اقتصاد مجتمع

ماذا في جعبة حكومة تصريف الاعمال بعد رفع دعم حليب الاطفال؟ الاجتماعات الموسمية قاصرة عن الرد على تحديات الانهيار الشامل

زهير هواري

آخرما تفتقت عنه حكومة تصريف اعمال الرئيس نجيب ميقاتي هو ما أعلنه مطلع الاسبوع الجاري وزير الصحة فراس الابيض عن رفع الدعم عن حليب الاطفال. أما الذريعة التي اطلقها الابيض على قراره الأسود فهي أن أموال الدعم المخصصة لا تستطيع أن تغطي حاجتي لبنان وسوريا، باعتبار أن تهريب هذه السلعة قائم على قدم وساق ولا من يراقب. وهكذا بدل مكافحة التهريب وضبط المعابر التي يتم منها ارسال المادة المدعومة إلى سوريا، وضع الابيض اللبنانيين أمام خيار وحيد أوحد هو رفع الدعم،. باعتبار أن موجودات المصرف المركزي من العملات الصعبة لم يعد بمقدورها الاستمرار. وهو ما حصل تماماً في موضوع السلع الغذائية الاساسية كالارز والسكر والاجبان والألبان واللحوم والزيوت والادوية والمستلزمات الطبية والمحروقات، التي باتت جميعاً خاضعة بالكامل لتقلبات سعر صرف الدولار في السوق المحلي، وارتفاع أسعارها عالمياً وتلاعب وجشع التجار محلياً. وهكذا وبقرار من وزير يفترض أنه مسؤول عن صحة اللبنانيين وخصوصاً الاطفال منهم،  صدرت أحكام على هذه الفئة الهشة يحول دون حصولهم  على حليبهم اليومي، وما عليهم سوى أن يحصدوا سوء التغذية في هذه المرحلة العمرية التي تحتاج إلى توفير سائر عناصر ومقومات النمو الطبيعي. ومباشرة أعلن رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني البحصلي أن أسعار هذا المنتج سترتفع في الاسواق بنسبة 50%. وعليه بات سعر العبوة من الحليب يتراوح بين 400 ألف و700 ألفاً. بالطبع هناك أسعار أرخص بقليل وأسعار أغلى بكثير تبعاً لنوعية الحليب، وهناك هامش الربح المتفاوت والمرتفع في ظل انعدام الرقابة على الصيدليات، التي باتت تحدد الاسعار تبعاً لمدى جشع أو أريحية الصيدلي. ولكن نسبة الارتفاع التي أشار إليها البحصلي تبقى مبدئية، باعتبار أن الدولار يتجه صعوداً دوما مع استراحات قصيرة، ما يعني أن أطفال معظم اللبنانيين سيعانون جرَّاء فقدان هذا العنصر الغذائي الاساسي لنموهم الطبيعي.

من الحليب إلى الدواء والضمانات

والواقع أن هذا المعطى المستجد يضيف جديداً إلى أزمة حصول اللبنانيين على المواد الغذائية لتأمين قوتهم. ففي غضون الأشهر السابقة تابعت وتتابع الليرة انحدارها ولامست الخمسين ألفاً للدولار الواحد، ومعها ارتفعت كلفة العيش بنسبة إلى حدود الـ 200%، ما جعل لبنان من بين الدول الأسوأ عالمياُ على صعيد مقومات العيش. وهكذا ضاعت عملية التوازن التي كانت تتضمنها السلة الغذائية التي على أساسها يجري تحديد الحد الأدنى للاجور. والسلة كانت تشمل بين ما تشمله الطعام بما فيه اللحوم والسمك والدجاج والفواكه والشراب والألبسة والصحة والتعليم والنقل والخدمات والترفيه والمناسبات الاجتماعية وما شابه. بالطبع خلال الأشهر السابقة من عمر هذه الحكومة جرى نسبياً تحرير سعر القمح، وحُصر الدعم بكميات الطحين المخصصة للخبز العربي، ما أفاد منه كل من أصحاب المطاحن والافران على حد سواء، من خلال إضافة المستلزمات غير المدعومة التي تتطلبها عملية الإنتاج من محروقات وخميرة ونايلون وغيرها. ومع كل هذه الزيادات ارتفع سعر ربطة الخبز إلى حدود العشرين ألف ليرة ونقص وزنها. علماً أن بعض الانواع بلغت 35 ألف ليرة ( أسمر أو قمحة كاملة)، وكيلو الكعك إلى أكثر من 120 ألف ليرة. وهنا لا نتحدث عن أسعار المنقوشة والحلوى العربية وغيرها من معجنات. إذن لم يتبق سوى الطحين للخبز العربي يحصل على بعض الدعم. لكن معاناة اللبنانيين تتجاوز تأمين القوت اليومي، إذ هناك متطلبات حاسمة لجهة أهمية تأمينها، فأدوية الامراض السرطانية المدعومة تنقطع دوماً عن المرضى ما يتهدد حياتهم، ويرغم ذووهم إلى التوجه نحو الاقارب للحصول عليها من الاسواق الخارجية، أو بأسعار خيالية من المخزون المخبأ في المستودعات. يحدث هذا في ظل انهيار تقديمات الصناديق الضامنة بدءاً من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مرورا بالطبابة العسكرية وصناديق تعاضد القُضاة وأساتذة الجامعة وتعاونية الموظفين وغيرها. ويزداد الوضع سوءاً مع كلفة العمليات الجراحية والقطع البديلة المدورلة بالكامل والتي لم تحظ سابقاً بالتغطية من الهيئات والشركات الضامنة (مرفق، كتف، حوض، صمامات وبطاريات فلب وما يماثلها)، ما يعني أن حياة اللبنانيين باتت رهينة هذا الوضع، خصوصاً ونحن نتحدث عن أكلاف تقدر بعشرات الملايين من الليرات شهرياً. وما يصح على المصابين بالسرطان يصح على مرضى غسيل الكلى وسائر أصحاب الامراض المزمنة، الذين لا يجدون سوى توجيه النداء لفاعلي الخير والمتبرعين لتغطية أكلاف “أكسير” حياتهم.  وبات من معه ولديه مصادر دخل أو موجودات بالدولار أو عقارات قابلة للتسييل يستطيع تأمين حاجاته، ومن ليس معه معرض للموت شرط توفير أكلاف الجنازة والمقبرة وخدمات رجال الدين ولتقديم الواجبات من قهوة وأكاليل وغيرها. وكله يفسر قوافل الهجرة غير الشرعية رغم ارتفاع منسوب المخاطر الذي يتهدد المغامرين بالهروب وسط تلاطم الامواج وتجار تهريب البشر وعشوائية المحاولات وانعدام الحد الأدنى من شروط السلامة.

انهيار الأجور والعمل النقابي

على أن صورة الوضع لا تكتمل على هذا النحو، بل يجب أن تضاف إليها أعداد العاطلين عن العمل والمقدرة بحوالي 30 % من قوة العمل، ومسألة الأجورالتي يتقاضاها اللبنانيون، وهي واحدة من القضايا الشائكة وسط الانهيار المتمادي لسعر صرف الليرة، وبالتالي العجز عن توفير الحد الأدنى من وسائل العيش مهما كانت فئة الأجر. ومن المعلوم أن القاعدة السائرة سابقاً كانت تتمثل في تحرك القطاع الخاص نحو الحصول على ما تخسره الاجور نتيجة التضخم وارتفاع الاسعار، وكانت المفاوضات عسيرة مع وزارة العمل وأرباب العمل، وعادة ما كانت تنتهي بتسوية بين رقمي الاتحاد العمالي العام وما تقدمه الدولة وأرباب العمل.  وما يحصل عليه القطاع الخاص ينسحب على القطاع العام. الآن شمل الانهيار فئات لم تكن في مضمار التحرك النقابي قبلاً، بالنظر إلى تصنيفها في خانة الطبقة الوسطى الميسورة ( أطباء، مهندسون، محامون، وأساتذة جامعيون و..). يوازيه، ما آل إليه الاتحاد والاتحادات المكونة من ضمور وتبعية ومصادرة لدوره من جانب المنظومة السياسية منذ تراجع اليسار عن لعب دوره الاجتماعي – الطبقي، ووضعت القوى الطائفية اليد على الحركة النقابية وجردتها من استقلاليتها التي كانت مصدر قوتها أمام السلطة من جهة، والمجتمع الأهلي من جهة ثانية. ولعله كان من البديهي في ظل هذا القصور أن ينبري القطاع العام للخوض في سلسلة من الاضرابات المتتالية، وأبرزها كان امتناع  القُضاة عن القيام بدورهم، وكذلك  أساتذة الجامعة اللبنانية في الملاك والتفرغ والتعاقد، ومعلمي وأساتذة المدارس المهنية والتقنية والاكاديمية، وقبلهم موظفي االإدارة ومؤسسات القطاع العام وغيرها. وبالنظر إلى المطالب التي يرفعها هؤلاء يتبين أن الحلقة التي يصعب كسرها تتمثل في انهيار مؤسسات السلطة السياسية التنفيذية والتشريعية والخدماتية على حد سواء، وشللها في مواجهة الانحدار المتسارع ومترتباته. وعليه، انسحب الوضع على تقدير الأجر الفعلي الذي يجب أن يحصل عليه هؤلاء لتأمين ثبات رواتبهم على حد معين من التدهور الذي يطال الجميع. إذن ينطلق هؤلاء من عجز الاجور عن اللحاق بوتيرة انهيار سعر صرف الليرة وحركة الاسعار الصاعدة دوماً  في الاسواق، والتي باتت مدولرة على أساس يتجاوز ما يعلنه سعر الصرف اليومي من ارتفاع للدولار وانخفاض لليرة. فعملياً يعمد التجار على ضرب بضائعهم بمبلغ لا يقل عن 5 – 6 الآف ليرة إضافة إلى سعر التداول في السوق الموازية، من هنا يطرح البعض دولرة الرواتب لإعادة الاعتبار والقدرة الشرائية لها. وهو أيضاً يدخل في باب المستحيلات بالنظر إلى فقدان المالية العامة والمصرف المركزي الاحتياط الكافي بالعملات الاجنبية، مقروناً بالانسداد السياسي الذي يستنزف الليرة على نحو يومي. وهو وضع يفتح على قاع لا قعر له. يبدو الوضع معقداً أمام أي محاولة للجم انهيار قيمة الأجر الفعلية. ولذلك ليس من قبيل الصدف أن تدخل في المعمعة فئات جديدة يمكن تسميتها بالقضاة والمحامين والمهندسين وأساتذة الجامعة اللبنانية وصنوف المودعين في المصارف. لكن بعد عقد أرباب المهن الحرة والروابط التعليمية أكثر من اجتماع للتنسيق بحضور عدد من الكيانات والاتحادات والروابط المهنية، لم يبد أن لديهم النَفَس الطويل بخوض مواجهة ناجحة مع السلطة السياسية التي تتلاعب بالاستحقاقات والمصير اللبناني، مع ما يرافقه من انهيارات اقتصادية ومعيشية ومؤسساتية. وهكذا ضاعت مسؤولية السلطة التي قاربته بعضها، من دون أن يتبع ذلك استكمال البحث ووضع خطة مواجهة فعلية كانت قد وعدت بها ودعت إليها.

الاتحاد العمالي الأكثر غياباً

أما الاتحاد العمالي العام الغائب منذ عقود وسنوات طويلة ، فهو الآخر لم يخرج عن دائرة قصور ردود الفعل على الوضع الاجتماعي المعيشي المتأزم. وأقصى ما جادت به قريحته لم يكن أكثر من التفاوض مع رئيس الحكومة وممثلي أرباب العمل ومطالبتهم بتصحيح الاجور للقطاع الخاص ورفع الحد الأدنى منه إل مبلغ 4.500.000 شهرياً بعد أن كان 2.600.000 وزيادة بدل المواصلات من 90 ألفاً إلى 125 ألفاً ومضاعفة المنح المدرسية، والتعويضات العائلية 3 مرات أي حوالي 10 ملايين ليرة مع استكمال البحث في تحويل تعويض نهاية الخدمة إلى معاش تقاعدي في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. هذا جوهر الطرح الذي قدمه الاتحاد الذي يفاوض على حد أدنى أقل من مائة دولار ومعرض للاستنزاف كلما تراجعت الليرة . وطرح الاتحاد يثير الكثير من الأسئلة حول القيمة الفعلية للأجر الشهري ووظيفته، كما فاوض عليه الاتحاد وقدرته على تأمين أبسط متطلبات العيش. والذي لا يساوي في الانفاق الفعلي بدل اشتراك شهري في مولد كهرباء الحي.

أما على صعيد الحركة التعليمية في القطاع العام فيبدو أن الوضع خاضع لتجاذبات القاعدة مع القيادات النظامية للروابط الرسمية لجهة متابعة الاضراب أو العودة إلى التعليم. وهو ما دفع إلى استقالات احتجاجية في العيئات الإدارية والمواقع القيادية، هذا أولا وثانياً يبدو أن الموضوع المركزي هو رفض الـ 5 دولارات عن يوم العمل و المطالبة بالـ 90 دولاراً شهرياً كمكافأة حضور للعمل، بينما بيت القصيد هو بقاء أو تلاشي قطاع التعليم الرسمي برمته، فما ينطبق على التعليم العام ينطبق هو الآخر على الجامعة اللبنانية، إذ الواضح أن هناك زحفاً منهما نحو التعليم الخاص العام والعالي، ما يهدد ببقاء القطاع بمدارسه وجامعته بفروعها وإدارته ومعلميه وأساتذته. إذ ماذا ينفع الهيئات التعليمية اذا ما صارت المدارس والجامعة الوطنية دون طلاب أو بعدد منهم يزيد عن عدد الأساتذة!. لا يعني ذلك تحميل عبء التقطع الدراسي والأزمات للمعلمين والأساتذة، بل للقول أن هناك معادلة تسوية يجب أن يستقر عليها الوضع بما يكفل قدرة الهيئات التعليمية على القيام بواجبها التعليمي، وتخلي الدولة عن سياستها في تدمير هذا القطاع الذي ينزف عشرات الألوف من التلامذة والطلاب سنوياً. والأهم يتمثل في التفكير من موقع المعارضة الفعلية لسياسات المنظومة التي لا تقدم حلولاً لأي من المعضلات الراهنة مهما كان نوع وقيمة “المساعدة الاجتماعية” التي تقبل لدعم الأجور.

ويبقى الأهم أنه دون إستعادة الحركة النقابية في مواقعها المتعددة والمتنوعة لاستقلاليتها وقدرتها على طرح فعلي يربط بين ما تعانيه من إجحاف، وما يعانيه الوطن ومؤسساته السياسية واقتصاده وأحوال معيشته، لا أمل بلجم استمرار استهتار هذه الطبقة المافياوية بمصير البلد وأهله، الذين يعانون حرمان أبنائهم من الحليب والكتاب المدرسي وثلاث وجبات طعام يومي ككل شعوب الكوكب.

Leave a Comment