سياسة

منظومة الانهيار والخراب والموت وتحدي العدالة والحياة

كتب زكـي طـه

 لم يتردد رئيس كتلة الوفاء للمقاومة في التشكيك بإمكانية تشكيل حكومة جديدة. لكن حزب الله ومن باب إعطاء جرعة تفاؤل للبنانيين، وكي لا يقال أنه مصدر التعطيل، فقد أعلن أنه يؤيد تكليف المرشح الجديد لتشكيل الحكومة. ما يؤشر إلى أن أداءه خلال معركة  التأليف الجديدة لن يختلف عن سابقتها. هو لن يتدخل في يومياتها، ولن يدلِ بشروطه وطلباته إلا بعد توافق الآخرين الذين لا يمكنهم رفضها. أما يوميات التأليف فهي من مهام رئيس المجلس النيابي وكتلته النيابية، بالتنسيق مع اللقاء الديمقراطي والمستقبل والمردة. وما يدفع  هؤلاء للتعاون تعارض مصالحهم مع العهد والتيار وطموحاتهما غير المشروعة واستقوئهما بحزب الله. أما القوات اللبنانية فتتابع التغريد خارج سرب المنظومة استناداً إلى رهانات هي أقرب إلى الأوهام.

رغم نجاح العهد والتيار الحر في منع رئيس تيار المستقبل، المكلف خلافاً لرغبتهما من تشكيل الحكومة، بالنظر للخلافات بينهما حول صلاحيات رئاسة الجمهورية والحكومة والحصص الوزارية. فإن ذلك لم يمنع اضطرارهما للقبول بترشيح رؤساء الحكومات السابقين لأحدهم، وفق صيغة تتعارض مع توجهاتهما، واعلان التزامه مواقف سلفه المعتذر حول آلية تأليف الحكومة ومهامها. أتى القبول بعد فشل محاولة التيار طرح إسم نواف سلام الرافض والمرفوض أصلاً من سائر أطراف السلطة، في مقابل الترشح الذي حظى  بتأييد غالبية الكتل النيابية.  والمحاولة الاعتراضية جرت في امتداد الاحتجاج على أداء حزب الله، وعدم نجدته لهما في معركة تعطيل تكليف رئيس تيار المستقبل، وبأمل دفعه لعدم تاييد المرشح البديل عنه. علماً أن الحزب لم يضغط عليهما لتسهيل تشكيل الحكومة، كما لم يتبنَ شروط الرئيس المكلف، لأنه كان يراهن كما في السابق على تنازله، والتسليم بالأمر الواقع ودور الحزب وسياساته، والخضوع لشروط  العهد، بسبب حاجته للعودة إلى موقع رئاسة الحكومة  للبقاء شريكاً في الحكم  بالنظر لأهمية ذلك على وضعه وتياره وفي علاقاته مع الخارج، والخوف من تزايد الخسائر جراء إبعاده المتكرر عن هذا الموقع.

إن معركة التأليف ورغم اصرار الجميع على إشاعة اجواء ايجابية لا تبدو سهلة التحقق.  هذا ما تؤكده الوقائع  في ظل ما هو سائد من اختلاف وخلافات حيال قضايا البلد وما و يحيط به من مخاطر، وحروب لاتزال مرشحة لمزيد من الاحتدام مع تعثر مسارات التفاوض وصعوبة الوصول قريباً إلى اتفاقات حولها.  ما يعني أن سياسة تمرير الوقت مستمرة، ومعها المزيد من المناورات للتغطية على المضمرات وفي سبيل كشف الأوراق، لأن كل طرف  يسعى لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، ويرفض التنازل عمّا يشكل ضمانات لموقعه ودوره، على الأقل في استحقاقي الانتخابات النيابية والرئاسية القابلين للتعطيل. وللتغطية يستمر هؤلاء دون كلل في بث الأوهام ونشر الأكاذيب الواهية والأضاليل، حول جدية مساعيهم لتشكيل الحكومة المشكوك برؤيتها النور. أو بشأن حرصهم المزعوم على الاصلاح ورغبتهم في وقف الانهيار وإيجاد الحلول لما أنتجوه أو تسببوا به من أزمات. يجري الأمر بالتوازي مع الاستثمار فيها بشكل صريح ومعلن، سواء عبر استغلالها في معارك المحاصصة، وفي التحريض لشد العصب الطائفي والفئوي، أو استخدامها ذرائع لأعمال النهب والتهريب بحجج تأمين الضروريات، وتبرير صرف ما تبقى من احتياط  مالي الزامي من ودائع اللبنانيين.

 أما اعلانات الرئيس المكلف عن ضمانات ودعم دوليين، فإنها لم تخرج عن سياق التضليل الذي يمارس. لأن المواقف الاميركية والبريطانية والاوروبية المتسارعة، أعادت تجديد الشروط المطلوب الالتزام بها والبدء بتنفيذها، علماً أن المرونة الفرنسية لم تخالف جوهر تلك المواقف. وهذا ما أكده قرار الاتحاد الأوربي الذي شرّع اصدار العقوبات على المرتكبين والمعرقلين لتشكيل الحكومة، ولعملية انقاذ البلد من المسؤولين والقوى السياسية.

كذلك لم يخرج الموقف الخليجي عن هذا السياق، من خلال تجديد الموقف السعودي ورفضه التعامل مع أي حكومة قبل عودة لبنان إلى الحضن العربي، وكف يد حزب الله. وهو ما تجاريها فيه كل من الكويت والامارات، بينما تحاول قطر وعبر مواقفها الملتبسة عدم اغضاب اميركا وايران. أما اعلانات الاستمرار بأعمال الاغاثة للبنانيين خارج اطار مؤسسات الدولة، فإنها لا تخفف من مفاعيل المواقف والشروط  المعلنة.

إن الوقائع  التي رافقت التكليف السابق على امتداد تسعة أشهر، ومعها المعطيات التي رافقت واعقبت التكليف الثالث لتشكيل حكومة، تشهد على استعصاء أزمة الحكم ومأزق سائر أطراف السلطة. وهي تؤكد أن جوهر الأزمة يكمن في إصرار العهد وتياره على تكريس صلاحيات رئاسية خلافاً للدستور وبقوة الأمر الواقع، كما في شروطهما لتشكيل حكومة يتحكمان بها وبرئاستها، لضمان الاستئثار بمواقع السلطة باسم حقوق المسيحيين، وتأمين وراثة موقع رئاسة الجمهورية.  وفي امتداد ذلك تقع مشكلة  الرؤساء المكلفين بالتشكيل وتوزيع  الحقائب وتسمية الوزراء. كما في صيغة التحايل على المبادرة الفرنسية سواء لانقاذ المنظومة، أو وقف الانهيار، رفضاَ للشروط  الاصلاحية  التي تتعارض مع نهج ومصالح قوى السلطة كافة، خاصة العهد وتياره، والمرفوضة اصلاً من حزب الله، الذي يرى  فيها حصاراً له، ومشروع مواجهة معه لتعطيل دوره الاقليمي والحد من نفوذه الداخلي.

  من الواضح أن  حسابات أطراف السلطة  لا تتضمن  لغاية الآن إعادة نظر بسياساتها وممارساتها. لأن الضغط الخارجي بكل منوعاته، غير قابل للصرف أو الترجمة، بالنظر لعدم وجود ركائز داخلية له. وإن وجدت فهي تنتسب بالتعريف إلى مواقع الانقسامات الأهلية والطائفية الموروثة والمستجدة، ما يلغي فعاليتها مسبقاً، ويبقي أي رهان عليها في إطار العبث.

 كما وأن ردود فعل اللبنانيين،لا تشكل مصدر قلق بالنسبة لأطراف السلطة، لأنها لم تتجاوز سياق التعبيرعن الغضب والاحتجاج وفق آليات وأساليب تصب في طاحونة قواها. وهذا ما سمح لها باستغلالها للمزيد من الاستهانة والعبث بحياة المواطنين العاجزين عن تأمين حاجاتهم من من الغذاء والماء والدواء المفقود، أو عبر طوابير الذل امام محطات الوقود وفي السوق السوداء، وسط انقطاع الكهرباء التي لم يعد باستطاعتهم دفع تكاليف الحصول عليها إن وجدت، وفي زحمة الطرقات المقطوعة من الغاضبين، ووسط دخان الدواليب المشتعلة. وقد أضيف لها كارثة الحرائق المتنقلة في  غابات عكار والهرمل والشوف، التي لم تجد من يطفىء نيرانها سوى المتطوعين من الدفاع المدني والمواطنين المسلوبة حقوقهم.

ورغم تفاقم الأوضاع عما كان قبل انتفاضة 17 تشرين 2019، إو قبل كارثة انفجار المرفأ في 4 آب الماضي وما نتج عنها من ضحايا وخسائر ودمار وخراب، والتي تحل هذه الأيام ذكراها السنوية الأولى دون أمل بتقدم التحقيق وسط التذرع بالحصانات. فإن أداء منظومة السلطة لم يتبدل، وسياسية التعمية وتجهيل المسؤولية ثابتة لا تتغير. التبريرات والذرائع الواهية لا تنضب، المهم تعطيل العدالة ولفلفة كل الجرائم وإحالة ملفاتها إلى طي النسان، وسط روائح  ما هو مستمر وجديد منها لا زال يرتكب يومياً بحق الوطن والانسان فيه.

بين خيبة اللبنانيين وما هم فيه من قهر وغضب، وأمام عبث واستهتار منظومة الحكم، ومع انفلات الأزمات وتصاعد الأخطار ووسط كوارث الانهيار وزحف المجاعة المرعب، يتجدد التحدي بوجه سائر المعنيين والساعين لخلاص اللبنانيين وبقاء البلد وإنقاذه من خطر التفكك والزوال. تحدي التلاقي بعيداً عن الانكار المتبادل وعبث التصنيفات، تحدي تجاوز الموروث من الانقسامات والاصطفافات الانتحارية والتصنيفات العبثية. من أجل التوافق على برنامج الحد الأدنى للانقاذ. برنامج يخاطب حقوق  واولويات مطالب الفئات المتضررة على تنوعها واختلافها وتوسعها، لترشيد حركتها في مواجهة منظومة السلطة ومحاصرتها والضغط عليها لاجبارها على تغيير سياساتها وممارساتها، والنضال من أجل وقف الانهيار وعودة الاستقرار وانتظام عمل مؤسسات الدولة، مدخلاً للخروج من مسار الفوضى الأهلية المتصاعد والمدارة من قوى المنظومة  الساعية لتجديد نظامها المتهالك على مختلف المستويات والصعد.

  وكي لا تضاف التحركات الاحتجاجية  التي تنطلق دفاعاً عن العدالة وفي مواجهة الانهيار والخراب والموت إلى ما سبقها، لتكن المشاركة تجديداً لمسيرة لا تتوقف من أجل إحقاق العدالة للضحايا ولكل المواطنين الذين تضرروا من الكارثة التي دمرت عاصمتهم ولتأكيد حق الحياة الكريمة ورفضاً للفوضى المستشرية.

Leave a Comment