منشورات

محسن ابراهيم في ذكرى أربعين الشهيد حاوي: حول الحراك الطوائفي وشرعة النضال من أجل العلمانية

في استهوالنا لسلبيات الحراك الطوائفي الذي يأخذ بتلابيب الوضع اللبناني اليوم، من موقع الدراية الشديدة بمدى رسوخ البنية الطائفية في مفاصل نظامنا السياسي بل في مجمل حياتنا الوطنية، لا نرى ـ مع ذلك ـ بديلاً من القول وبأعلى النبرات أنه إذا كان المستقبل العلماني للبنان صعباً حقاً، فإن مستقبله الطائفي مستحيل أساساً. فهل يمكن أن نُبقي بلدنا رهينة مستقبل مستحيل؟

تنشر “بيروت المساء” نص الإعـلان الفـكري السياسـي الذي أطلقه الأمين العام  لمنظمة العمل الشيوعي الرفيق الراحل محسن ابراهيم في المهرجان التأبيني الحاشد الذي أقيم في ذكرى أربعين الشهيد جورج حاوي  في قاعة الاونيسكو في السابع من آب من العام 2005. أما مبررات النشر فكثيرة أبرزها أن الكثيرين أخذوا منه حديثه عن خطأين وقعت فيهما الحركة الوطنية اللبنانية لجهة إباحة البلد للمقاومة الفلسطينية المسلحة ما حمّله أعباءً فوق طاقته، واستسهال ركوب مركب الحرب الأهلية وبالتالي العنف، اختصاراً لطريق التغيير الديموقراطي في لبنان. بينما في الواقع هو أن النص أوسع مدى من هذا النقد الشجاع  لتجربة هذه الحركة المجيدة والفريدة، خصوصاً أنه تضمن أيضاً نقداً صريحاً لقوى النظام التي أهدرت مفاعيل إنجازات وطنية تاريخية كلفت اللبنانيين تضحيات جسام، إضافة إلى تأكيده على الحل الديموقراطي العلماني للإشكالية الكيانية التي يعانيها لبنان وتعبر عن نفسها بحروب باردة وساخنة. وهنا النص:

قبل ثمانية وعشرين عاماً وقفت، في هذه القاعة بالذات، متحدثاً باسم المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية اللبنانية، في اليوم الأربعين لإستشهاد قائدنا ورئيسنا وفخر تاريخنا الديمقراطي، شهيدنا الأكبر كمال جنبلاط. ومنذ ذلك اليوم وأنا وجورج حاوي لا ندري من منّا يمكن أن يسبق الآخر شهيداً على كثرة ما مرَّ بنا من أيام حوالك. وها هو يسبقني، كعادته عندما يتعلق الأمر بالتسامح في حساب المجازفات. وها أنا أقف اليوم بينكم وقفة تأبين حارقة لرفيق الدرب الأعز، وصديق العمر الأقرب، وزميل الشدائد في كل موقعة وفي كل زمان ومكان.

وبعد، لا يستقيم تكريم شهيدنا الذي نجتمع اليوم في أربعينيته الاّ بإعادته وبالعودة معه إلى الزمن التأسيسي الأول للمسيرة النضالية الطويلة لهذا القائد الشيوعي الشجاع. إنه زمن المخاض الكبير والعسير في حركة التحرر العربية على امتداد ستينيات القرن الماضي والنصف الأول من سبعينياته. في ذلك الزمن الصاخب نشأ جورج حاوي في قلب الحزب الشيوعي اللبناني ليباشر منذ منتصف الستينيات دوراً قيادياً بل ريادياً في اتجاه حث الخطى نحو إنضاج مقومات حركة يسارية لبنانية بدأت تتجاوز، أفقاً وحجماً وزخماً، كل الاقفاص التنظيمية التي حبستها كثيراً وطويلاً. لقد كنا في تلك الأيام أمام حراك خصب طاول الروافد الثلاثة لبيئة اليسار اللبناني الآخذة في الاتساع. كنا أمام علمنة في اليسار التقدمي الاشتراكي راحت تشتد وضوحاً وتتعمق حسماً أكثر من أي وقت مضى. وكنا أمام تعريب لليسار الشيوعي اللبناني ـ الاممي فريد في بابه على امتداد المنطقة كلها. ثم كنا أمام لبننة لليسار القومي العربي في لبنان أحدثت فتحاً جديداً في إرساء نقطة التقاطع والتوازن بين الوطني والقومي ضمن خارطة عربية كانت ألوانها وشواخص حدودها تتبدل على غير إنقطاع، وهو ما نشات في امتداده منظمة العمل الشيوعي في لبنان مطلع السبعينيات.

هكذا تأسست نهضة لليسار اللبناني تجاوزت بكل المقاييس وفي جميع الميادين كل حقباته النهضوية السابقة. ومن حق جورج حاوي علينا أن نقرر اليوم أنه لم يكن فقط الإبن الشرعي لهذه النهضة اليسارية، بل كان واحداً من أبرز صنّاعها الكبار. لقد انخرط أبو أنيس، منذ اطلالاته الحزبية الاولى، ضمن تيار التجديد في صفوف الحزب الشيوعي، وحين تقدم، ومن ثم حَشد المجددين الشيوعيين كان سلاحه الأول والأهم دعماً حازماً تلقاه من زملائه ورفاقه ومناضلي حزبه. وإلى ذلك تضاف رعاية إستثنائية خصه بها كمال جنبلاط وكنت مع رئيس حركتنا الوطنية شاهداً على جميع وقائعها ويومياتها ومساهماً في كل مبادراتها الوفية.

ومن التجديد في الحزب الشيوعي اللبناني، إلى الدور البارز في بناء الحركة الوطنية اللبنانية، ثم إلى الدور في إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، حلقات ثلاث مترابطة الطموح امتد على مساحاتها الفسيحة الزمن التأسيسي الأول والأهم في المسيرة القيادية الغنية لجورج حاوي. ومن طروحات ذلك الزمن ومن تجاربه ودروسه، نجاحاً وإخفاقاً، إنبثقت ثوابت جورج حاوي التي أود أن أشهد اليوم أنها لازمته حتى النفس الأخير، على رغم أنه كان الأجرأ بيننا في التجريب، والأكثر إقداماً على التغيير في الأداء، والأسرع في التنقل بين محاولات الإنجاز، صغر الإنجاز أم كبر، على غير كلل أو فتور.

ولا يتسع الوقت المتاح لتكريم شهيدنا اليوم أن نقف أمام كل ما كان من إنجازات الحركة الوطنية اللبنانية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وقد شكلتا متصلتين رهان عمره الأكبر. لقد كنا معاً ثنائياً عمل تحت قيادة الشهيد كمال جنبلاط، ويكفينا فخراً أن نقول اليوم، ونحن في مجال تكريمه، إن الحركة الوطنية اللبنانية التي إليها انتسب لم تقدم للبلد، في ذلك الصيف الحارق من عام 1975، مجرد نص برنامجي شهد الجميع بتقدمه واستنارته، بل هي قدمت أولاً وأساساً ممارسة غنية حركت وأطلقت تياراً شعبياً زاخراً عابراً لكل المناطق ولجميع الطوائف، احتشدت ضمن شوارعه كتل اجتماعية شتى في وحدة مطلبية متصلة الأواني من دون افتعال. وحين كان على هذه الحركة الوطنية أن تشتق من وقائع ممارستها المديدة، خلال كل الستينيات والنصف الأول من السبعينيات، برنامجاً يخاطب مصالح البلد ويلبي حاجاته خرجت بما يمكن اعتباره أبرز وأهم برنامج نهضوي في تاريخ لبنان الحديث. وفيه تلازمت مفاهيم وقضايا عانى اللبنانيون من افتراقها زمناً طويلاً: الاستقلال الوطني الحاسم بما هو حق صريح لشعب لبنان بعيداً من أي مركب نقص، أو من الاختناق بين جدران العزلة وأساطيرها، والعروبة الثقافية والسياسية المستنيرة بما هي أفق حيوي لبقاء لبنان نقيضاً لكل إستبداد، والديمقراطية المسيجة بالعلمانية الرحبة محط أمان وتفتح، والمسلحة بالقاعدة الاجتماعية العابرة للطوائف ولجغرافياتها الضيقة ضمانة ومرجعاً. وإلى ذلك يضاف نبض لبناني مع فلسطين يعرف أصحابه جيداً ما بين لبنان وإسرائيل من صراع مصير، ويدركون تماماً أن الشعب الفلسطيني إذ يرابط منذ قرن من الزمان على خط المواجهة الأمامية لأعنف غزوة كولونيالية إستيطانية، مستمرة متسعة، تعرضت لها المنطقة العربية وما تزال، لا يدافع عن وجوده الوطني فحسب، بل هو يحجز ويضبط ـ وسع طاقته ـ خطراً يتهدد كل أرض الجوار العربي لفلسطين. لذا اعتبرت الحركة الوطنية اللبنانية دعم نضال الشعب الفلسطيني قضية وطنية تخص لبنان مثلما يجب أن تخص كل بلد عربي تضعه إسرائيل ضمن استهدافاتها المباشرة وغير المباشرة.

هل تراني في هذا التقديم التكريمي لما كان عليه دور الحركة الوطنية اللبنانية وبرنامجها، وقد ساقني إليه واجب تكريم جورج حاوي بصفته أحد بُناتها الكبار، هل تراني أردت الإفلات من مسؤولية النقد الصريح لما كان من أخطاء هذه الحركة الوطنية وبعضه كان قاتلاً؟ كلا بالتأكيد، فليس هذا نهجي ولا هو نهج رفيق دربي أبي أنيس. واذا كان ثبت الأخطاء هنا يطول فإنني أكتفي بإيراد إثنين منها كان ضررهما عظيماً على الحركة الوطنية اللبنانية وعلى البلد في آن.

الخطأ الأول: إننا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافاً.

والخطأ الثاني: إننا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم إختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي. فكان ما كان ـ تحت وطأة هذين الخطأين ـ من تداعيات سلبية خطيرة طاولت بُنية البلد ووجهت ضربة كبرى الى الحركة الوطنية وفي القلب منها يسارها الذي كان واعداً في يوم من الأيام.

وأسوق مجدداً هذا النقد الذاتي الواضح باسم رفيقي جورج وباسمي على رغم أننا لم نسمع حتى اللحظة ما يعادل هذا النقد وضوحاً أو يلاقيه صراحة من الضفة الأخرى، أو من أي ضفة. فمتى تصبح للبلد ذاكرة نقدية مشتركة نستطيع أن نستلهم منها معادلة لبنانية شاملة ترسي ثوابت صون الموقع الإقليمي للبلد من ناحية، وتحدد أصول الصراع حول مستقبل نظامه السياسي من ناحية ثانية؟

أما عن جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي أطلقنا نداءها سوياً يوم السادس عشر من أيلول 1982 وأعطاها أبو أنيس، إعلاناً ومتابعة ورعاية، كل ما يملك وكل ما تستحق، فكانت بحق حدثاً تأسيسياً لا نظير لأهميته في تاريخ اليسار اللبناني وفي مجرى العمل الوطني اللبناني. لقد كان لبنان ساح قتال مع إسرائيل نصرة للقضية الفلسطينية منذ عام 1968، لكن لبنان دخل مع قيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية مرحلة الدفاع عن نفسه في مواجهة إسرائيل بمحركات لبنانية، وتحت راية لبنانية، وبسواعد وبنادق لبنانية، ومن أجل حماية السيادة والسياسة والأرض والمياه اللبنانية.

وبعد، لا يكتمل نصاب الكلام في تكريم القائد والمناضل الشيوعي جورج حاوي من دون المرور بكلمات على لحظة العُسر الشديد التي يعيشها لبنان اليوم تحت وطأة حراك طوائفي لم تواجه البلاد مثيلاً له من قبل، سواء لجهة انفلاته السياسي من كل عقال، أو لجهة اكتساحه كل مساحات البنية اللبنانية، ومحاصرته جميع بؤر الحداثة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت تحققت للبنانيين بجهود شاقة بذلوها على امتداد عقود عسيرة من الزمن.

لقد فوَّت هذا الحراك الطوائفي العارم على البلد فرصة تحويل التخلص من قيد الهيمنة السورية الرسمية الثقيل على مقدراته إلى إنجاز استقلالي جامع يخطو بالوطنية اللبنانية مسافة جديدة نحو النضوج التوحيدي. فإذا بنا أمام قراءات لدلالات الانسحاب السوري، ونظرات إلى نتائجه على المستقبل اللبناني، متعددة تعدد الضفاف الطائفية بل المذهبية المتواجهة من خلف حواجز القسمة الموروثة. وهو نفسه الحراك الطوائفي الذي كان ابتلع وئيداً، ولكن حثيثاً، معظم مفاعيل التحرير العظيم للجنوب اللبناني من نير الاحتلال الإسرائيلي، لتضيع على اللبنانيين هنا أيضاً فرصة كانت مأمولة لإغناء وطنيتهم الجامعة بمضمون إضافي يجعل من بنيانها في الزمان والمكان إنجازاً متصل اللحظات متتابع الحلقات كما هي حال كل الوطنيات الحية والعريقة. ويزداد الأمر قتامة حين نتذكر ونرى أن سلبيات الحراك الطوائفي الصاخب تجعل البلد اليوم أكثر انكشافاً أمام ضغط خطة التدويل الأميركي التي تريد من اللبنانيين – باسم الدعوة إلى استكمال تنفيذ القرار 1559 ونزع سلاح المقاومة – الانزلاق نحو ارتجال سلم مع إسرائيل لا صلة له البتة بأي مصلحة وطنية لبنانية، ولا وظيفة فعلية له سوى استكمال حلقات التلاعب بمصائر بلدان المنطقة العربية.

وإذ ننطلق، في استهوالنا لسلبيات الحراك الطوائفي الذي يأخذ بتلابيب الوضع اللبناني اليوم، من موقع الدراية الشديدة بمدى رسوخ البنية الطائفية في مفاصل نظامنا السياسي بل في مجمل حياتنا الوطنية، لا نرى ـ مع ذلك ـ بديلاً من القول وبأعلى النبرات أنه إذا كان المستقبل العلماني للبنان صعباً حقاً، فإن مستقبله الطائفي مستحيل أساساً. فهل يمكن أن نُبقي بلدنا رهينة مستقبل مستحيل؟

وإذ لا نستسهل أبداً أمر الوصول إلى علمانية تفتح كهوف البلد لأنوار التحديث، ندعو أنفسنا وكل اليسار ـ وهو المعني قبل غيره بالنضال العلماني أساساً ـ إلى وعي جملة حقائق أهمها أن إنجاز العلمانية بانقلاب أو بمرسوم هو مجرد سراب لا يجدي الركض خلفه وهماً، وأن تحقيق العلمانية بسلطة الاستبداد هو بديل أسوأ من الطائفية على سوئها الفادح، وأن العلمانية لا تقوم ولا تستقيم ولا تتحول إنجازاً عصياً إلا بنضال شاق من أجل بناء كتلتها الاجتماعية الراجحة الوزن في ميادين السياسة والثقافة ومؤسسات الانتظام المدني الاجتماعي الحديثة، وهي لا تتحول أخيراً من نوابض اجتماعية منتشرة حاشدة إلى نظام سياسي وطيد إلا باستفتاء اللبنانيين على مصيرهم في هذا المجال بكل الحرية الواجبة والمسؤولة. فهنا أيضاً لا يمكن أن يقاد اللبنانيون حتى إلى جنة العلمانية بالسلاسل”.

أما بعد،

وإذ لا يمكن الاسترسال أطول وأكثر، في مجالنا الضيق اليوم، مع دفق عاطفة التكريم وسيل خواطر التقدير لعطاءات شهيدنا جورج حاوي، فإنني أختم كلمتي بتحية حميمة لمن سوف يبقى في البال أبداً.

يا أبا أنيس، يا شهيد الشيوعيين والديمقراطية، يا شهيد كل الوطنيين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب، سلام عليك.

سلام عليك كلما طلع الصبح على مقاوم يحمي السيادة والحدود، وكلما احتضن الليل مناضلاً هدَّه التعب من أجل الحرية للشعب والعدالة للناس.

سلام عليك ما دام لبنان يملك ذاكرة حية تضع الكبار من مناضليه وشهدائه على القمم التي يستحقون.

بيروت في 7 آب 2005

[author title=”منظمة العمل الشيوعي” image=”http://”]منظمة العمل الشيوعي[/author]