ثقافة

ملامح أولية لاسـتراتيجية متشابكة لعالم ما بعد كـورونا (1)

كتب أحمد مغربي

لنبدأ من الكمامة، في محاولة رسم ملامح أولية استراتيجياً لعالم ما بعد كورونا. ليست الجائحة شأناً طبياً، والأرجح أنه ليس عبثاً أن سياسياً من وزن هنري كيسنجر اعتبر أن ذلك الفيروس سيغيِّر العالم، مرجحاً ألا يشبه  ما بعده، ما كان قبله.

لنبدأ من الكمامة والانتخابات الأميركية، لأن العالم الحديث لا يستطيع رؤية نفسه من دون أميركا والعكس صحيح أيضاً… حتى الآن. في دول العالم الغربي التي تجمعها الديمقراطية ومشروع العقلانية الكبير بكل معطياته المتشابكة والمتناقضة، ظهرت معادلة تستأهل تأملاً. لقد تمثّل النموذج الأوضح عن تلك المعادلة في الولايات المتحدة، مع ظهور ترابط بين رفض الكمامة والتباعد الاجتماعي وإجراءات الإغلاق العام وبين القومية الشعبوية المتطرفة. وتستند الأخيرة إلى مجموعة مقولات كالنيوليبرالية القومية/الوطنية، والسردية الدينية المغلقة التي تحوك حولها خيوطاً من نوع الإسلاموفوبيا، والعنصرية المتعددة المسارات، التي تشمل تبني مقولات تفوّق العرق الأبيض والعداء للمهاجرين والتمييز ضد السود والأقليات وغيرها.

الأرجح أن تلك الأمور مألوفة ولا يصعب تذكر حضورها، خصوصاً أثناء ولاية الرئيس دونالد ترمب. والأرجح أيضاً أن مقولة النيوليبرالية القومية ليست على الدرجة نفسها من الوضوح والتداول إعلامياً. ويجدر التذكير بأنها نقيض الليبرالية الاجتماعية في دول أوروبا الشمالية كالدنمارك وهولندا والسويد، إلى حدّ أن ترامب لا يتردد في وصف من يريد تطبيق تلك الليبرالية الأوربية في أميركا، على غرار السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز، بأنه شيوعي!

إذاً، تُترجم النيوليبرالية القومية أميركياً بأن تسير الولايات في اقتصاد حر منفلت (خفض أقصى لضريبة الدخل)، ولا تهتم ببقية العالم إلا بمقدار ما يؤثر ذلك مباشرة على آليات سير مصالحها، خصوصاً في الاقتصاد. وكذلك تميل إلى استخدام كل وسيلة ممكنة، بغض النظر عن القيم المتصلة بها، بهدف الحصول على الإذعان للشروط الأميركية مِنْ قِبَل كل دولة على حدة في سياق علاقتها مع الولايات المتحدة، مع بقاء تلك العلاقة متقدمة على كل علاقات أي دولة مع دولة اخرى. هل ثمة شيء ما مألوف في تلك الكلمات، بمعنى أن تستحضر مواقف وحوادث أثناء السنوات الترامبية الأربعة السابقة؟

ترامب وعزف شعبوي منفرد

لعلها تفسر أيضاً مناحٍ كثيرة بدا فيها ترامب كأنه يسير في عزف منفرد، بمعنى عدم انسجامها تماماً مع التصورات التقليدية بشان السياسات الاستراتيجية الأميركية. يجب التشديد على أهمية صيغة الجمع، فلا شيء أبعد من الواقع كتصور وجود سياسة استراتيجية أميركية واحدة، أو سياستان متناقضان، خصوصاً بشأن تصوّر مسطح وعقيم عن “تناقض” بين ترامب وخصمه الديمقراطي جو بايدن.

فقد صعد تيار غير مألوف من الشعبوية وأوصل ترامب إلى السلطة في 2016. وتتقاطع تلك الشعبوية مع توجهات اخرى في مؤسسبة الدولة الأميركية في الاستراتيجية العليا، خصوصاً الحرص على الفرادة (لنقل التفرّد) الأميركي، وكذلك السيطرة أو الهيمنة، بمعنى أن تبقى القوة الأميركية في موقع متفوق عالمياً والاحتفاظ بالقدرة على الحسم. لنقل أن الشعبوية النيوليبرالية القومية تميل إلى تأييد التصرف المنفرد لأميركا، ولا تعطي وزناً للنظام الدولي [على رغم أن معظمه صنعته أميركا بعد الحرب العالمية الثانية كي تحافظ على نفوذها وسطوتها]. وتهتم أيضاً بإبقاء كل القوى العالمية أقل من أميركا وزناً وقوة. ويوافق على معطى التفوق “نقيضها” المتمثل أميركياً في استراتيجيات للهيمنة الأميركية تؤيد استعمال النظام الدولي [عبر التحكم بتوازنات القوى عالمياً] في ضمان سطوتها ومصالحها، وكذلك ترى في عالمية النموذج الأميركي سنداً لتلك السطوة. واستطراداً، يعني ذلك أن دعم الديمقراطية ونشرها يفيد المصالح الاستراتيجية الأميركية. ثمة من يصف الأمر بأن نشر الديمقراطية والقوة الناعمة والنموذج الأميركي، يخدم مصالح أميركا.

لنأخذ الاتحاد الأوروبي مثلاً. من الواضح أن الاستراتيجية الترامبية تمثلت في تفكيك الاتحاد الأوروبي. وبوضوح، نفذ بوريس جونسون، الحليف الأقرب لترامب والمستند إلى تيار شعبوي مشابه، سياسة بريكست مسجلاً خروجاً أولاً تاريخياً لدولة من الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه قبل 47 عاماً.

يعطي ذلك تطبيقاً مباشراً على استراتيجية منع ظهور قوة عالمية يمكن أن تتحوّل منافساً نداً لأميركا [ وذلك موضع إجماع بين توجهات أميركية متنوعة]، لكن الملمح الترامبي يتمثل في التفكيك، وتحويل الاتحاد الأوربي إلى دول لا تتقدم العلاقة بين دولها على العلاقة المباشرة مع أميركا التي يتوجّب أن تكون المُحدِّد المباشر في علاقة كل دولة مع الدول كافة. [يمكن وصف ذلك بالاخضاع والإذعان، لكن الألفاظ ليست هي الأساس]. وينسحب الأمر نفسه على وضعية الحلف الأطلسي بالطبع.

السؤال الروسي؟

في المقابل، ثمة توجهات ترى أن الاتحاد الأوروبي هو انجاز أميركي أساساً، وتماسكه يفيد الولايات المتحدة استراتيجياً في مناح كثيرة [ لنقل، في مواجهة المدى الاستراتيجي الروسي. هل صدفة أن ترامب تميّز بعلاقته مع بوتين؟].

وقد تُبدي بعض التيارات الراسخة في المؤسسة السياسية الأميركية، ليونة تجاه تنامي القوة العسكرية للاتحاد الأوروبي، بل قد تقبل تغيير صيغة حلف الأطلسي بالتوافق مع ذلك التنامي. لكن، يعود “الإجماع” الاستراتيجي الأميركي إلى البروز مع الحرص على استمرار قيادة أميركا للحلف الأطلسي [والعالم الغربي]. وكذلك يصبح الإجماع أشد وضوحاً مع رفض استراتيجي أميركي عميق لتحوّل أوروبا نداً اقتصادياً لأميركا. عند الاقتصاد، تتقاطع تيارات “متناقضة” في الاستراتيجية العليا لأميركا، ويصبح مفكراً استراتيجياً أساسياً في توجّهات الحرص على النظام العالمي (مع قيادة أميركية) وتمتين حلف الناتو (بل ومؤيد لقوة أوروبية مستقلة)، خصماً عنيداً لأوروبا لا يتوانى عن المناداة بشن حرب (ليس بالضرورة بالسلاح) على أوروبا إذا سعت إلى رفع اليورو إلى مستوى الند اقتصادياً للدولار، كأن يكون عملة مرجعية اخرى في الأسواق الأساسية كالنفط والغاز والمواد الخام والأغذية الاستراتيجية كالقمح. ولم يتردد كيسنجر في إيراد ذلك في كتابه: “دبلوماسية”. من المهم أن نشير إلى أن غلاة النيوليبرالية القومية وأنصار اليمين المتطرف، وجلّهم يتبنى أشكالاً من نظريات المؤامرة، يعتبرون كيسنجر عميلاً لحكومة عالمية تسعى إلى السيطرة على أميركا لمصلحة النظام العالمي ودول العالم الاخرى!

Leave a Comment