صحف وآراء مجتمع

إما الدولة أو … الموت على وجه الجدار

هاني عانوتي*

لن تُكتب قيامة حقيقية للبنان من دون قيامة الدولة، ولن تقوم الدولة إذا لم نضع بلدنا على سكة الإنتقال من هذا النظام الطائفي المقيت إلى رحاب نظام المواطنة.

يستمد كيانُ أي دولة صلابته وقوته من خلال سلسلة من التراكمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية للمجتمع نفسه. وبالتالي، يصبح مفهوم الدولة وقدرتها على استيعاب أبنائها من جهة، وقدرة أبنائها على الإيمان بها والدفاع عنها مادياً ومعنوياً، مرتبطاً حكماً بالعقد الاجتماعي وليس العقد السياسي. غير أن المعضلة تكمن في ضبط “ميزان الذهب” وخصوصاً العلاقة الحساسة بين المواطن والدولة في الإتجاهين (الحقوق والواجبات).

أما في عالمنا العربي، فإن مفهوم الدولة هو نموذج حديث مرتبط بحقبة الاستعمار من خلال عصبة الأمم وطريقة ترسيم وإنشاء الدول. تكاد مصر تكون الإستثناء الوحيد عربياً؛ ذلك أن الدولة بمفهومها ومؤسساتها ورمزيتها تحفر عميقاً في وجدان هذا البلد. لنأخذ فترة حكم محمد علي باشا الذي انشأ الملكية الحديثة بمقومات دولة متطورة بمؤسساتها وفكرها وإيديولوجيتها. أما باقي الدول العربية، فمعظمها حديثة النشأة، أي أقل من 100 سنة، فتم فرض نظام الدولة فيها (بعكس مصر) من الخارج، أي أنها لم تختبر على مرّ تاريخها أي نظام آخر سوى الخلافة الاسلامية. وهذا قد يكون أحد الدلالات العلمية على مدى هشاشة هذه الدول وافتقارها للحد الأدنى من مقومات الحياة والحداثة والعدالة والتنمية والأهم.. العقد الاجتماعي.

وبالرغم من بعض الحداثة العمرانية في بعض هذه الدول وخصوصاً النفطية منها، تبقى جميعها (بما فيها النفطية) هشة، تفتقر الى العقد الاجتماعي العادل، ومبنية على الأنا الفردية التسلطية للحاكم الفرد. وانطلاقاً من قاعدة الحاكم مسؤول، يتحمل من تعاقب على ادارة وحكم هذه الدول المسؤولية في عدم بناء “دولة” وارساء نهجها ومفهومها ضمن ثقافة وعقيدة المجتمع. الا ان ذلك لا يُعفي أبداً تواطؤ الأفراد والمجموعات الحزبية والدينية على اهمال فكر الدولة ومؤسساتها في المجتمع. ألم تنطلق الثورة الفرنسية في العام 1789 من الفرد المطالب بإحقاق العدالة والأخوة والحرية واقامة العقد الاجتماعي العادل؟ ألم تُطالب القوى المجتمعية في العديد من الدول الاسكندنافية حكامها بإرساء الدولة، حتى بات الأفراد والجماعات هناك من أشرس المدافعين عنها اليوم، واكثرهم حفاظاً عليها؟ هذا يدل على أن الدولة كنظرية فلسفية، تأتي من صلب المجتمع ولخدمة المجتمع.

أما في لبنان الذي لا يختلف في العمق عن باقي دول المنطقة، فهو الأبعد عن فكرة الدولة وأكثرهم رفضاً لها. ولكن السؤال الأكبر لحل معضلة بناء الدولة في لبنان هو تعريف وفهم الدولة ومفهومها. فما هي الدولة؟

الدولة بالمعنى الأكاديمي، كما وصفها الفيلسوف السياسي البريطاني توماس هوبس في كتابه ( Leviathan  السفينة الضخمة)، هي عبارة عن عقد بين الأفراد، “يُدين فيها صاحب السيادة

بسلطته لإرادة أولئك الذين يحكمهم، وهو ملزم بحماية مصالح المحكومين من خلال ضمان السلم والأمن الأهلي”. يُضيف هوبس أن نقيض الدولة وخصوصاً دولة القانون هو دولة شريعة الغاب (النموذج السائد حالياً في لبنان). طبعاً تطور مفهوم الدولة وحماية مصالح الشعب مرتبط بعدالة العقد الاجتماعي الذي استفاض في شرحه فيلسوف الثورة الفرنسية، جان جاك روسو.

من هنا، علينا التفريق بين الدولة والنظام. فغالباً ما يعمد قادة الاحزاب والسياسة ورجالات الحكم في لبنان الى الخلط أو الدمج بين النظام والدولة. وهذا المفهوم خاطئ ومُضلّل للرأي العام، برغم أن الدولة والنظام يُكملان بعضهما البعض. ولا يمكن إحداث تغيير في أيٍ منهما دون التأثير على الآخر. لان الترابط بينهما قد يصل الى حد التوأمة. ففي العديد من الدول الديكتاتورية لا فصل بين الدولة والنظام، إلى حد أن النظام يُسيطر على الدولة كما هو الحال في سوريا، وبالتالي يؤدي سقوط النظام إلى سقوط الدولة. اما في الحالة الصومالية، فقد أدى سقوط الدولة إلى سقوط النظام، وفتح الباب أمام الفوضى والحروب. وفي حالة لبنان، فقد سيّطرت المنظومة وأحزابها على الدولة ودمّرتها شر تدمير.

ان التجربة اليتيمة والوحيدة لبناء الدولة في لبنان والتي ما زلنا نعيش على انقاضها وما تبقى من مؤسساتها هي فترة حكم الرئيس فؤاد شهاب. كانت تجربة ناجحةً، ولكن تم تقويضها ونسفها من خلال التركيبة الطائفية، وبسبب طغيان المصالح الشخصية والفئوية على المصالح الوطنية والمجتمعية.

ومنذ نشأة لبنان قبل مائة سنة، لم يُقدّم أي من الأحزاب والشخصيات السياسية والدينية رؤية واضحة للدولة التي يشتهيها اللبنانيون، أي الدولة العادلة والقادرة والحاضنة للتنوع والتعددية اللبنانية؛ دولة القانون والمؤسسات والعقد الاجتماعي العادل. جُلّ ما قُدم، شعارات فضفاضة وأفكار ذات طابع حزبي او ايديولوجي مُعين تخدم اصحابها. وبالتالي فشل الجميع من دون استثناء، في الخروج من المجتمعات الحزبية المناطقية الزبائنية الطائفية والدينية الضيقة، الى حضن الدولة.

اليوم وبعد أكثر من ثلاث سنوات على الانهيار الإقتصادي والمالي والنقدي والإجتماعي، وعلى عتبة سنة جديدة، لم يبقَ لنا سوى الأمل ببناء الدولة كمشروع خلاص للبنان.

لقد سئمنا من التجارب الحزبية والميليشياوية والمناطقية والطوائفية الضيقة. لقد سئمنا من الحروب والتعطيل وغياب الخدمات واللامبالاة.

انهكتنا دولة شريعة الغاب المتربصة بنا منذ ما قبل الحرب الأهلية.

تعبنا، ولكن سنظل نطالب بإنشاء الدولة، دولة القانون.

سنظل نطالب ببناء المؤسسات وباحترام العقد الاجتماعي.

لن نسكت بأمل أن تُفتح، في يوم ما عسى ألا يكون بعيداً، ثغرة في جدار الجهل والرجعية والفساد. ثغرة تأخذنا إلى مشروع بناء الدولة.. والا سنظل عبيد الخوف والقلق والحاجة وخُدّام الزعامات والموت المحتم في ازقة دولة شريعة الغاب.

أختم بما قاله شاعر اليمن الراحل عبد العزيز صالح المقالح عن الأمل والعزيمة والانتصار: الصمت عار/ الخوف عار/ من نحن؟/ عُشّاق النهار/ سنظل نحفر في الجدار/ إما فتحنا ثغرة للنور/ أو مُتنا على وجه الجدار.

*هاني عانوتي باحث، أستاذ جامعي لبناني، نشرت في  03/1/2023 180Post

Leave a Comment