المخطوفين والمفقودين هم ابناؤنا، هم اخوة لنا في المواطنة، دون النظر إلى وضعهم الاجتماعي أو هويتهم الطائفية والمناطقية وإنتماءاتهم الفكرية والسياسية”.

تحركت اللجنة في كل الاتجاهات، ولم تترك مسؤولاً في السلطة أو الاحزاب الطائفية المعينة بالخطف الاّ وزارته. لم تحصد من هؤلاء جميعاً سوى التهرب من المسؤولية ورميها على الجهات الاخرى. لكنها لم تيأس، فنظمت احتجاجات ومسيرات وعرائض ارسلتها إلى الأمم المتحدة، وجمعيات تعنى بالخطف، واخرى بحقوق الانسان، والصليب الاحمر الدولي.

السلطة اللبنانية أقفلت آذانها، ولم تقف امام وجع والعائلة وما اصابها بغياب عدنان، بل قررت “مكافأته” واتخذت قراراً قضي بعدم صرف راتبه كاستاذ لمادة التاريخ في ثانوية رمل الظريف، بحجة أن الاستاذ حلواني غائب ولا يداوم في عمله، رغم تبلغهم ومعرفتهم بعملية الخطف التي تعرض لها.

وحين تشكلت حكومة الرئيس سليم الحص وهي اول حكومة بعد انتهاء الحرب الاهلية بالمعنى  المفترض رسمياً، مسؤولة عن معالجة مفاعيلها السياسية والاجتماعية، ونزع الغامها وأولها قضية المخطوفين والمفقودين قسرا منذ بداية الحرب الاهليه سنه 1975 إلى سنة 1990. توهمنا أن هذه الحكومة سوف تشكل فريق عمل أو لجنة مهمتها الوحيدة متابعة موضوع الخطف وإجراء تحقيقات فعلية وجادة لمعرفة مصير ألآف المفقودين، وتحقيق العدالة الاجتماعية بحل قضية المخطوفين وانصاف الاهالي كونها من اولوياتها.

ولكن المستغرب أن السلطة ساوت القاتل مع الضحية، من خلال مطلبها الذي كان بمثابة الرصاصة القاتلة للضحية والاهالي. لقد طلب مجلس الوزراء من اهالي المخطوفين اعلان وفاة اولادهم وابنائهم. كان واضحاً أن السلطة تتهرب ولا تريد تحمّل المسؤولية السياسية والقانونية والاجتماعية. كان همها تفادي الضغوط التي يمارسها الاهالي والمجتمع الدولي عليها، من أجل تشكيل لجان تحقيق فاعلة بإمكانها تحديد مسؤوليات  بعض الجهات المعنية، لأن أكثرها  بات  يحظى بنعيم السلطة.  كان جواب لجنة الأهالي واضحاً وصريحاً ومشروطاً: أحضروا أولادنا أو عظامهم حينها نعلن لكم وفاتهم.

بعد 36 عاماً من النضال المتواصل تم اجبار السلطة على اقرار قانون يحمل الرقم 105 الصادر عام 2018 ليتحول نقطة انطلاق لتشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرأ.  شكل القانون اعترافاً ضمنياً بأحقية مطالب الاهل بجلاء مصير ذويهم الذين اختفوا على حواجز الاطراف المتحاربة، أو خطفوا من بيوتهم بسبب هويتهم الطائفية أو السياسية، أو جراء الاقدار السيئة  التي  قادتهم إلى طرقات ظنوا أنها سالكة وآمنة خلال جولات الحرب الأهلية.

أما صلاحيات الهيئة الوطنية للمخطوفين والمخفين قسرا  فقد إقتصرت على تحديد مصير الاشخاص المختفين من دون تحقيق العدالة الجزائية. وهي معنية بحماية الشهود لتشجيعهم على تقديم المعلومات والمحافظة على سريتها وتوفير الموارد البشرية والمادية اللازمة والحوار المستمر مع الاهالي.

وأمام حجم المعاناة وخيبات الامل التي عاشها الاهالي في اول سنوات تشكيل اللجنة من خلال اللقاءات مع المسؤولين، والوعود التي اطلقوها ولم ينفذ أي وعد منها، بل اشتهرت تجارة المخطوفين في عهدهم، حيث يؤكد احدهم وجود المخطوف وبمبلغ من المال نستطيع اخراجه. لأي كان أن يتصور حرقة قلب الاهل حين يتبين أنهم كاذبون، وأن وعودهم الكاذبة مصدر كسبهم المال، وهذا اقصى وابشع الممارسات ضد الانسانية والاصعب انهم باتوا من جماعة اهل السلطة.

استمرار شعلة القضية مضيئة مسؤولية كبيرة، ورايتها لن تسدل. عهداً ووعداً قالته كل المشاركات في جميع المناسبات.  في نشاطات وحركة اهالي المخطوفين والمفقودين تشاهد نسبة اعمار المشاركين يغلب عليها حضور كبار السن من زوجات أو أمهات، آباء فقدوا ابناءهم،  كما ابناء المخطوفين باتوا في عمر الرجولة  والنضج مصطحبين اولادهم من اعمار صغيرة إلى سن المراهقة. اهالي المخطوفين لم ييأسوا، بل لقنوا اطفالهم حب آبائهم واجدادهم، وحملوهم قضيتهم. وما اثقل قضيتهم ومفاعيلها في العمر الصعب والزمن الاصعب، رغم القهر والدموع على فقدان الحبيب. ما هذا الامتحان الصعب على التحمل والتحدي، من اين جاء هؤلاء النسوة بهذا القدر من الشجاعة والصلابة ليستمر تحديهن واحداً واربعين عاماً؟ ما اجملهن وهن يشددن ازر بعضهن البعض. وحين تموت احداهن مئات النساء يبكين على فقدان عزيزة حملت معهن أعباء القضية. مع ذلك يستمر الاهالي في دأبهم ونشاطهم في زمن التخلي والنكران.

منذ ايام قليلة عثر على رفات اثنين من المقاتلين فى بلدة مدوخة في منطقة راشيا. ارتفعت الاصوات مهللة تأمل أن يتم العثور على المزيد من المقابر الجماعية، قسم منها معروف مكانها وتحديداً في بيروت وبعض المناطق. لكن ضغوط  بعض  اطراف  الحرب الاهلية العبثية، المشاركة في السلطة السياسية التي تضم احزاب الطوائف المتورطة في الخطف، منعوا القيام بالبحث تحت حجج واهية، مفادها أنكم تسعون إلى تجديد خطاب الحرب الاهلية. وهي التي تحول دون تحمل الدولة مسؤوليتها في معرفة مصير ابنائها، سعياً منها للتخلص من شبح المحاسبة  والمساءلة وتبعاتها المستقبلية على كافة الصعد السياسية والاجتماعية والمالية، مما يؤثر على تركيبة السلطة وتحالفاتها، فكان خيارهم دفن قضية بحجم البلد، ولكنها ستبقى مشتعلة سنوات وسنوات طويلة مثلما حصل في العديد من البلدان في اميركا اللاتينية وبعض الدول الاوروبية، حيث سقطت رؤوس كبيرة وتم محاسبتها وانتهى بها الامر إلى السجن.

والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم وبعد مرور اربعين عاماً على تشكيل لجنة اهالي المخطوفين والمفقودين قسراً واربعة أعوام على إقرار تشكيل الهيئة الوطنية التي لم تبدأ عملها بسبب تقاعس السلطة لأسباب عدة جلية وواضحة.

ما هي المهام الملقاة على عاتق اللجنة بعد اليوم؟

طوال أربعين عاماً لم ولن تكل أو تمل لجنة الاهالي في التذكير والتحذير والنضال والمشاركة في المؤتمرات داخلية وخارجية لرفد مشروعها وقضيتها لإنصاف الاهالي وإنزال الضحية عن المقصلة التي تنحرها كل يوم.

السؤال كيف نمنع تجديد حرب اهلية جديدة تلّوح بها القوى الطائفية بمختلف مذاهبها وقواها السياسية، أليس ما يجري هو حروب اهلية صغيرة متنقلة حسب حاجة وتوازنات القوى المتداخلة، حروب مدارة داخليا من موقع الارتهان السياسي لقوى اقليمية ودولية. كيف نحول الخطاب الاهلي السياسي ضد استعادة الحرب الاهلية؟ هذه مسؤولية المجتمع عامة، ولم نر خلال الاربعين عاماً الماضية أي قوة مجتمعية أو سياسية من الاطراف المتخاصمة والمتنازعة خطوة عملية واحدة تمنع عنا شبح الحرب الاهلية. أو على الاقل  التخفيف من شد العصب الطائفي الذي سيأخد البلد إلى المزيد من الدمار.  حتى انتفاضة 17 تشرين قد غاب عن برامجها واهدافها وشعاراتها قضية المخطوفين والمفقودين قسراً،  لأن بعضهم رأى أن القضية المركزية اليوم هي اسقاط النظام، وأن هذا الملف سيكون  موضع اهتمام ونقاش بعد استلام السلطة. لقد نظروا إلى كل القضايا، لكنهم اعتبروا قضية الخطف تعود إلى زمن الحرب الاهلية، ونحن لا نريد العودة إلى متاهات  في اطار احزابها ولا نريد التورط فيها ثانية. حتى اليسار اللبناني لم يبادر الى تحمل مسؤوليته التاريخية في الوقوف امام حقوق المخطوفين وذويهم، والقيام برفد القضية بدعمه السياسي والاجتماعي وتحويلها الى منبر فاعل، وسلاح يحارب فيه منطق الحرب الاهلية، وكل من يدفع بالبلد الى هذا الخيار، وفي دعم وتحسين شروط التفاوض للجنة الاهالي مع السلطة، دون مصادرة دورها وشطبها  للحفاظ على استقلالية عملها أو تحميلها مواقف سياسية لا تستطيع المجازفة معها.

القضية والمسؤولية وطنية بامتياز، المطلوب من جميع القوى السياسية والمجتمعية التي يهمها مصلحة بقاء البلد والوطن، ايجاد حل عادل  لاهالي المخطوفين والمخفيين قسراً، من اجل دفن منطق ومفاعيل الحرب الاهلية التي شهدها البلد، ووضعها خلفنا، والتوجه إلى بناء الدولة واستعادة مؤسساتها ودورها، ومن اجل ارساء دولة العدالة والمواطنة.

24 ايلول 1982 تاريخ حاضر لا يمكن نسيانه، وخطف عدنان الذي فجر وأسس لقضية المخطوفين والتي عبرت بمظلوميتها اصقاع الارض.

لا.. لن نسامح من اقترف الجريمة. ومن حقنا ان نعرف.

نفتقدك جميعاً.. عائلتك واهلك والاصحاب والرفاق ومنظمتك

وما زلنا نسير مع الرفيق والاستاذ عدنان حلواني عضو المكتب السياسي لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان على درب الجلجلة.

Leave a Comment