كتب الدكتور بول طبر
قوة النظام الطائفي والقدرة الفائقة للمدافعين عنه في لبنان على منع تحقيق التغيير (صد مطالب إنتفاضة 17 تشرين هو المحاولة الأخيرة في هذا المجال)، تعودان إلى تغوّل الطائفية، أي تمدد نفوذ “أقطاب” النظام الطائفي ليطال جميع المجالات الإجتماعية في لبنان، ومن ضمنها المؤسسات الدينية للطوائف نفسها.
وإذا انطلقنا من الدولة، نجد أن وظائفها المتعددة، السياسية منها والتشريعية والقضائية والتنفيذية والإدارية، موزّعة على أساس الحصص التي تعود لكل طائفة، وهي ستة طوائف أساسية. ويتكرّس هذا الطابع الطائفي للدولة من خلال الهوية والتنظيم الطائفيين للاحزاب السياسية الرئيسية في البلد، وعموم الممارسات السياسية الملازمة لتلك الأحزاب. وبعد إتفاق الطائف، تميَّزت الأحزاب الرئيسية والمشاركة في تكوين السلطة في الإعلان الصريح والمباشر عن هويتها الطائفية، ودفاعها عن “مصلحة” الطائفة التي تدّعي تمثيلها. فليس مستغرباً في هذه الأيام أن تسمع الرئيس الماروني للجمهورية يطالب باسترجاع صلاحياته المسلوبة، وبأنه ينتمي إلى التيار السياسي الذي يمثل أغلبية المسيحيين. وبالمقابل نسمع رئيس الوزراء معلناً أنه “أب السنة” في لبنان، وأن الثنائي حزب الله وحركة أمل، يختزلان بمن يشاءان تمّثيل الطائفة الشيعية بامتياز.
وإذا انتقلنا إلى المجال الإقتصادي، نجد أن الطائفية فاعلة ونافذة على مختلف المستويات، بما هي آلية توزيع للمنافع المادية. ففي دائرة القطاع العام، تتوزع الوظائف، بمختلف أشكالها المثبتة والدائمة والمؤقتة، على زعماء الطوائف لجهة عدد الموظفين لصالح هذا الطرف أو ذاك. وتتحدد مختلف المجالات والمراتب التي يوزعونها على أنصارهم والمحاسيب في علاقة زبائنية مكرَّسة
ويتم تلزيم المشاريع التابعة للدولة وفق المحاصصة الطائفية نفسها. ولا تكون فقط مشاريع الدولة هذه عرضة للمحاصصة بين زعماء الطوائف وتوزيعها على أتباعهم حسب أهمية الدور الذي يقومون به في عملية إعادة إنتاج زعامتهم (أي الرأسمال السياسي المفوّض). بل هي أيضاً (أي المشاريع) موضوع نزاع بين زعماء الطوائف على اختيار نوعية المشاريع أولاً، وتحديد أماكن تنفيذها ثانياً، حسب الانتشار الجغرافي لطوائف (أتباع) الزعماء أنفسهم.
القطاع العام بصفته مالكاً ومتحكماً بالموارد الإقتصادية العامة (مشاريع، تلزيمات، وظائف وترقيات، إلخ)، ليس ملعباً وحيداً لنفوذ الزعماء الطائفيين والمحاصصة الطائفية. يتمتع هؤلاء الزعماء بنفوذ مماثل إلى حد كبير في القطاع الخاص ومرافقه الرئيسية. ومصدر هذا النفوذ يعود أيضاً إلى تحكم هؤلاء الزعماء بالقطاع الخاص عن طريق خضوعه القانوني لإطلاق يده في الإستثمار وجني الأرباح. ويتم ذلك مع مراعاة دائمة لمبدأ المحاصصة (وهو مبدأ غير ثابت لخضوعه الدائم للنزاعات حول حصة كل طرف)، كما هي الحال في تحكمهم بالقطاع العام. ويتمثل هذا التحكم بالسيطرة على إعطاء الرخص للإستثمار وتوزيع الوكالات الحصرية والإعفاءات الضربية وغيرها. بالمقابل يحصل أقطاب السلطة الطائفية والدائرة المقربة منهم (وزراء ونواب ومديرين عاميين وقيادات أمنية وعسكرية وقضاة) على مكافآت عديدة تشتمل على الشراكة في المشاريع المعنية، وحصولهم على كوتا من الوظائف لتوزيعها على زبانيتهم، وحق الإنضمام إلى مجالس الإدارة والحصول على مكافآت نقدية، وما إلى ذلك من تنفيعات أخرى. وبناءً على ذلك يصح إطلاق تسمية النظام الإقتصادي في لبنان بأنه نظام رأسمالي طائفي.
وكذلك تتحكم رموز السلطة الطائفية في تقديم وتوفير الخدمات العامة والخاصة لللبنانيين، أكانت هذه الخدمات تتعلق بالبلديات والمخاتير أو بالتعليم والصحة وتوفير البنية التحتية للعيش الكريم، كتزفيت الطريق وتأمين شبكة المياه ومد مجاري الصرف الصحي أو إعطاء الرخص لبناء منزل أو حفر بئر ماء إلخ.
وعكس ما يعتقده البعض بأن الطائفية تعني سيطرة رجال الدين على المجتمع والدولة، فهي أساساً سيطرة السلطة وممثليها على المؤسسات الدينية، وخضوع هذه الأخيرة لزعماء الطائفة التي يدعون النطق باسمها. الطائفية هي تسييس للدين، وليستْ تدْيين السياسة. من هنا الإهتمام البالغ لدى الأقطاب الطائفيين بالعمل الجاد لتأمين وصول التابعين لهم إلى قيادات المؤسسات الدينية، وما يلازم هذه التبعية من منافع مادية تقدمها “الدولة” بواسطة أقطاب السلطة للمؤسسات الدينية (المذهبية) من معونات لمدارسها وجمعياتها، عدا الإعفاءات الضريبية على أراضيها وممتلكاتها.
أمام هذا التغوُّل للطائفية المعْتَمِد أساساً على السلطة وأحزابها السياسية والنظام السياسي في لبنان، نعثر على السبب الرئيسي وراء صعوبة تغيير النظام في لبنان، ونشير إلى أحد الأسباب الأساسية التي تجعل من مهمة إسقاط السلطة أو إصلاح النظام أمراً بالغ الصعوبة. إنه تغوّل يجعل الإقتصاد في خدمة السياسة والسياسيين، ويتحول بموجب هذا الأمر غالبية سكان لبنان إلى رهينة بيد السلطة ورموزها، وإن بدرجات متفاوتة. هؤلاء الرهائن “الغفيرة” هم عماد السلطة الطائفية في لبنان، وإليهم ترتكز رموز السلطة وأدواتها في تلكؤها ومناوراتها، وكل ما تملكه من أساليب ملتوية للحفاظ على النظام القائم بكل مساوئه وتداعياته على لبنان وشعبه.
بناءً على ما سبق، نؤكد ليس فقط على أهمية النضال لإسقاط النظام الطائفي، لا بل على مركزية هذا المطلب مدخلاً أساسياً للعبور إلى دولة المواطنة وتكافؤ الفرص وتحرير الدولة والإقتصاد (بمختلف فئاته الطبقية) والثقافة من الطائفية ومفاعيلها التمييزية والإستغلالية المركّبة. إن إطلاق مسار تحرير السياسة والإقتصاد (وهو مسار متعرج بلا شك) من قيود الطائفية يشكل أيضاً الشرط الضروري لاستقامة المطالبة والنضال من أجل العدالة الإجتماعية والديموقراطية الحقة العابرة للطوائف والمناطق والتشكيلات الأهلية الأخرى.
Leave a Comment