سياسة مجتمع

نص الكلمة التي القاها الرفيق زكي طه في ندوة 14 ايلول 2022 تحت عنوان: “من مقاومة الاحتلال إلى مواجهة الانهيار ” لمناسبة ذكرى انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية بالاشتراك مع النائب الدكتور أسامة سعد

تحية إلى كل الشهداء والجرحى والمعتقلين، وإلى جميع المقاومين والمناضلين من كل المنابت والمشارب الفكرية والسياسية، الذين تشاركوا هم الدفاع عن الوطن، ودحر الاحتلال وحمايته والنضال من أجل تقدمه وتطوره.

إن ما يجمع منظمتنا مع التنظيم الشعبي الناصري ليس الانتماء لهذا الوطن وحسب، إنما التزام قضاياه الوطنية والقومية من شتى بواباتها  منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، من بوابة فلسطين وقضية شعبها، الذي لم يتعب من تقديم التضحيات في  مواجهة الاحتلال والتهجير والاستيطان والتهويد، وفي سبيل حقوقه الوطنية المشروعة على ارضه وفيها. ومن بوابة النضال الوطني والشعبي والمطلبي من أجل قضايا شعبنا اللبناني المشروعة، سواء في الدفاع عن الوطن ومقاومة الاحتلال ومواجهة كل اشكال الوصايات والتدخلات الخارجية، أو في سبيل حقوق اللبنانيين وطموحاتهم في أن يكون لهم وطن يعيشون فيه مواطنين أحراراً وليس رعايا وأبناء طوائف.

لن استعيد محطات هذه العلاقة  التي نعتز بها كما مع سائر القوى التي تشاركنا معها النضال في كل ميادينه، سواء مع الشهيد المجاهد العربي الكبير والقائد الوطني والشعبي معروف سعد الذي شكل اغتياله أبرز مقدمات الحرب الاهلية عام 1975 التي لم تزل تتوالى فصولاً، أو مع المناضل القائد مصطفى سعد في كل محطات نضاله الطويل، وصموده على خياراته القومية والوطنية رغم المحاولات المتكررة لاغتياله. ولا في استمرارها مع المناضل  النائب الدكتور أسامة سعد أمين عام التنظيم الشعبي الناصري، وهي العلاقة التي جمعت  قيادات ومناضلي المنظمة والتنظيم في ساحات النضال وجبهات القتال ومقاومة الاحتلال بشتى أشكاله.

نستذكر الماضي لنتعلم منه. لأن تاريخ المجتمعات والشعوب هو تاريخ أزماتها وتجاربها بكل ما فيها من انتصارات وخيبات وهزائم.  ولا يختلف عنه تاريخ الاحزاب والحركات التي تتشكل من  نخب المجتمع  وقواه الحية.  وهي القوى التي يجب أن تُحاسب إذا لم تُحسن الاستفادة من أخطائها، أو إذ أدمنت الهروب من تحديات الحاضر وأزماته، إلى ما كان مجيداً في ماضيها. أما الوجه الآخر للهروب من المسؤولية فهو إلقاء اللوم على الناس، وهم ضحايا السياسات المعتمدة من قبل قوى السلطة، أو الطبقة السياسية الحاكمة والمتسلطة عليهم.

إن المحطات الخطيرة والدامية من تاريخ البلد التي تعبر عن أزمات الكيان والنظام والاجتماع اللبناني أكثر من أن تحصى. وفي امتدادها  كانت ولا تزال خيارات قوى الانقسام الاهلي الطائفي والمذهبي، ولا تختلف عنها القوى الاصلاحية، وما رافقها جميعاً من أخطاء وخطايا الاستقواء والارتهان للخارج، سواء كان شقيقاً أو صديقا أو عدواً.

سأتوقف قليلا عند العام  1982، الذي شهد حرباً مدمرة كان لبنان ساحتها الوحيدة في المنطقة، في ظل انقسام أهلي دامٍ، وتواطوء دولي كامل وصمت عربي شامل. وهي الحرب التي جرت في ذروة تداخل الحرب الاهلية حول موقعه وهويته ونظامه السياسي، وتشابك خيارات قواه المحلية مع  العوامل الاقليمية والدولية في المنطقة المتعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي والقضية الفلسطينية.

إن إخراج قيادة المقاومة الفلسطينية وتنظيماتها ومقاتليها من لبنان، والكم الهائل من الخسائر البشرية والدمار والخراب الذي اصابا لبنان والفلسطينين فيه. لايختزلان نتائج الحرب. لأن الاخطر فيها كان  خضوع نصف مساحة لبنان وعاصمته بيروت للاحتلال الصهيوني.

لقد أتى الرد على الاحتلال انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية  استجابة للنداء المشترك الذي أطلقه القائدان الوطنيان واليساريان أمين عام منظمتنا الراحل محسن ابراهيم وأمين عام الحزب الشيوعي الشهيد جورج حاوي.

نستحضر اليوم تلك المناسبة بعد أربعين سنة ليس لأنها صفحة مجيدة في تاريخ البلد وحسب. بل كونها أرقى محاولة  لتأسيس مسار خلاص وطني ديمقراطي توحيدي، على رافعة مقاومة الاحتلال وكسر قيود الانقسام والحروب الاهلية الموروثة والمستمرة في آن.

وعلى أهمية تلك المسيرة التي حققت الكثير من الانجازات بعمليات ابطالها وتضحياتهم، ونجاحهم في اجبار العدو على الانسحاب  سريعاً  من العاصمة، ثم من سائر المناطق المحتلة والانكفاء إلى الشريط الحدودي. فإنني لست  في صدد العودة إلى وقائع تلك المسيرة للقول قدمنا وضحينا ونفذنا، فهذا كان واجبنا الوطني قيادات ومناضلين، وهو موثق بدءاً  من النداء الاول إلى آخر عملية، ومن الشهيد الأول إلى آخر معتقل أو جريح وهو ملك  الوطن والتاريخ.

إلا أنني أود أن أشير إلى أن الاندفاعة المتجددة للحرب الأهلية برعاية الاحتلال ومشاركته ثم بدعم  النظام السوري والجهات الدولية، كانت أقوى من خيار المقاومة الوطنية، فحاصرت قواها وأجبرتها على الانكفاء وحالت دون تحقيقها كامل اهدافها. أما التحرير الذي أنجزته بطولات وتضحيات مقاومة حزب الله لاحقاً، فقد بقي ولم يزل أسير فئوية  الحزب الذي وظف التحرير في تزخيم الانقسامات الطائفية والنزاعات الأهلية، التي لم تنتهِ مع اتفاق الطائف والنظام الذي انتجه.

وهنا لست بصدد البحث في طبيعة نظام المحاصصة الطائفية المنتج للأزمات وللفساد السياسي وكل ما يأتي في امتدادهما. ولا في تحليل بنية الطبقة السياسية التي تحكم البلد وتتحكم برقاب اللبنانيين على رافعة الانقسام الأهلي، وبقوة صراعاتها وخلافاتها، أو في  تحالفاتها ورهاناتها، وارتباطاتها الخارجية بإسم حقوق الطوائف. ولن استعيد سياساتها  المدمرة والمعتمدة في ميادين الاقتصاد والمال والاجتماع. فهذا معروف للجميع وليس خافياً على أحد. لأن تفاصيله ومفاعيله ونتائجه، هي التي تتحكم منذ سنوات بحياة اللبنانيين. كما تشكل مصدر قلقهم وخوفهم على مستقبل ابنائهم ومصير بلدهم.

ما يعنينا الآن أنه بعد أربعين عاماً نحن أمام مرحلة مصيرية أشد خطورة من العام 1982. تتمثل بانفجار أزمات الكيان والنظام والاجتماع اللبناني، في موازاة الانهيار الاقتصادي والمالي الشامل، بالتوازي مع انهيار مؤسسات الدولة والفوضى الشاملة اللذين اصبحا أمراً واقعاً، يؤكدهما خراب مؤسساتها واجهزتها الادارية وجميع قطاعاتها الخدماتية.

يضاف إلى ذلك فراغ رئاسي وحكومي مستدام بموافقة أكثر اطراف السلطة. واقامة مديدة للبنانيين في الجحيم، كما وعدهم العهد القوي ولا يزال. ومعهما خطر امتداد نيران الحروب  التدميرية المشتعلة في المنطقة إلى لبنان من بوابة ترسيم الحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي. دون نسيان التحذير من زوال لبنان كما أبلغنا وزير خارجية فرنسا قبل عامين.

إن وطننا أمام مرحلة صعبة وخطيرة جداً، والاخطار تهددنا جميعاً في حقوقنا وحياتنا ووجودنا، نحن أكثرية الشعب اللبناني الذين نشكل الكتلة التاريخية أو الشعبية صاحبة المصلحة في  بقاء البلد وتطوره وتقدمة. إننا جميعاً، مواطنون لبنانيين وقوى ومجموعات واحزب وناشطين من دعاة الثورة والتغيير، ومعنا كل النواب الوطنيين والتغيريين والمستقلين والفئات المتضررة، مطالبون اليوم بالاقدام والمبادرة لتحمّل مسؤولياتنا الوطنية بشكل مشترك، ودون تردد في مراجعة أدائنا واستخلاص العبر من تجارب البلد ومآسيه الكارثية، والخروج من الفئويات القاتلة، والتلاقي  لتنظيم أوسع حوار مطلوب حول مختلف القضايا، في سبيل إعادة بناء المساحات المشتركة بين اللبنانيين التي مثلتها الحركة الشعبية والنقابية والديمقراطية. ومن أجل التوافق على برنامج الحد الأدنى لاطلاق مسيرة انقاذية سياسية اقتصادية مالية واجتماعية متعددة الأوجه والميادين، على مستوى الوطن والمدن وسائرالمناطق ومختلف قطاعات المجتمع، برنامج  يستهدف تجميع القوى لإشراكها في النضال لوقف الانهيار، والضغط لتلافي خطر الفراغ وفرض انتخاب رئيس جديد. رئيس يشكل انتخابه نقطة انطلاق لحماية ما تبقى من مقومات الكيان والدولة والمؤسسات، ومن حقوق اللبنانيين في الحياة الكريمة.

ولأننا لسنا من هواة استسهال الأجوبة وتضخيم الشعارات وارتجال الحلول السحرية، أو ادعاء امتلاكها منفردين،  فإننا ندعو الجميع  إلى الاسراع في  تنظيم الحوار المطلوب  قبل فوات الأوان. إن الطبقة السياسية الحاكمة تعرف كيف تدير صراعاتها وتنظم خلافاتها وإدارة شؤون نظامها وتجديد قواها. وهي تتحدانا أن نتعلم منها لبناء البديل عنها. البديل الذي يحتكم إلى الديمقراطية وقبول الآخر. البديل الذي تحضر فيه المصالح الاوسع لغالبية اللبنانيين. تتحدانا أن نخرج من حصون التاريخ ومتاريس الماضي، وأن نتجاوز مواقع الانقسام الاهلي الموروثة. تتحدانا في أن نتعلم من أخطائنا وأن نتوقف عن إدمان الهروب من مسؤولياتنا الوطنية والرضوخ لتسويات يقررها الخارج.

إن ما ندعو له هو استلهام تجربة جبهة المقاومة الوطنية في التحرير والتوحيد والديمقراطية، والبناء على وحدة الروح النضالية التي تجلت في انتفاضة 17 تشرين المجيدة، وعلى نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة رغم الاخطاء والثغرات الكثيرة. هو دعوة للتحضير لانتفاضات انقاذية للوطن، تساهم في تعميق وحدة اللبنانيين وتحقيق طموحاتهم.

ختاماً، في اللحظات المصيرية، علينا أن نختار بين الصعب والممكن لإنقاذ البلد، وبين الموت وقوفاً على هامش التاريخ، بانتظار حلولٍ مستحيلة لن تأتِ بها السلطة أو الخارج.

Leave a Comment