سياسة

مجموعات في الانتفاضة تعود إلى “حظيرة ” الطائفة من باب موارب!

 كتب محمد قدوح

 اشك أن قسماً مهماً من قوى ومجموعات الانتفاضة هي علمانية وديموقراطية تلتزم الاستقلالية الكاملة عن القوى السياسية الطائفية، وليس لديها أي نوع من أنواع الارتباطات الخارجية. في المقابل هناك قوى ومجموعات من الانتفاضة تنقسم إلى قسمين: الأول منها له علاقات ملتبسة مع قوى طائفية، ويرفض تدخل بعض القوى الخارجية في أزمات البلد، فيما يلتزم الصمت حيال تدخل قوى خارجية أخرى. الثاني يقبل بما يرفضه الأول، ويرفض ما يقبل به، أي وصاية من هنا ووصاية من هناك. وفات كل من هذين القسمين أنه لا يمكن أن نكون تبعيين لجهات خارجية ونطالب العالم أن يتعاطى معنا على أننا مستقلون.

ولا يقتصر الخلاف بين مجموعات هذين القسمين حول التدخلات الخارجية، وإنما يتعدى ذلك إلى الحلول المقترحة لحل أزمات البلد على مختلف الصعد. وهو الأمرالذي يؤكد أن قوى ومجموعات الانتفاضة لم تنجح في فتح مسار جديد موحد لخلق دورة نضال تاريخية جديدة، تؤسس لبناء مجتمع لبناني ديموقراطي وعلماني موحد، ونظام سياسي قابل للتطور باتجاه بناء دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية والمساواة.

وفي هذا السياق نتوقف أمام طرح المجموعات التي أطلقت على نفسها تسمية المجموعات السيادية، والتي تقترح الفيدرالية كحل لأزمة النظام اللبناني. وهو حل ينطلق أصلاً من فكرة التعددية الثقافية للمجموعات في لبنان. أي أن هؤلاء ينظرون للبنانيين كجماعات من أبناء طوائف ومذاهب وليسوا مواطنين في دولة لها دستورها وقوانينها. وقد فات هؤلاء أن الفيدرالية تستوجب ثلاثة أمور أساسية ممركزة في أيدي للسلطة المركزية وهي: العلاقات الخارجية وسياسات الدولة، بما هي تمثيل دبلوماسي ووحدة موقف وتعبير عن وحدة المصالح الداخلية إزاء الخارج. والثاني هو الدفاع الوطني من خلال وحدانية وجود جيش يتولى مهمة الدفاع عن البلاد وما يرتبط به من سياسة دفاعية وتسليح وغيرها، وقوى أمن موحدة ولا مركزية في الوقت ذاته. أما الثالث فيتمثل بالمالية العامة والنقد والسياسة الضرائبية المعتمدة سواء أكانت مباشرة أو غير مباشرة. وهذه الأمور الثلاثة تمثل مواطن الخلاف بين القوى السياسية داخل لبنان.

كما فات هذه المجموعات أن التعدد في المجتمع اللبناني ليس حالة خاصة، فسائر الدول في العالم باتت تمتلك تعدديات ثقافية وإثنية واجتماعية وما شابه. لقد جرى استخدام مصطلح التعددية للمرة الأولى من قبل الباحثين الاميركيين في مجالات العلوم الانسانية والاجتماعية للدلالة على جماعات تختلف أنماط الحياة لدى كل منها اختلافاً واضحاً عن غيرها من مجموعات. وتبعاً لذلك انتشرت فكرة التعددية في اميركا، وتحولت إلى حركة فكرية وأكاديمية وبحثية ناشطة، الا أنها انتهت إلى مضاعفة أزمة المواطنة، كونها شجعت على الانقسامات داخل المجتمع الاميركي الذي لا تنقصه الانقسامات العرقية والعقائدية ومن كل نوع. وتبين أن مرد الانقسام هو عدم تطبيق مبدأ الكفاءة والفرص المتساوية بطريقة عادلة. لأن فرص العمل كانت موزعة على شكل تمييزي ومحاصصة فئوية في أحسن الأحوال. وجواباً على هذه الأزمة توصل الباحثون الاميركيون إلى أن البشر بطبيعة الحال جماعات مختلفة لها خصوصياتها التي لا يجوز خلطها أو صهرها مع غيرها من الجماعات. وأن ضبط التعددية الثقافية يتم من خلال الالتزام بمبدأ المساواة مع الآخر باشتراط الكفاءة وخوض المنافسة العادلة. وتحقيقاً لذلك أصدر المشرعون قانوناً ينصف الأقليات المغبونة في الإدارات العامة والمراكز العلمية والجامعات من ذوي الاصول الافريقية والاميركية الجنوبية والآسيويين والشرق أوسطيين لمضاعفة وزنهم فيها، وبالتالي وصولهم إلى حقوقهم بالترقي الاجتماعي أسوة بسواهم من جماعات وأعراق.

وبالاستناد إلى ما سبق يتبين أن المجموعات السيادية التي تبنت مفهوم التعددية الثقافية في المجتمع اللبناني، وبنت عليه اقتراح الفيدرالية لحل أزمة النظام السياسي اللبناني، إنما فعلت ذلك من دون التدقيق في حدود وعناصر وأسباب التعددية الثقافية بين المجموعات اللبنانية. وهو موضوع قابل للنقاش أولاً. وثانيا لم تقرن المجموعات طرح الفيدرالية مع حق المساواة مع الآخر، وكذلك مع حق المنافسة العادلة استناداً إلى مبدأ الكفاءة. لقد سبق أن دعا صقور مثل هذا الطرح في خلواتهم إلى بناء نظام سياسي يسمح لكل طائفة بإدارة شؤونها بمفردها، باعتبار أن كلاً منها يشكل كياناً متماسكاً ومستقلاً على الصعد السياسية والاجتماعية. وتنبع استحالة مثل هذا الطرح من عدم وجود مناطق صفاء طائفي في عموم المحافظات والجغرافيا اللبنانية، ما يفتح على مشكلات لها أول وليس لها آخر. وكان من أهم تداعيات هذا الطرح مضاعفة إنغلاق المجموعات الطائفية على نفسها، حيث يكون ولاء الفرد للطائفة وليس للدولة والوطن. وهو في واقع الحال ولاء واستزلام للقيادات السياسية الطائفية وللزبائنية كرابط بين رعايا الطوائف والزعماء.

لذلك ومن منطلق القبول بالرأي الآخر ، فالمطلوب من أصحاب الدعوة إلى الفيدرالية إعادة النظر في مفهوم التعددية الثقافية وفتح النقاش حولها والعوامل التي ساهمت في نشأتها وتطورها. ويبقى القول إن المشكلة ليست في حق الاختلاف، وإنما في غياب حق المنافسة العادلة على أساس مبدأ الكفاءة وتأمين الفرص وتوفير المقومات المتساوية بين المواطنين، كي لا تصبح التعددية الثقافية خطراً على إمكانية الاستمرار في التعايش بين المجموعات الطائفية، التي يجري النظر إليها ككتل صماء متماسكة يتجاهل فردية مكوناتها، ما يجعل التصادم المدمر بينها أمراً مرجحاً ، بل ومؤكداً. ولعل الواقع اللبناني الراهن والتاريخ القريب والأبعد يؤكد على حتمية المسار التصادمي واستمرار هيمنة النظام الطائفي على الفضاء العام والخاص لكل اللبنانيين. وبذلك يعود هؤلاء بنا إلى الانضواء في “حظائر ” الطوائف من باب موارب للباب الأصلي الذي يعتمده النظام وقواه المهيمنة. فيما العلمنة التي تعني فصل الانتماء إلى عقيدة ما عن التمثيل السياسي وإدارة الدولة ومؤسساتها هو السبيل الفعلي المتاح لبناء علاقة متساوية بين الدولة والمواطنين بديلاً عن الوسيط الطائفي الذي يمثله الزعيم الذي يعمل جاهداً لتكريس دوره وتأمين ديمومة نفوذه والنظام الطائفي الذي يتيح له ذلك.

Leave a Comment