كتب زكــي طــه
بين جائحة كورونا وجائحة المنظومة السياسية يترنح البلد في الطريق للارتطام بقعر الهاوية، حيث لا أفق مرئي للنجاة من مخاطر الوباء القاتل، وقد دخلنا في المحظور الكارثي، ولا بصيص أمل في انقاذ البلد، ووقف تسارع كوارث الانهيار المريع. أما من هم في مصاف المرجعيات والزعماء والقادة من أهل المنظومة الحاكمة والمتحكمة باللبنانيين، فقد تحولوا إلى أبواق نعي للبلد والنظام والدولة في آن.
على صعيد الوباء بلغت الاصابات أرقاماً قياسية وضعت لبنان في طليعة بلدان العالم لناحية معدلات الانتشار (الرقم 3 بالقياس إلى عدد السكان بعد اميركا وروسيا). وبلغ الاستهتار في التعامل مع الوضع الصحي من قبل المسؤولين مستويات غير مشرّفة انسانياً ووطنياً لأيٍ منهم. هذا ما تؤكده توصيات وقرارات المجالس والهيئات المعنية بالقطاع الصحي الذي بلغ مرحلة العجز عن القيام بدوره، وتحمّل مسؤولياته في مواجهة الوباء، ما يشكل جريمة تطال الحقوق الانسانية للبنانيين والمقيمين على السواء.
وبناءً لذلك، فإن مواجهة الوباء وتأمين معالجة المصابين واستيراد اللقاح، أضيفت عملياً إلى ملفات الانهيار الشامل الذي يعصف بالبلاد والعباد. في ظل استحضار قضايا الكيان والنظام، وتجاوز الاوضاع الاقتصادية والمالية والصحية، في معركة تقاذف المسؤوليات حول تعطيل تشكيل الحكومة وقد بلغت مرحلة الافصاح عن سعي العهد للانفراد بالحكم واستئثار تياره بالسلطة بذريعتي الصلاحيات وحقوق المسيحيين، وانكار دور الرئيس المكلف ومحاولة ابعاده. ما أضاف أزمة جديدة ضاعفت تعقيدات التشكيل المؤجل أصلاً للحكومة والمرتهن لنتائج المواجهات المتفجرة في المنطقة وحولها.
ورغم أن السجال المحتدم لا يقع في إطار الحوار الوطني لمواجهة الأزمات ومعالجة المشكلات إنقاذا للبلد، إلا أنه ليس غريباً على اللبنانيين أو مستجداً بالنسبة لهم. لأن تاريخ البلد الحديث هو تاريخ أزماته وصراعات قواه الحاكمة وما يرافقها من سجالات عاصفة، تعكس مأزق المواقع الطائفية وتياراتها الفئوية، ما أبقى لبنان ساحة للصراع وتبادل الرسائل، باسم الوطنيات المتعارضة والمتناقضة تبعاً لوجهة نظر كل منهم، لأن ما يخالفها لدى الآخرين مشرّع على الإتهام بالخيانة والعمالة.
وعلى ذلك لا يعود مفاجئاً أن يكون لكل طرف “هويته الوطنية الخاصة” ومشروعه السياسي لصيغة نظام الحكم، وتوجهاته في ميادين الثقافة والاقتصاد والاجتماع، ما يترتب معه شبكة حقوق ومصالح تستحق “النضال” من أجلها بشتى الوسائل ومهما بلغت الأكلاف. وهذا ما يبرر إقامة التحالفات المؤقتة والظرفية في الداخل، ويستدعي ترسيخ علاقات كل طرف مع خارجه. وهي العلاقات الموزعة بين الموروث والمستجد والطارىء اقليمياً أو دولياً، كما هو الحال الآن، أو كما عرفته تواريخ الجماعات وتاريخ الكيان.
وفي هذا السياق فإن الجاري بين اطراف السلطة المأزومة ليس بالأمر الطارئ، وليس افتعالاً أيضاً استحضار المحطات السابقة، بكل ما يحتشد فيها من صفحات تُصنف مجيدة لطرف أو مؤلمة ومأساوية لآخر، لأنها جميعها موصولة بأزمات الكيان والنظام المقيمة والمرشحة دوماً للاحتدام أو الانفجار عند كل اختلال في توازنات قوى الداخل أو الخارج. والانفجار يطال الاشكاليات المتعلقة بالهوية الوطنية في ظل الهويات الطائفية، ومشكلات الأكثريات واشكالية الاقليات وموروثاتها الاجتماعية في إطار نظام المحاصصة، مما يضع الكيان أمام تحديات واسئلة مصيرية تتصل بتاريخه ودوره وموقعه وعلاقتة مع المحيط وازماته. وذلك بالتوازي مع تصاعد أزمة النظام بالنظر لطبيعته وآلياته الناظمة لعمله المولّدة للأزمات والصراعات على المواقع والنفوذ، بما يمكّن مختلف الاطراف من تجديد بُناها وأدوارها، ويُبقي البلد وأوضاعه العامة عند حدود المهزلة والمأساة في آن، باعتباره ساحة مأزومة ومشرَّعة على شتى المخاطر، تبعاً لخيارات ومشاريع القوى الرئيسية وخاصة المتحكم منها بأوضاعه كما هو الأمر راهناً.
لكن المختلف والأخطر عما سبق من محطات وتجارب في لبنان، هو طغيان الادوار والعوامل الاقليمية والدولية الخارجية، واستسلام قوى الداخل المستندة للانقسامات الاهلية. وما ساهم في فقدان الحد الأدنى من المناعة امام الخارج والحصانة في مواجهته، غياب الحاضنة العربية، سواء بما هي كيانات وطنية حصينة، أو مصالح مجتمعية موصولة بمشروع نهضوي فشل وانهارت قواه تحت وطأة الاستبداد، وما تبقى منها يجرجر عجزه عن المراجعة والتجدد بُنى وبرامج. وقد باتت معه البلدان العربية ساحات مستباحة، كيانات وطنية ومجتمعات اهلية، من قبل الخارج الاقليميي والدولي. وهذا هو الذي سهّل للنظام الايراني، العبث ببُنى بلدان الجوار مذهبياً، واستغلال أزماتها المتفجرة لتاسيس ميليشيات تابعة، سرعان ما تحولت مواقع نفوذ له. وفي موازاة ذلك وجد اردوغان الرئيس التركي الأصولي فرصتة المؤاتية للتدخل وفق ذات الأهداف والأسس المذهبية. لكن التنافس الايراني – التركي على تقاسم النفوذ في شتى ساحات المنطقة، ساهم في تدمير ما تبقى من مناعة قومية أو وطنية، وأسقط الحُرم لدى بعض الأنظمة بشأن العلاقة مع العدو الاسرائيلي، واستسهال التطبيع معه بذريعة الحماية من الخطر الايراني أو التركي. بينما تبقى الرعاية الاميركية لما يجري في المنطقة السقف الذي يظلل مختلف الادوار، حيث الثابت الاستراتيجي الوحيد هو الاسرائيلي. أما الفارسي والأعجمي والعربي فلا فضل لأي منهم على الآخر إلا في مدى اتصاله وارتباطه بالمصالح الاميركية.
على ذلك فإن قراءة حيز وحدود العوامل الداخليه بشأن الانهيار السياسي والاقتصادي المالي، وتحلل قوى الحكم المشلول من المسؤولية والامعان بتصعيد نزاعاتها وسجالاتها العدائية إلى الحد القصى، والاستهانة بمصير البلد وأهله، يتطلب وضعها في سياق خيارات ورهانات تلك القوى وارتهان بعضها وارتباطه بالمواجهات الدائرة في الإطار الاقليمي المحيط، مما يسهل معه تنسيب تفاصيل أدائها ومواقفها إلى خانات ساحات احتدام المواجهة الايرانية – الاميركية وتقدم الدور التركي، والاختراق الاسرائيلي المتحقق. في موازاة اهتراء الوضع العربي وانعدام دوره وتآكله ومحاصرة القضية الفلسطينية، في ظل الادارة الاميركية للحروب المتفجرة في المنطقة، واستراتيجة الاخضاع ونهب الموارد الثابتة لدى كل العهود.
أمام استباحة الخارج والعبث بسيادة لبنان وأمنه واسترهانه، وبين الاستهانة بمصيره من قبل مرجعيات وسلطات الامر الواقع الميليشياوي بقوة الحكم أو السلاح والصواريخ، حيث يتجاهل اصحابها تهديدات قادة العدو وهدير طائراته في سماء لبنان ودوي انفجارات غاراتها في الجوار. وبينما تستمر معارك تقاذف المسؤوليات عن التعطيل وتبادل الشتائم وتهم الخيانة والتنصل من الفساد والارتكابات، يقف اللبنانيون المحاصرون بالمخاطر في شتى مناحي حياتهم وصحتهم ومعيشتهم وأمنهم، وحيدين كونهم دون سواهم معنيون بالانقاذ ووقف الانهيار وحماية حقوقهم وانتزاع مطالبهم. ولذلك فإن الخيار الوحيد المتاح أمامهم هو المبادرة لتحمل المسؤولية وتنظيم اشكال المواجهة بعيداً عن الأوهام وانتظار حلول ومعالجات لن تأتي على يد الآخرين..
Leave a Comment