اقتصاد

الجزء الثاني من تقرير صناعة الالبسة الجاهزة في لبنان : من ماضي الازدهار إلى واقع الإندثار

إعداد ـ جمال حلواني

مشاكل أرباب العمل

تتضافر عوامل متعددة أمام أرباب العمل في قطاع الألبسة الجاهزة في البلاد، وكل واحدة منها تمثل عقبة تحول دون عودة القطاع إلى سابق عهده. أبرز هذه المشاكل هي:

  • انقطاع التيار الكهربائي واضطرار هؤلاء لشراء مولدات كهربائية، مع ما يرتبط بها من قطع غيار ومحروقات وصيانة وأكلاف.

– التصدير إلى الخارج، إذ تحتاج أي عملية تصدير إلى براءة ذمة من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وكذلك الانتساب الى غرفة الصناعة والتجارة. وكلاهما لم يتوفرا لأكثرية المعامل التي لا تملك تراخيص أو سجل تجاري.  ولا يريد هؤلاء الحصول على السجل كونه يضطر صاحب العمل للانتساب للضمان الاجتماعي ودفع ضريبة القيمة المضافة لوزارة المال. ويتهرب هؤلاء من التسجيل في الضمان وبالتالي اعطاء عمالهم تعويضات نهاية الخدمة، بحجة ان وضعهم غير قانوني.

 وتعمد المصانع التي كانت تصدر بضائعها إلى الخارج ولا تملك الرخص القانونية إلى شراء رخصة والتواطؤ مع الجمارك، لقاء مبالغ مالية في عملية تحايل علي القانون. كما أن قسماً من الإنتاج يهَّرب إلى سوريا ومنها الي العراق براً، وبحراً الي مصر.

  • ارتفاع بدلات الإيجار أو عمليات استثمار مساحات عقارية لإقامة مصانع، ما يجعلها لا تتناسب مع كلفة الانتاج بحيث يستطيع تحمل عبء هذه الأكلاف.
  • ارتفاع أسعار الكهرباء الصناعية بعد أن جرى سحب الساعات الصناعية الكهربائية  المدعومة من الدولة للمصانع والمعامل. ويقود الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي للاعتماد على المولدات مع أكلافها المرتفعة.
  • عدم وجود مصرف للقروض الصناعية، وهذا المطلب عمل عليه صناعيو القطاع مع جمعية الصناعيين. لكنه لم يتحقق خلال العقود المتلاحقة.
  • تعتبر الرواتب وأجور العمال في لبنان مرتفعة بالمقارنة مع رواتب الصين وسوريا وتركيا ومصر أيضاً. فعامل ماكنة الدرزة اللبناني كان يتقاضي راتباً مقداره 800 دولار، بينما العامل نفسه في مصر يتقاضى 100 دولار، وهو ما يؤثر على القدرة التنافسية للمنتج الوطني.

إزاء هذه المشكلات وسواها انتظم ارباب العمل في جمعيات اكبرها كانت جمعية  صناعيي بيروت والشمال. في هذا الوقت بالذات حدث توجه ملفت لعدد من الصناعيين نحو الصين بالنظر لرخص أسعار المواد الأولية ولكلفة الانتاج المتدنية بما يعادل65% بالمقارنة مع كلفة الانتاج المحلي. وكذلك بدأت في دمشق وحلب في سوريا صناعة ضخمة ومعامل كبيرة. فمثلاً في حلب نشأت معامل طاقتها 400 ماكنة، بينما أكبر معامل بيروت لا تتعدى طاقته 70 ماكنة. وتكرر الأمر في تركيا حيث كلفة الانتاج ارخص من مثيله اللبناني بكثير.

استيراد وتصدير ومصارف

يشهد السوق اللبناني تنافساً على أشده بين صناعات الصين وسوريا وتركيا والهند وبنغلادش وفيتنام. وكانت القوانين اللبنانية تحمي الصناعة الى حد مقبول خاصة لجهة حماية المنتج المحلي من البضاعة الاغراقية، لكن هذا استمر لغاية سنة 2002. بعدها تعرض السوق المحلي لتوسع في الاستيراد مترافقاً مع التراجع عن الحمايات السابقة. فخلال سنة 2014 مثلاً وصل المستورد إلى 48 الف طن بكلفة بلغت 592 مليون و902 ألف دولار اميركي.

وبالمقارنة مع عملية التصدير من الالبسة ومشتقاتها تتبين الهوة الواسعة، فقد بلغت فقط قرابة 4 الاف طن وبكلفة تقدر بـ 94 مليون و426 ألف دولار وهذا تدل عليه احصاءات جمعية الصناعيين.

وتطرح هذة الارقام حدة الأزمة التي تتمثل بانخفاض الانتاج بشكل ملحوظ الذي عبر عن تراجع عدد المصانع. وهو مسار بدأ مع التخلي عن حماية الصناعة اللبنانية بعد العام 2000 وموافقة الحكومة اللبنانية علي اتفاقية التيسير العربي التي ألغت الرسوم الجمركية عن استراد الملابس. علماً أن ضريبة الاستيراد على المواد الاولية هي 5%  فقط، وعلى الألبسة الجاهزة 12% فقط، فيما كان مطلب الصناعيين أن ترتفع الرسوم على الملابس الجاهزة إلى 50%. هذه المنافسة الضارية والعجز عن مجاراة ما تشهده الأسواق القريبة والبعيدة، ضاعف من مخاطرة القروض من البنوك التجارية بفوائد مرتفعة. حتي أن كثيراً من اصحاب المعامل اضطروا في كثير من الاحيان إلى بيع شيكاتهم المؤجلة الدفع للصرافين أو الشركات المالية بعمولة تفوق 20%، أو الاستدانة من المرابين بفؤائد مرتفعة جداً تناهز 30% لتسديد ما عليهم من مدفوعات. وإزاء التعسر باتت العديد من المصارف ترفض اقراض معامل الخياطة بحجة ارتفاع نسبة المخاطر في هذه المعامل، ما دفع بالكثير من أرباب العمل إلى رهن العقارات التي تقوم عليها مصانعهم. حدث ذلك بتوجية من البنك المركزي نفسه.  

وكانت المفارقة مثلاً أن عامل في معمل للخياطة يستطيع أن يحصل على إفادة عمل كضمانة قرض لشراء سيارة من البنك، فيما صاحب العمل الذي أعطى الإفادة في حال طلب قرض لمؤسسته لشراء سيارة يأتيه الجواب بالرفض لأن مخاطر مؤسسسات الخياطة كبيرة.

لكن في العام 2003 كانت الضربة القاضية، ففيها ألغيت الوكلات الحصرية والكوتا، أي تحديد مقادير كميات البضائع المستوردة من الخارج، ما قاد إلى إغراق الاسواق بالبضاعة الصينية الرخيصة التي كانت تُستورَد على أنها (بالة) ثياب مستعملة، والرسوم الجمركية عليها بسيطة، وعندما توضع في الأسواق تكون أسعار بيعها بالمفرق أعلى من مثيلتها اللبنانية بالجملة.

 وفتح إلغاء الكوتا البلاد على مصراعيها، حيث أن تجاراً لبنانيين كانوا يستوردون لحسابهم بضاعة هي لتجار خليجيين استنفدوا الكوتا المحددة لهم في بلدانهم. وكان التجار والصناعيون اللبنانيون يعمدون إلى اصدار شهادات منشأ لبنانية، ويعيدون تصديرها إلي الخليج. وهذا كانت له  تأثيرات مزدوجة علي الصناعة اللبنانية، أولها أن السوق الداخلي غرق في بحر من المنتج الصيني الرخيص. وثانيها تحويل البضاعة الصينية عبر إعادة تصديرها إلي السوق العربي إلى بضائع لبنانية مزورة، مما حرم معامل لبنان من تصريف انتاجها من جهة، وإلحاق الأذى بسمعة المنتج اللبناني المطلوب منجهة ثانية.

أدى هذا الوضع إلى اقفال عدد كبير من المعامل التي تنتج بضاعة شعبية، حيث كلفة المنتج اللبناني بالمفرق بات ضعف سعر المنتج الصيني المماثل مع ربح التاجر وصاحب المحل.

   ودخلت المنتجات السورية على الخط وأخذت تنافس الصين في السوق العربي. وكانت مصانع حلب تنتج عشرات الاف قطع الألبسة، نظراً لأن تكاليف السفر والاقامة في سوريا رخيصة بالمقارنة مع الصين، فضلاً عن قربها للدول العربية ما يوفر الوقت والمال

وهكذا جذبت سوريا تجار الخليج، وتحديداً بضاعتها الشعبية ذات الأسعار الرخيصة، مع ذلك بقيت معامل لبنان تنتج ألبسة بنوعية وجودة عالية وحافظت على حصة من السوق. وبالنظر لنوعية المنتج اللبناني وجودته تحول إلى مصدر للعينات التي يقلدها التجار العرب واللبنانين في المصانع الصينية، يشترونها بالمفرق ويقلدونها ثم يعيدون استيرادها إلى السوق اللبناني. ما يعني أنه يصبح لديك ذات المنتج، لبناني بسعر مرتفع، وآخر صينى بسعر أرخص، ما كان يؤدي إلي كساد المنتج اللبناني لفارق السعر، علماً أن المنتج اللبناني ذو جودة عالية بالمقاييس الاوروبية.

استمرت مشاكل القطاع في التازم لجهة ارتفاع سعر الكهرباء وعدم حماية الصناعة اللبنانية فرض ضريبة جديدة(القيمة المضافة)، كل هذه شكلت عبئاً اضافياً على المعامل وعلى تجار المفرق… يتبع الجزء الأخير.

Leave a Comment