سياسة

مجموعات الانتفاضة وتحدي الانتخابات النيابية

جمال حلواني

إن التبسيط والخفة السياسية وعدم النضوج في قراءة الواقع التي تبديها بعض مجموعات الانتفاضة التي تمتهن التحركات والاعتصامات، تحت عنوان: استمرار شدّ العصب وإبقاء شعلة الثورة، وعدم وصول الثوار حسب تعبيرهم إلى اليأس والإحباط جرّاء عدم تجاوب المواطنين مع دعوات النزول الى الشارع.

فالملاحظ أن نسبة اهتمام المواطنين بتحركات الانتفاضة باتت محدودة، حتى أن بعضهم يُحمِّل الانتفاضة مسؤولية الانهيار المالي بدلاً من الناهب الحقيقي لاقتصادهم، أو الذين تسببوا بالأزمة، وهم الذين  يتشبثون بمواقع السلطة، ويتنازعون فيما بينهم من أجل البقاء في مواقعها والدفاع عنها.

المجموعات المشاركة  في اطلاق النداءات تتساءل: لماذا لا يقفون معنا ونحن نؤمن لهم المطالب والشعارات السياسية؟ وهي الطريقة الوحيدة لعملية التغييرالسياسي في البلد، والوسيلة لتنفيذ شعارات وروحية 17 تشرين للتخلّص من فساد هذه السلطة، وقيام سلطة بديلة لها تحقق العدالة الاجتماعية وتفرض بناء الدولة.

أما واقع حال الانتفاضة والمجموعات والجبهات والتحالفات السياسية القائمة منذ فترة من الزمن، بات واضحاً، لناحية المعاناة من العجز عن جذب الجمهور للمشاركة في التحركات، سواء عبر رفع شعارات إسقاط المنظومة،  أو استقلالية القضاء من مدخل التحقيق في تفجير المرفأ، أو من خلال التشديد  على التغيير وأهمية النقاء الثوري. ورغم كثافة الدعوات وأهمية المطالب المشروعة، بالمقابل يستمر ضمور عدد المشاركين في التحركات.

ومع الدخول في موسم الانتخابات النيابية المفترضة برزت التناقضات في الرؤية السياسية، بين المجموعات حول شعار “كُلن يعني كُلن”. من خلال الترويج لبعض أطراف المنظومة بأنه متعاطف مع الثورة، وأنه يمثل وزناً انتخابياً وسياسياً، ولماذا لا نستفيد منه مرحلياً، لأننا لا نملك الماكنات الانتخابية، ولا القدرة المالية على خوض الانتخابات وتحقيق خروقات. وبذلك نكون قد استغلينا موقع تلك الأطراف في السلطة، واستفدنا من إمكاناتها. بينما العكس هو الصحيح، فالمستفيد هو الطرف الذي استعمل مجموعات الانتفاضة  ليعلن أن الثورة والتغييرات تتحقق من خلالة، ولنا في نتائج الانتخابات الطلابية في بعض الجامعات مثلاً على ذلك.

يتوافق هذا الطرح السياسي مع المجموعات السيادية وموقفها من سلاح حزب الله وضرورة تنفيذ القرار 1559 وباقي القررات الدولية، لإعطاء زخم  لطرحها السياسي، خاصة بعد انفجار المرفأ الذى دمّر أجزاء من العاصمة في المناطق ذات الأكثرية السكانية المسيحية.

وتلعب  القوات اللبنانية  دوراً اساسياً بين  المجموعات السيادية أو التي تطرح الفدرالية، وهي التي تطالب بالتنسيق والعمل  معاً  من أجل  جعل  شعار نزع سلاح حزب الله مطلباً أساسياً. سواء لتبرير دورها، أو لشد العصب الطائفي  في خدمة أجندتها وصراعها السياسي مع اطراف السطة، وبما يضعها ضمن الحسابات الاقليمية والدولية.

وبذلك تقدم هذه القوى “السيادية” خدمة مجانية  لـ حزب الله كي يتماسك أمام بيئته الشيعية. مما يوفر ايضاً التبريرات الكافية لبقية أحزاب السلطة لشد عصب قواعدها الطائفية أو الفئوية، لتحصين ادوارها على حساب الانتفاضة ومختلف الأطراف الفعلية التي تنادي بالتغيير الحقيقي.

أما المجوعات الأخرى التى غاب عن خطابها مصالح الكتل الشعبية والنقابية و قطاعات وفئات المجتمع  كافة، فإنها لا تزال تلهث بحثاً عن دور لها عبر تكرار طرح شعارات كبيرة لا تؤثر فعلياً على المنظومة، ولا على الحاكم والمتحكم  بالقرار.

من الواضح أن كثرة النداءات التي توجهها مجموعات الانتفاضة للقيام بتحركات، لم تلقَ اذاناً صاغية. ورغم الأزمة الاقتصادية الخانقة وارتفاع سعر الدولار وغلاء المحرقات والدواء بشكل خيالي وصولاً الى سعر ربطة الخبز، فإن الناس لم تحرك ساكناً، لأن كل الطروحات خارج اهتماماتها ومصالحها، ولذلك نراها تركض وراء لقمة عيشها.

لقد تفاقمت إشكالات مجموعات الانتفاضة، مع دخولها في التحضير للانتخابات النيابية المفترضة، وتكاثر الدعوات إلى خوض غمارها. لكن المشكلة تتعلق بآلية المشاركة، وصيغة عقد التحالفات.  لقد بدأت تظهر بوادر اللوائح الانتخابية في عدد من الدوائر  حيث تتنافس المجموعات. وهي  الآن تخوض صراعاً شرساً فيما بينها حول التمثيل في المناطق. كما يُسجل نشاط  المنصات الانتخابية التي تدَّعي أنها بصدد تنظيم تشكيل اللوائح والحملات الانتخابية للمرشحين، من منصتي “نحو الوطن” و”كلنا ارادة” المتنافستين، إلى منصة “سوا للبنان” التابعة لبهاء الحريري، وصولاً إلى التحضير لإعلان المزيد من المنصات الجديدة. مما يطرح الكثير من الأسئلة حول المرجعيات السياسية لتلك المنصات، ومصادر تمويلها، سواء في الداخل أو من الخارج. ما يضعها جميعاً موضع شبهة من حيث الأهداف والغايات، بصرف النظر عن شعارات التغيير ومكافحة الفساد، التي تستخدم للتضليل والتعمية على التنافس في تبني وتسويق المرشحين. وتجهد هذه المنصات وبعض هيئات المجتمع المدني لاستقطاب وتجميع المجموعات تحت مظلتها، وقد بدأت بتحضير اللوائح عبر تأجيج الصراعات من خلال التلاعب بالمجموعات والمرشحين، وعلاقتهم مع المنصات الانتخابية صاحبة التمويل المالي، مما أدى إلى احتدام الخلافات بينهم، في ظل تضارب المصالح بين المنصات لاقتسام تمثيل المجموعات.

ويتضاعف المأزق مع فقدان مجموعات الانتفاضة الكثير من زخم حركتها، وكشف حدود ادوارها واحجامها، وحجم الخروقات داخلها. سواء عبر انكشاف من هم  بمثابة ودائع لأحزاب السلطة، أو من خلال الناشطين الكُثر الساعين للترشح، والذين يتوسلون الدعم المالي والاحتضان من مواقع نفوذ مالي أو سياسي، أو من نواب غير مرتبطين مباشرة بأحزاب السلطة، في محاولات منهم للترشح على أي لائحة مهما كان الثمن. وبهذا تكون أحزاب السلطة قد ضمنت إلى جانب لوائحها الخاصة مشاركتها في تشكيل اللوائح المعارضة عبر ودائعها، ما يجعل هذه اللوائح ردائف لخدمة السلطة. أما لوائح المنصات وهيئات المجتمع المدني، فالمؤكد هو ارتباطها بالمرجعيات السياسية للمنصات حسب شروط الممِّول، مما يبقي ولاءاتها موزعة بين دوائر السلطة في الداخل  ومراجعها في الخارج، وكلاهما يستهدف استغلال الانتخابات سواء لتعزيز نفوذه أو في خدمة مصالحه.

يبقى السؤال حول مستوى التمثيل والوزن الانتخابي لمجموعات الانتفاضة وحدود فعالية أدوارها قياساً على ما تطرحه من برامج وشعارات. بالإضافة إلى مدى حصانتها في ظل ضعف إمكاناتها أمام إغراءات المنصات  الجاهزة لاستغلال أسمائها وتفكيكها. الأمر الذي يعكس حجم الأوهام بشأن قدرة الانتخابات المقبلة والمجموعات على إحداث التغيير السياسي، وبداية التحوُّل “الثوري” في بنية النظام!!.

ومن المفارقة أن كل مجموعات الانتفاضة التي تدعو المواطنين للنزول إلى الشارع والتظاهر دفاعاً عن لقمة عيشها، لم تبادر إلى حمل المطالب الحيوية للشعب اللبناني بقطاعاته المجتمعية والنقابية المتضررة، ولا الهموم المعيشية والحياتية للطلاب وأساتذة التعليم الثانوي والجامعات ومستخدمي قطاعات المصالح المستقلة وموظفي القطاع العام. إذ ليس تفصيلاً أن تتجاهل تلك المجموعات تحركات السائقين العموميين الذين تمردوا عن النقابات التي جيَّرت التحرك لصالح قوى السلطة وأحزابها، أو عن  تحرك مزارعي التبغ في الجنوب دفاعاً عن حقوقهم في مواجهة إدارة شركة الريجي وهيمنة  احزاب السلطة عليها، وأن لا يصدر عنها حتى التأييد اللفظي لحقوق ومطالب تلك القطاعات.

إن تحقيق اختراق في الاستحقاق النيابي القادم يبقى احتمالاً قائماً.  لكن شرطه  الأساس هو التنسيق بين القوى والمجموعات المستقلة عن منظومة السلطة. واعتماد الحوار المسؤول وتغليب المصلحة العامة للقوى، رغم التباينات في ما بينها، بعيداً عن الإقصاء والإلغاء والتخوين للآخر، والعمل على تشكيل لوائح موحدة. ولتحقيق ذلك، لا بد من استخلاص الدروس والتجارب من انتخابات نقابتي المهندسين والمحامين، ومعها انتخابات الطلابية في الجامعات الخاصة، للإفادة منها في التحضير للانتخابات النيابية، وكذلك البلدية التي لا تقل أهمية عن الأولى.

وهنا تبرز أهمية تبني مجموعات الانتفاضة مطالب القطاعات الشعبية والمهنية والسعي إلى تمثيل مصالحها واستنباط الأدوات النضالية، وتحصينها سياسياً ونضالياً مدخلاً لخوض الانتخابات، بعيداً عن استسهال الوصول إلى السلطة، وتوهم الفوز بعضوية المجلس النيابي وسرعة تحقيق التغيير .

من المؤكد أن التغيير بحاجة إلى سنوات من النضال القاعدي لبناء تيار شعبي يحمل قضايا ومصالح الفئات الاجتماعية، يدافع عن حقوقها ويسعى معها إلى تحقيق مطالبها، وعدم الاكتفاء برفع الشعارات كما يفعل العديد من المجموعات. فاستعصاء التغيير الديمقرطي لا يعود فقط إلى تماسك قوى السلطة،  ولا إلى  الظروف الاقليمية والدولية، ولكن أيضاً إلى  غياب  القوى الديمقراطية القادرة على بلورة برنامج تغييري وطرح خطاب اجتماعي وطني يؤسس لإستنهاض قوى المجتمع بمختلف فئاته ونقاباته وأطره المشتركة.

 

 

 

Leave a Comment