سياسة

مقومات الاتفاق الايراني السعودي بين الاحتمالات والمخاطر

زكـي طـه

لم يأت الاتفاق السعودي ـ الايراني برعاية الصين من فراغ. ولم يسقط على المنطقة من سماء صافية وهي الحافلة بالأزمات المعقدة. والاتفاق لا يٌقراً بمعزل عن المصالح الدافعة له والكامنة خلفه، بصرف النظر عن مدى ثباته وتحوله واقعاً ملموساً بين اطرافه، في موازاة احتمالات تعثره أو الارتداد عنه كما جرى مع اتفاقات سابقة. كذلك لا يمكن النظر له كما يظن البعض بأنه بداية حل لأزمات بلدان المنطقة، التي تحولت ومنذ سنوات طويلة ساحات مشرعة للتدخلات الخارجية، الاقليمية منها أو الدولية. وهي التي يمكن أن تساهم في تسهيل نفاذ الاتفاق، أو عرقلة مفاعيله وتخريبه تبعاً لمصالحها التي تبقى البوصلة الهادية لسياساتها  ومصالحها، على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي أو امني.

صحيح أن للصين، التي رعت مسار الوصول إلى الاتفاق، سياسة خارجية على رافعة دورها ومصالحها، في امتداد الصراع المفتوح والمتعدد الاوجه على صعيد النظام العالمي، خاصة الاقتصادي منه مع الولايات المتحدة الاميركية. يبقى أن الاتفاق حصل في ظرف دولي دقيق، أبرز سماته، احتدام الحرب الروسية على اوكرانيا، التي تتلقى دعماً غير محدود من حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، في موازاة اعلاء لهجة التحذير للصين للحؤول دون تقديمها الدعم التسليحي لروسيا وهي بأمس الحاجة له.

ومن ناحية ثانية يأتي الاتفاق في ظل توالي عمليات التخريب الاسرائيلي داخل ايران ضد منشآتها الاستراتيجية بدعم اميركي واضح، ومسلسل الغارات الجوية والصاروخية التي تستهدف وجودها في سوريا بتغطية روسية، ووسط تصعيد الاستعدادات والمناورات العسكرية المشتركة مع حلفائها بالتزامن مع ارتفاع وتيرة الضغط الاوروبي والاميركي عليها، والضجيج الاعلامي حول احتمالات هجوم اسرائيلي عليها رداً على تخصيب اليورانيوم بمعدلات خطرة. في وقت تتصاعد فيه الضغوط التي تستهدفها جرّاء امداد روسيا بالاسلحة والذخائر والمسيّرات، دون أن تجني في المقابل ما كانت تأمل به منها من اسلحة وطائرات واتفاقات استراتيجية.  في الوقت الذي تلوّح لها الولايات المتحدة بإمكانية احياء المفاوضات بشأن الاتفاق النووي معها، ومحاولة استغلال فشل نظامها في الافلات من الحصار والعقوبات، وعجزه عن السيطرة على أزماته المتفجرة سياسياً واجتماعياً، واعتماد القمع والانغلاق وسيلة وحيدة للرد عليها، في ظل انسداد الافق امام محاولات تكريس هيمنتها على بلدان الجوار بقوة الأمر الواقع الميليشياوي التابع لها، سواء في العراق او اليمن وسوريا ولبنان.

ومن ناحية أخرى، أتى الاتفاق ايضاً في ظل تأزم العلاقات الاميركية السعودية. الذي بدأ مع توقيع الاتفاق النووي مع ايران في عهد اوباما، بمعزل عن المصالح الأمنية  لدول الخليج. مما اتاح لها استغلاله لمصلحة دورها في أزمات دول المنطقة ومحاصرة السعودية المتدخلة في حرب اليمن، وتعريضها لهجمات مصدرها الميليشيات الحوثية. مما عرضها لابتزاز مالي وسياسي غير مسبوق من إدارة الرئيس الجمهوري ترامب بذريعة الدفاع عنها، مقابل تسليحها ودفعها اكلاف حمايتها من الخطر الايراني، الذي ارتفعت وتيرته مع خروج الاميركي من الاتفاق. كما وإن إدارة بايدن الديمقراطي لم تفلح في استعادة العلاقات الطبيعية مع السعودية جرّاء موقفها من قضية الحريات وحقوق الانسان فيها. ولذلك فإن الضغط عليها بشأن موقفها المحايد من الحرب الروسية على اوكرانيا، ورفضها الموافقة على رفع مستوى الانتاج النفطي لدول اوبك لتلبية حاجة الاسواق الاوروبية بدلاً من النفط الروسي، قد ساهما في تصعيد الأزمة مع اميركا التي زادت من ضغوطها على غير انقطاع، لتسهيل التطبيع الخليجي مع الكيان الاسرائيلي والانخراط فيه، لتحويل المنطقة قاعدة استراتيجية لها في المواجهة ضد ايران.

لا شك في أن أزمة علاقة السعودية مع اميركا وضغط الاخيرة عليها، وحاجاتها استناداً لاستراتيجية النهوض بالمملكة 20-30، على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد ساهمت في دفعها للانفتاح على الصين من البوابة الاقتصادية. وهي التي وجدت فرصتها المنتظرة في المنطقة لتنفيذ مخططاتها الاستثمارية الاستراتيجية، لتوسيع اسواقها ومواردها النفطية، سعياً منها لتطوير قدراتها التنافسية مع الولايات المتحدة في اسواق ومناطق كانت حكراً عليها.

وكانت الصين قد عقدت اتفاقاً مع اسرائيل للاستثمار الطويل الأمد في موانئها وخاصة ميناء حيفا. كما استغلت حاجة ايران المحاصرة بالعقوبات الاقتصادية والمالية لعقد اتفاق اسراتيجي بمئات المليارات من الدولارات على اكثر من صعيد. وهذا ما جعل زيارة الرئيس الصيني للسعودية والقمم الثلاث التي نظمتها الرياض معه، وما تمّ في سياقها من اتفاقات اقتصادية، تشكل مصدراستياء الولايات المتحدة الشديد من المملكة، التي رفضت الاستجابة لطلباتها وتهديداتها.

وبما أن المواقف السياسية التي صدرت عن الرئيس الصيني الداعمة لدول الخليج والدور السعودي، خلال الزيارة، قد أثارت حفيظة النظام الايراني، فإن القيادة الصينية وجدت في ذلك فرصة سانحة اضافية لعرض الوساطة بين الطرفين، انطلاقاً من حاجتهما  للتهدئة وحل النزاعات والمصالح المشتركة بينهما.

وعليه فُتح مسار تفاوضي غير مُعلن بين أيران والسعودية، موازٍ لمسارات اخرى، سواء تلك التي بدأت عبر العراق بوساطة رئيس الوزراء السابق، في اطار محاولته اقامة توازن في العلاقة مع ايران من خلال انفتاحه على السعودية وحاجتها للاستقرار على حدودها الجنوبية، مقابل الدعم الاقتصادي للعراق وفتح المعابر معه.  بينما المسار العُماني بقي محصوراً بملف أزمة اليمن، والحرب المفتوحة فيه والمسعى السعودي لحلها، لأنها تشكل مصدر قلق وخطر دائم لها باعتباره ملفاً داخلياً أكثر منه خليجياً. ما يعني أن الاتفاق اتى في ظل مساعي السعودية للتخفف من ازمات المنطقة الأقرب لساحتها، ووسط محاولاتها لتصفية ذيول الحصار الخانق لها جراء التدخلات الايرانية والتركية في أزمات المنطقة بتغطية وقبول اميركي كما هو الحال في العراق، وكذلك في اليمن وسوريا ولبنان.

في ضوء هذا الواقع المعقد ليس غريباً أو مستهجناً أن تنجح الصين في استكشاف مساحة مشتركة من المصالح بين الدول الثلاث، الصين والسعودية وايران. وأن ينعقد اللقاء والاتفاق بينها، في اطار سعي كل منها لتحقيق بعض مصالحها، أو الحد من سلبيات مشكلاتها ومخاطر أزماتها. علماً أن نص الاتفاق غابت عنه الاشارة إلى أزمات بعينها، واقتصر مضمونه على مبادىء عامة:  “سياسة حسن الجوار” و”عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول” وإعادة الاعتبار لـ “اتفاق مكة” بين ايران والسعودية. أما الواضح في الاتفاق  فهو فترة شهرين للتحضير لاستئناف العلاقات الديبلوماسية وفتح السفارات.

لا جدال في فوائد الاتفاق للدول الثلاث كل من موقعها وأولويات اوضاعها  ومصالحها وسياساتها. ولا في النجاح المحدود للدور الصيني في إنجاز الاتفاق، ولا في أهميته على صعيد المنطقة الحاشدة بالأزمات والتدخلات الخارجية. لا شك في أن الاتفاق أتى خلافاً للطموحات الاميركية والاسرائيلية على أكثر من صعيد. غير أنه لا يعني هزيمتهما، كما يسوّق البعض. خاصة وأن الاتفاق لا يمكن أن ينتج حلولاً سريعة لأزمات المنطقة المتعددة الساحات، حيث تختلط العوامل الاقليمية والدولية بالداخلية منها. مما يستحيل معه استسهال الحلول والتسويات، في ضوء اولويات الاطراف المتصارعة في المنطقة وعليها، نظراً لطبيعة الملفات والمشكلات القائمة والقابلة لتوليد ما هو جديد من أزمات. وعدا أن الاتفاق لا يستند إلى ضمانات تحميه من الانقلاب عليه كما سبق لايران. فإنه ايضا ليس حصيناً ضد التخريب والتعطيل من اطراف وجهات أخرى كثيرة لا مصلحة لها فيه.

صحيح أن الاتفاق يخفف من وطأة الأزمات والحصار اللذيْن تسبب بهما النظام الايراني لبلاده، وأن الاتفاق يحاكي استراتيجية السعودية وسعيها لمعالجة الأزمات والمعارك والضغوط التي تواجهها. لكن الصحيح أيضاً أن الاتفاق ليس حل سحرياً لما بين البلدين من مشكلات وأزمات، أو لما هو قائم منها على صعيد المنطقة ككل.  وهو ما يستدعي الانتظار والترقب لإستكشاف مآله ومفاعيله وتبعاته، بعيدا عن تبسيطات البعض، خاصة اللبنانيين الهاربين من مسؤولياتهم، أو الذين يعتقدون أن الاتفاق وُقع من أجل تسهيل انتخاب رئيس لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، مدخلاً  لحل مشاكلهم وتسوية أوضاعهم واخراجهم من الجحيم و فوضى الانهيار حيث يتخبطون.

Leave a Comment